صفحات سوريةمعتز حيسو

عودة السياسية إلى المجتمع السوري

معتز حيسو
عندما هجر المواطن السوري العمل السياسي، ليبقى مرهوناً بنخب سياسية محددة، أبقى الباب موارباً. فمن ناحية أقام قطيعة مع القوى السياسية نظراً لقناعته بعدم جدوى العمل السياسي فيها نتيجة لأسباب متعددة منها: عجزها عن تمثيل مصالح وأهداف القوى الاجتماعية المتضررة من تناقضات النظام السياسي وتحرير الاقتصاد، عجزها عن تجاوز التناقضات الاجتماعية السياسية والاقتصادية عبر إيجاد آليات وأشكال عمل تساهم فعلياً في تمكين الحياة السياسية.التناقضات والإشكاليات التي تعاني منها بقايا القوى السياسية، هامشيتها وعدم قدرتها على التأثير في الأوساط الاجتماعية…إن جميع هذه العوامل تندرج في سياق الأزمة الذاتية. أما المستوى الموضوعي فإنه يتجلى في تغييب المناخ والبيئة المناسبة للعمل السياسي، طبيعة النظام السياسي الأحادي الإقصائي الأمني …. .من ناحية ثانية أبقى المواطن السوري على ارتباطه بالشأن السياسي وبعض القضايا العامة،لإرضاء ذاته وتنميتها، ومن أجل التواصل مع الوسط المحيط، لأن الممارسة السياسية بحدودها الدنيا( التفكيروالحوار..) تشكل أكسير الحياة للمواطن السوري،حتى لو لم ينتمي لأي جهة سياسية.أما انتساب هذا الكم الكبير إلى حزب البعث العربي الاشتراكي،فلهو أسبابه الكثيرة،وليست جميعها قائمة على القناعة بالعمل الحزبي أو بأهداف الحزب، بل لضمان فرص العمل والتعليم،وفي كثير من الأحيان لدوافع انتهازية…ومن أجل اتقاء متابعة وتهديدات الأجهزة الأمنية التي لا تقف ولا تنتهي عند حد معيّن….. ومع التباشير الأولى للثورات العربية بدأت ملامح الذاكرة السياسية تستعيد ألقها في ذهن المواطن السوري وتحديداً الشباب. لكن من اللافت بأن الانتفاضة الشعبية التي لم تستنهضها القوى السياسية التقليدية، كان دافعها الأساس كرامة الإنسان وحريته المهدورة التي تقاطعت مع غياب العدالة والمساواة التي تجلت من خلال ارتفاع معدلات الفقر وزيادة الاستقطاب الاجتماعي نتيجة تبديد الثروات الوطنية واحتكارها من قبل فئة قليلة من الإثرياء الجدد، وترافق هذا مع تحوّل الفساد إلى ظاهرة اجتماعية عامة،وإلى لغة وثقافة اجتماعية سائدة، يقتضي تجاوزه العمل على إعادة بناء المنظومات الثقافية للمجتمع بشكل كامل،وعلى أسس جديدة،أولى ملامحها يجب أن تتعين من خلال الاشتغال على تحديد المقدمات الديمقراطية السياسية والاجتماعية اللازمة والضرورية لبناء المجتمع.
لذا فإن العودة الفعلية للسياسة إلى المجتمع،ارتبطت بالنهوض الشعبي ضد الظلم والاستغلال واحتكار السلطة…لكن انكفاء القوى السياسية، وعدم قدرتها على التعبير عن حاجات الشعب السوري الطامح إلى التغيير، كان له انعكاسات سلبية على الحراك الشعبي، ليس فقط بسبب التباينات والتناقضات السياسية بين أطرافها، بل بسبب عجزها عن ضبط وتأطير وتوجيه الحراك الشعبي، إضافة إلى التناقضات والخلافات التي تمركزت وتمحورت في الأطر و المستويات الشخصية القائمة على تضخم الأنا بكافة مستوياتها وأشكالها،والتي تتجلى بداهة برفض الآخر لتصل درجة مناصبته العداء، ويرتبط هذا المستوى مع تخوين الآخر وتكفيره وشيطنته..،على قاعدة تمكّن الثقافة الأحادية السلطوية النافية للآخر والتي تتقاطع مع انعدام الثقة…إن جميع النقاط التي ذكرناها ونقاط أخرى لم نأتي على ذكرها أسست لحالة من العجز و الموت السريري لقوى المعارضة التقليدية، ويتجلى واقع هذه القوى بداهة من خلال عدم قدرتها على التعبير عن مهام اللحظة الراهنة، وبالتالي فإن قدرتها في التعبير عن المهام التي حملتها انتفاضة الشعب السوري بقيت محدودة. ولم يقف تأثير هذه العوامل عند هذه الحدود، بل انعكست بشكل سلبي على الحراك الشعبي وساهمت في تأخير الحسم السياسي الذي يهدف إلى التغيير الديمقراطي، لكن الأخطر هو أن التناقضات التي تعاني منها المعارضة السورية، ساهمت في تعميق التباينات الاجتماعية وحدّة التناقضات السياسية بين الأطراف الفاعلة في الشارع. إن عجز قوى المعارضة التقليدية عن التوافق على برنامج عمل سياسي متكامل، وعن إيجاد آليات عمل مشتركة ساهم في تخلي الشعب المنتفض عن هذه القوى، مما أدى إلى غياب الحوامل المادية لبرامج هذه القوى.هذا الواقع عمّق قناعة الشباب المنتفض بضرورة اعتمادهم على قدراتهم الذاتي، والاستفادة من تجاربهم،ومن خبراتهم المكتسبة من نشاطهم الميداني،وهذا يدلل على أن القيادات الشبابية تشتغل على بناء منظوماتها المعرفية ووعيها السياسي والثقافي من خلال تجاربها الميدانية، رافضة آليات عمل القوى السياسية التقليدية، مما يعني أنها تقطع علاقاتها مع قوى المعارضة التقليدية في سياق بناء وإعادة إنتاج ذاتها.وبقدر ما تشكّل هذه الإنتقالة خطوة في سياق رسم وتحديد أشكال المستقبل السياسي السوري،لكنها بالمقابل تُبقي على المخاوف من سيطرة النزعة الأحادية في التفكير والتوهّم بقدرتها على التفرد بامتلاك الحقيقة المطلقة.ومع هذا فإننا متفائلون بقدرة الشباب على تجاوز نزعة التفكير الإستئصالي الأحادي في سياق بناء الأسس الديمقراطية التي سيشيد على البناء السياسي والاجتماعي المستقبلي.
إن تشتت المعارضة التي تتقاطع مع جملة من التناقضات البينية التي تُعمّق عجزها،إضافة إلى البنية السياسية الأحادية للسلطة المسيطرة و هيمنة الأجهزة الأمنية التي اشتغلت على تجفيف منابع الممارسة السياسة حتى حدودها الدنيا والأولية،إضافة أيضاً إلى شكل ونمط الثقافة الأحادية السائدة..ساهمت في تشكّل وعي شعبي يقوم على تضخم الأنا ورفض الآخر(الفكر الأحادي)إن لم يكن متماهياً ومتطابقاً مع الأنا الذاتية…إن هذه العوامل بالتأكيد سوف تنعكس على تجليات التفكير والممارسة السياسية في اللحظة الراهنة،أي سوف تنعكس سلباً على أشكال وآليات النهوض الشعبي.وهذا يستدعي بالضرورة التأكيد على أهمية تحديد المقدمات الأولية للمشروع الديمقراطي الذي يتجلى بداية في تعزيز الحوار القائم على الاعتراف بالآخر وعلى ضرورة الإقرار بشرعية التباين والاختلاف، لكن دون أن يعني هذا التفريط بحق الشعب السوري بالحرية والعدالة الاجتماعية.
وبما أن الشعب السوري يعيش مخاض ولادة سياسية واجتماعية جديدة، وهو من أعلن انطلاقة ثورته، وليس القوى السياسية التقليدية، وبما أن هذه الولادة ليس لها علاقة بكافة المؤامرات والمخططات والتوازنات الدولية، لأن المواطن السوري يرفض بداهة أي مؤامرة تستهدف النيل من وحدته وسيادته الوطنية على كامل الأرض السورية، مما يعني بأن الانتفاضة الشعبية تشكّل رداً طبيعياً ومنطقياً على التناقضات التي يعاني منها المجتمع السوري، لكنّ هذا يجب ألا يغيّب عن تفكيرنا بأن بعض الجهات والأطراف الدولية توظف النهوض الشعبي السوري لمصالحها. ومن الواضح بأن مصالح بعض الشخصيات المعارضة ومن يدّعي معارضة النظام لمصالح ومنافع شخصية تتقاطع مع السياسات والمصالح الدولية التي تعمل لتأطير وضبط الربيع العربي من منظورها السياسي ومصالحها الاقتصادية.وفي هذا السياق يجب التأكيد على ضرورة عدم تفريط المعارضة السورية بمصداقيتها ووطنيتها التي تتحدد بمدى تمّسكها بالمصالح الوطنية وبدرجة وشكل ومضمون علاقتها بالخارج،و بتمسكها بالديمقراطية بكونها قيمة معيارية…ونشدد على أن كافة الأطراف التي تشتغل على إفشال وإخماد الانتفاضة الشعبية السورية تحاول وضع الانتفاضة السورية في سياق المخططات الخارجية،أو إنها تشكّل غطاءً لمؤامرة خارجية.إن هذا السيناريو يعمل على الالتفاف على انتفاضة الشعب السوري ومطالبه المشروعة،ويغيّب الأزمة العامة والمركبة التي يعاني منها الشعب السوري،والتي شكلّت السبب الحقيقي في انتفاضة الشعب السوري السلمية.
إن انفجار الأزمة السورية بأشكالها الراهنة، كان السبب الحقيقي في إعادة الحياة السياسية إلى المجتمع، وحتى لو كان يوجد لدينا ملاحظات على أشكال وآليات الحراك السياسي والشعبي، وحتى لو تجلت الممارسة السياسية وفق أشكال وعي سياسي متباينة أو غير واضحة المعالم أحياناً، لكنّ هذا التحوّل يؤسس لحياة سياسية مستقبلية، وفي هذا السياق يجب التنويه بأنه إذا كان الربيع العربي يحمل الإسلام السياسي لقيادة الأنظمة السياسية، فإن التدين على المستوى الشعبي ينحصر في مستوى الاعتقاد، وهذا تكفله كافة الشرائع السماوية والقونين الوضعية، أي أن الدين والتدين لم يتحول عند السواد الأعظم للشعب إلى مشروع بناء دولة دينية.لذا فإن وصول الأحزاب الدينية إلى سدة السلطة، لا يعني أنها قادرة على فرض سيطرتها السياسية من منظور ديني أحادي( وفق نموذج طالبان، القاعدة…) على شعب دفع دمه ثمناً لنيل حريته، بل أن التغيير والتحوّل الجاري على المستوى العربي يشكّل مدخلاً لحياة سياسية ديمقراطية،وبذات اللحظة انعكاساً موضوعياً للتركيبة الاجتماعية والسياسية، لذا يجب أن يستفيد الإسلاميون من التجارب الأكثر تطوراً وارتقاءً. إن تمظهر الثورات العربية بالطابع الإسلامي لا يلغي ضرورة تركيز القوى السياسية اليسارية والعلمانية الوطنية العمل على إنضاج هويتها السياسية والمعرفية، وتجذير علاقتها بكافة الفئات الاجتماعية الساعية للتغيير الوطني الديمقراطي.إن التحولات العربية تستوجب منا التأكيد على أن الخطوات الأولى لأي تغيير اجتماعي وسياسي عميق وشامل يمكن أن تواجه صعوبات وعثرات وإخفاقات، لكن شرف المحاولة يبقى على درجة عالية من الأهمية. وهذا يستدعي التمسك بالحد الأدنى للديمقراطية (وحدة الشعب والحرية واستقلال الأرض).
إن حالات التناقض التي يمر بها المجتمع السوري،والتي تتجلى من خلال حالات التنابذ والتقاطع على المستويين الأفقي والعمودي،توضّح واقع المخاض العسير والصعب،لكن المواطن السوري يثبت يومياً قوة إرادته و تصميميه على تحقيق أهدافه بالوسائل السلمية المدعومة بدرجة عالية من الوعي.ونؤكد بأن بعض التجليات السلبية التي تطفو على سطح الانتفاضة،هي نتيجة لتطرف بعض الجهات،و لدفع جهات أخرى تريد إبراز الوجه الطائفي والعنفي للانتفاضة السورية،وأيضاً نتيجة لبروز الكوامن السلبية عند بعض الفئات الاجتماعية التي تحمل بذور الفساد في داخلها.ونعلم بأن هذه العوامل يمكن أن تحرف الانتفاضة عن مسارها الطبيعي.ولكوننا نعلم بأن العنف يولّد عنفاً مضاداً، فإننا نؤكد بأن مظاهر العنف التي نشاهدها لا تعكس طبيعة الشعب السوري، لكن القوة الأمنية التي يتم توظيفها في مواجهة المواطن السلمي تولّد بداهة عنفاً مضاداً، لكن الهدف الأساس لهذا الأخير يجب أن يبقى في سياق الدفاع عن الذات، دون أن يعني هذا عدم وجود حالات مخالفة لذلك.
إذاً عودة السياسية إلى المجتمع السوري تتعمد بدم الشعب السوري، وفي هذه الحالات غير الطبيعة لا تُبرز البنية الحقيقية للمواطن بالقدر الكافي، وليس هذا فقط بل أن زيادة حدة الأزمة، تساهم في الكشف عن الكوامن السلبية والإيجابية التي يختزنها المواطن داخله، مما يعني بأنها تكشف حجم التناقضات التي تعتمل داخل الإنسان، وهذا ليس إلا تعبيراً عن التناقضات الاجتماعية العامة على كافة المستويات. إذاً يمكننا القول بأن الأوضاع الراهنة تمثلّ لحظة انكشاف الإنسان أمام ذاته وأمام الآخرين. وبقدر ما يكون هذا الانكشاف حقيقياً، حتى لو كانت نتائجه على درجة عالية من الصعوبة والضبابية والغموض أحياناً،فإنه يساهم في وضع المداميك الأساسية في بناء مستقبل يكون فيه الإنسان ملكاً لذاته،وليس أسيراً لأي قوة مستبدة وظالمة. ولقناعتنا بأن الاستبداد يمكن أن يتطاول على المستقبل، وبأن الأطراف الخارجية يمكن أن تتلاعب في سياق التغيير الديمقراطي من أجل الحفاظ على مصالحها. فإننا نؤكد على ضرورة الاعتماد على المفاعيل الذاتية. و حتى لو سلّمنا بأن العالم يقوم على التشابك والترابط والتوسطات، لكن جميع هذه العوامل يجب أن يتم توظيفها لخدمة وأهداف الشعب الطامح لنيل حريته وتحقيق العدالة الاجتماعية. فهل ستكون عودة السياسة المعمّدة بدم الشعب السوري، قادرة على تحقيق المشروع الديمقراطي السياسي والاجتماعي….؟؟؟؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى