حمزة المصطفىصفحات سورية

عن ميثاق الشرف السوري مجدداً/ حمزة المصطفى

 

أمر غريب ادعاء بعضهم أن  ميثاق الشريف موجه للخارج وللرأي العام الغربي، وليس للسوريين، وكأن هذه المهمة “خطيئة”، وليست ضرورة ملحة في ظل الاختراق الكبير الذي حققه النظام إعلامياً في الخارج”

يحار المرء عندما يتعمق في حيثيات المشهد السوري، بشقيه الثوريّ والمعارض. فعلى الرغم من أن الثورة لم تنتصر بعد، ولم يسقط النظام، ولم يظهر نظام جديد، ونخبة حاكمة جديدة، إلا أن الاستقطاب الفكري والأيديولوجي والحزبي والسياسي بين الفرقاء السياسيين والنخب الفكرية والثقافية على أشدّه، إلى درجة نسي بعضهم خصمهم الرئيس (أي النظام)، والتفتوا إلى جزئيات خلافاتهم مستذكرين التاريخ، ومستحضرين المستقبل، ومستقوين بالغلبة، أكانت على الأرض عسكرياً، أو بالمناخ الإقليمي والدوليّ.

لطالما ردّدنا، ومنذ بداية الثورة السوريّة، أن أزمتنا الماضية، والحاضرة، والمستقبلية هي “أزمة نُخب”، فالشعب أنجز بما يفوق طاقته، انتفض سلمياً لأشهر، تحمل الرصاص بصدور عارية، طالب بالتغيير وقدّم التضحيات، تحول إلى الكفاح المسلح بدائياً، لحماية نفسه، قبل تبني هذا الخيار خياراً رئيساً لتحقيق التغيير. عاش التشرد واللجوء والنزوج والضيم والعنصرية، لكنه لم يستلسم أو يتراجع. أما النُخب، على تصنيفاتها وأشكالها، فأدت دوراً سلبياً في اللحاق بخيارات الشعب، وليس توجيهه وضبطه وتأطيره. عندما كان شعار إسقاط النظام يملأ الميادين، كان نقاش النخب ينحصر في سؤال بسيط؛ هل نؤيد الثورة، أم نقف ضدها، أم نتريث؟ وتعاقبت، خلال عمر الثورة، الأسئلة الساذجة والبسيطة كتلك؛ هل نؤيد العمل المسلح؟ هل نؤيد التدخل الخارجي؟ هل نؤيد وجود فصائل إسلامية؟ .. إلخ.

وفي وقت كانت تطول فيه النقاشات، وتتعارض فيه الأجوبة، كانت الثورة تخوض مساراتها المختلفة، وتفاعلاتها المجتمعية المختلفة. وبغياب مشروع وطني، وإطار سياسي وعسكري موحد، ازدادت انحرافات الثورة، وغاب التوجيه والتصحيح. فالاستقطاب الفكري ضمن الصالونات، والابتعاد عن الالتصاق بالشعب الثائر وآلامه، فتح الباب لمن يرغب بملء الفراغ السياسي والأمني والإغاثي من فصائل إسلامية، وحركات جهادية، وهيئات خارجية.. إلخ، امتلكت القدرة النسبية على توفير السلاح، وتأمين الاحتياجات الأساسية في المناطق التي تتوطن وتستقر بها، حتى أصبحت قوة فاعلة، اختلفنا أو اتفقنا معها.

لم تنتبه النخب السورية إلى مسألة مهمة، بديهية، أنه بعد انكشاف غطاء الاستبداد، وغياب سلطة الدولة (القوة)، يخرج المجتمع في تفاعلاته أفضل وأسوأ ما فيه من ظواهر؛ وبأن مهمة النخب تنحصر في محاولة احتواء الظواهر السيئة المتوقعة، وتقليص تداعياتها وتأثيرها. بيد أنه، وفي الحالة السوريّة، لم تعِ النخب وظيفتها التوفيقية والإصلاحية، واتخذت مواقف راديكالية، لا تتعامل مع الواقع كما هو قائم، في محاولة لإصلاحه وتغييره، بل ما كان يجب أن يكون (المتخيل). هذه المعضلة كانت حاضرة في كثير من محطات الثورة، ولعل الموقف من ميثاق الشرف الذي أصدرته فصائل إسلامية وثورية أبرز صورها الحديثة.

يعتبر كتاب سوريون، في تعليقاتهم على ميثاق الشرف، أن بعض الموقعين عليه “بلا شرف”، ويعتبره آخرون “مفروضاً” من قوى خارجية. أما الأمر الغريب فيتجلى في ادعاء بعضهم أن هذا الميثاق موجه للخارج وللرأي العام الغربي، وليس للسوريين، وكأن هذه المهمة “خطيئة”، وليست ضرورة ملحة في ظل الاختراق الكبير الذي حققه النظام إعلامياً في الخارج.

كُتب كثيراً عن ميثاق الشرف، سلباً وإيجاباً. وفي الحالتين، كان التموضع السياسي والخلفية الفكرية والأيديولوجية والمواقف الشخصية الدافع والحاضر في سطور ما كتب، نقداً أو ترحيباً. يمكن القول، ومن وجهة نظر محايدة، إن الميثاق يركز على مبادئ أساسية، تتقاطع مع مبادئ الثورة السوريّة وأهدافها، كالحرية والكرامة والعدالة، ويتبنى مواقف واضحة من تنظيمات واضحة كـ”داعش”، لكنّ عباراته يشوبها غموض كثير، لاسيما الموقف من قضايا جوهرية كالديمقراطية، حكم الشعب، وشكل الدولة وغيرها .. إلخ.

قد يكون من غير المنطقي، وإذا ما أخذنا عامل الوقت والظروف الموضوعية اللازمة لإحداث المراجعات الفكرية والسياسية، اعتبار الميثاق “شكلياً” أو “ظرفياً”، فمطالبة قوى وفصائل تتبنى الفكر السلفي الجهادي، وكانت، قبل فترة وجيزة، تنادي بالخلافة والدولة الإسلامية بتبني “مدنيّة” الدولة، أو “علمانيّتها” هو أمر غير واقعيّ في الراهن، ويبدو طرحاً خيالياً. فإقرار الميثاق من بعض الفصائل، كالجبهة الإسلامية، عرّضها لنقد ومزوادة كثيرين في الأوساط الجهادية، ما حدا ببعض مكوناتها، كجيش الإسلام، إلى التلميح بإمكانية “تعليق” عضويته في الجبهة.

انطلاقاً من ذلك، يحسن الترحيب بهذه الخطوات، وتشجيع الفصائل على مزيد من المراجعات الفكرية والسياسية، بدلاً من الرفض المسبق، والتشنج في الاتهامات والتشكيك، الأمر الذي يعزز من حالة الاستقطاب في معسكر الثورة، ويخلف تداعيات سلبية، قد تطيح آمال التغيير الديمقراطي، كما جرى في تجارب حاضرة، كالتجربة المصرية. وللأسف، يزداد الاستقطاب، ويتسع الشرخ بين قوى الثورة، لتبدو “خلافاتها” ترفاً فكرياً، في ظل الدمار والأنقاض والدم.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى