صفحات مميزة

عن وراثة الخيبة بعد الثقافة والواقع والحداثة/ سامر فرنجية

 

أعاد تعثّر الثورات العربية وتخبّطها، لا سيّما السورية، طرح مسألة علاقة السياسة بالثقافة كمدخل لرواية الخيبة الراهنة وقصور التحليلات التي أدّت إليها. وكان مفاد تلك الرواية تأكيد أنّ مشاكل المشرق العربي ليست سياسية الطابع، أي أنّها ليست مسألة نظام وأحزاب وأفكار وتنظيم، بالتالي ثورة، بل تتعداها لتطاول أسس المجتمعات وبيئتها الثقافية والدينية والاجتماعية. لذلك، فأي كلام يستثني هذا العمق الثقافي هو مجرّد ضرب من الأيديولوجيا، وفق هذه المقاربة، لا ينتج إلا الخيبات ومن ثمّ «داعش»، هذا الوحش الثقافي الذي تجاهله دعاة السياسة في رغباتهم التي تنتظر الثورة.

انتشرت ثنائية الثقافة والسياسة كلغة للتعبير عن الخيبة في السبعينات من القرن العشرين، إذ شكّلت إحدى الروايات لتفسير فشل المنظومة القومية واليسارية التي كانت سائدة آنذاك. ففي وجه تعثّر الأنظمة «التقدّمية» ومن ثمّ هزيمتها في ١٩٦٧، طُرِحت مسألة «الثقافة» كبعد مفقود في منظومة فكرية اعتمدت أساساً على السياسة والاقتصاد كمفتاحين للتقدّم والتحرّر. غير أنّ الثقافة آنذاك لم تكن في مواجهة السياسة، بل شكّلت امتداداً لها وتوسيعاً لنطاق عملها. فإلى جانب السياسة والاقتصاد، بات من الضروري إصلاح الثقافة أيضاً لاستكمال عملية التحرّر والتقدّم، وهذا بعدما فُسِّر فشل الأنظمة بتقاعسها في تغييرها.

بيد أنّ سقوط هذا المشروع أعاد تركيب علاقة الثقافة بالسياسة من امتداد إلى تناقض، وتحوّلت الثقافة إلى معيار يحدّ السياسة وطموحاتها، محذراً من خطورة المسّ بمجتمعات لم تؤهّل بعد للغوص في السياسة وتعقيداتها. بكلام آخر، أصبحت «الثقافة» لغة الخيبة التي نعى من خلالها جيل مشاريعه التحرّرية، ومن ورائها السياسة بأكملها. فالسياسة، بمنظور رواية الخيبة هذه، مجرّد غطاء ركيك لكثافة اجتماعية كامنة تحت السطح، تطفو عليه إذا تمّ تغيير أي من أسس النظام الراهن، أياً يكن هذا النظام. فأية حركة كفيلة بتحريك بركان الثقافة ليقضي على الحركة والمحرِّك والمحرَّك به ومن يجاورهم. المفقود الذي نُعِي تعدّى مشاريع سياسية معينة ليصبح أي فعل سياسي، بحيث باتت له نتيجة واحدة، هي الخراب، أو ما يسمى اليوم «داعش».

تطورت هذه الثنائية إلى جانب مقولة أخرى، ظهرت في الوقت ذاته، وهي فكرة «الواقع» التي وُضِعت في مواجهة الأيديولوجيات السائدة والبائتة. ففي وجه يسار مؤدلج أو قومية وهمية، رُفِع الواقع إلى مثابة معيار تُعيّن من خلاله النظريات والأفكار. غيرّ أنّ هذا الواقع لم يشكّل منطلقاً لسياسة مختلفة، لكونه بتعريفه نقيضاً لأية سياسة، إنّ لم يكن مقبرة لها ولطموحاتها. فالواقع، كالثقافة، اشتغل كفكرة سلبية، تدمج في آن بين استحالة السياسة وسبب وجودها الوحيد: الواقع المطلوب تحديثه من جانب السياسة سبب استحالتها. وما أنتجته هذه المعادلة هو فن رثاء لجيل ومرحلة وقرن وتاريخ.

قد تكون الحداثة ومسألة إعادة اكتشاف التنوير العنوانين العريضين لتحوّل الثقافة والواقع من اعتراض «سياسي» على السياسة إلى خروج عنها. وحوّلت هاتان الفكرتان مسألة السياسة إلى عملية إصلاح ثقافي وتقدّم اجتماعي، يعاد البحث عن جذورها في صور نمطية للنهضة العربية. اشتغلت إذاً الثقافة والواقع والحداثة، بعد سحبها من قالبها السياسي، كبديل من السياسة، لا تنتظم مكوناته إلا في نموذج التسلّط التنويري، كما يجري اليوم في مصر. وباتت الحداثة في هذا التصوّر أقرب إلى ورقة نعي نظرية، رثت من خلال تحليلاتها مجتمعات بأكملها. وبدأ البحث عن وعي ثقافي لإنهاء حالة الحداد، لا يمكن أن ينتجه واقع معدوم أو تاريخانية معطّلة أو غرب ما بعد حداثي أو سياسة عقيمة.

ومهما تمّ إصلاح هذا الوعي، سيبقى الهدف البعيد المنال لكونه نتيجة صورة مثالية عن حداثة لم يعد لها أثر إلا في بعض الكتب الموروثة من حقبة التحديث في الخمسينات. إنّه بحث عن تقدّم بات وراءنا للخروج من حالة حداد معمّمة.

ثنائية «الثقافة» و «السياسة»، إذاً، ليست مسألة تحديد أطر التحليل أو نطاق عمله. فالفارق بينهما لا يمكن ضبطه أو تحديده، وهو نتيجة صراعات سياسية وفكرية تعيد إنتاج الفوارق بين مكوّنات الفكر. الإصلاح الديني، مثلاً، سياسي كما هو ثقافي، والانتخابات ثقافية كما هي سياسية. فالثنائيات غالباً تشكّل محاولة لتثبيت التاريخ وتجميده، بخاصة عندما لا يُضاف إليها مكوّن ثالث، يكسر ثباتها.

الفارق بين قطبي تلك المعادلة ليس معرفياً، بل هو بين مقاربة تتمسّك بالظرفي والممكن والمتصارع عليه، وأخرى تقرّ بالحتمي والمستحيل والمفقود الأمل منه. «داعش» نتيجة الثورات وفشلها، وفق المقاربة السياسية، لكنّ حقيقتها حتمية وفق الرؤية الثقافية. بكلام آخر، قطب السياسة في هذه الثنائية هو تمارين على الخسارة بإسم الممكن، أما الخيار المقابل فهو تأكيد حالة الحداد على رغم الممكن. الخلاف، بهذا المعنى، هو حول صلاحية ورقة النعي التي باتت إرث الحاضر الوحيد.

السياسة ليست استكمالاً للصراع في وجه الانسداد أو بحثاً عن الأمل خارج أي واقع. لا أحد محكوم بالأمل، والهزائم جزء من قاموس السياسة، إن لم تكن مكوّنها الأساسي. فشلت الثورات وخسر من آمن بها، هذا ما أنتجته السياسة في السنوات الماضية. ولكن مهما آلت إليه الأوضاع، من الصعب العودة عن حدث الثورات وتجسيدها لفكرة الممكن. وهذا ما يطرح تحدياً على مَنْ ليس معنياً بالراحل الذي نعته الثقافة، وهو البحث عن لغة مختلفة لرواية الخيبة، لغة تنطلق من الخسارة كمدخل للممكن، بات اليوم إحدى التجارب المؤسسة لجيل الثورات.

قد تكون «وراثة الخسارة» أمراً حتمياً، غير أنّ روايتها ومضامينها مسؤولية الورثة، إن لم يريدوا السير في جنازتهم.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى