صفحات الرأي

عود إلى نظرية المؤامرة في الثورات العربية

 


عبدالوهاب الأفندي

خلال زيارتي لعدة دول عربية الأسبوع الماضي، وجدت أن تفسير نظرية المؤامرة للثورات العربية ما يزال مطروحاً بقوة. في الخرطوم تساءل بعض الشباب الذين التقيتهم عن الدور الغربي الظاهر والمستتر في التحركات الشعبية الأخيرة. وقال قائلهم: قد نفهم أن تتفجر ثورة بصورة عفوية في تونس، وربما نتفهم تحولات مصر. ولكن انتقال الثورات إلى معظم الدول العربية انتقال النار في الهشيم، وبالطريقة التي نراها، يطرح أكثر من تساؤل.

في بيروت، طرح المفكر الإسلامي المعروف طارق رمضان المسألة من وجهة نظر أخرى، حين قال في محاضرة ألقاها في العاصمة اللبنانية إن الولايات المتحدة دربت الناشطين الذين لعبوا دوراً محورياً في الثورة المصرية، ولكن الولايات المتحدة لم تكن تسيطر على مسار الثورات. وفي حوار خاص أكد رمضان أن عدداً من هؤلاء الناشطين أبلغوه شخصياً أنهم تلقوا التدريب في الولايات المتحدة، وأصر على أن هؤلاء هم من لعب الدور المحوري في تأجيج الثورة المصرية. وقال إن التدريب تم في صربيا وفي أمريكا ومواقع أخرى. وبالفعل كانت مصادر إعلامية عدة كشفت تلقي بعض الناشطين المصريين تدريباً على التحرك السياسي السلمي المعارض بتمويل أمريكي مباشر أو غير مباشر، وكانت العاصمة الصربية براغ إحدى المواقع لهذا التدريب.

وكان بعض أنصار نظرية المؤامرة قاموا بتوزيع صور قالوا انها تثبت علاقات مريبة بين وائل غنيم، أحد رموز ثورة الشباب، وبعض مراكز القرار الأمريكية. وتضمنت الحملة محاولة لربط غنيم بالحركة الماسونية. جدير بالذكر أن دور الماسونية طرح أيضاً في تعقيب على محاضرة قمت بإلقائها في إحدى الكليات الجامعية في بيروت. وفي مقالة نشرت في الحياة الأسبوع الماضي، ألمح مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الدكتور عبدالعزيز التويجري، إلى مؤامرات وراء ‘تصاعد موجات الاضطرابات والقلاقل، في عدد من الدول العربية، في فترة متزامنة، وبوتيرة متقاربة، بل وبمفردات متشابهة، وكأن هناك مركز تحكم في الاحداث، يضغط على أزراره، فإذا بالأصوات الغاضبة والتظاهرات الصاخبة والأحداث الهادرة، تنطلق في عواصم هذه الدول ومدنها’.

وتفيض صفحات الانترنيت والصحافة العربية بتكهنات لا حصر لها بطبيعة المؤامرة والمتآمرين، وبعضهم ربط بين ما يجري اليوم ومؤامرات سابقة، على رأسها في عرفهم ما عرف بـ’الثورة العربية الكبرى’ التي لعب فيها التحريض والدعم البريطاني دوراً محورياً، وكان الغرض منها تأليب العرب ضد الدولة العثمانية، ولم يحصد العرب من جهادهم ذاك سوى الاستعمار. ولا ننسى هنا الأنظمة العربية، التي كان آخرها تبرعاً بنظرية المؤامرة النظام السوري، الذي يسهل عليه أكثر من غيره الزعم بأن مواقفه المؤيدة للحق العربي ألبت عليه المتآمرين إياهم. سوى أن النظام السوري قد نسي منذ زمان بعيد أن ‘الحق العربي’ يشمل كذلك حق المواطن السوري في العيش بكرامة في وطنه، لا في ‘مستوطنة’ لرجال الأمن وجلاوزة السلطان ممن استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً كما جاء في إحدى اللافتات التي رفعها المتظاهرون في سورية، استعادة لاستنكار عمر بن الخطاب للإساءة لبعض أهل مصر في عهده.

ولكن مزاعم الأنظمة المكلومة بثورة شعوبها تعتبر في ذاتها الحجة ضد نظرية المؤامرة. ويكفي التناقض بين اتهام الأنظمة الموالية لإسرائيل والغرب ‘الخارج’ بأنه المتآمر، ثم المسارعة باتهام الإسلاميين بأنهم كانوا وراء المؤامرة (وليت الإسلاميين كانوا قادرين على ذلك، إذن لقامت الثورات منذ عقود). بل إن المنظر الأممي إياه أفتى، فض فوه، بأن القاعدة هي التي قامت بالثورة في بلاده.

وقد كان لافتاً، كما أوردنا في مقال سابق، أن إسرائيل وأنصارها في الغرب كانوا من المسارعين إلى تسريب ‘وثائق’ تثبت في عرفهم أن الولايات المتحدة دربت قيادات المحتجين وتواطأت معهم في التخطيط للثورة. وعندما يبدأ أنصار إسرائيل للترويج لمؤامرة أمريكية تستهدف العرب وأنظمتهم الرشيدة، فإن هذا في حد ذاته دليل على من هو المتآمر، وما هي طبيعة المؤامرة.

لقد كان الجزع الذي أصاب إسرائيل والقوى المؤيدة لها حول العالم أبلغ دليل على أن الثورات العربية لم تكن في حسبان ‘المتآمرين’، وأنها آخر ما خططوا له. بل إن المنظرين إياهم سارعوا بالتشكيك في الثورات ومآلاتها، فكان هناك من ردد المقولة المستهلكة بأن الثورات ستفتح الباب للتطرف الإسلامي، وأن الفوضى ستعم المنطقة. وقد كانت آية الإبداع ما تفضل به المستشرق المعروف، برنارد لويس، صاحب أطروحة ‘صراع الحضارات’ الذي لم يكتف بالقول بأن الثورات العربية لن تؤدي إلى ديمقراطية، بل أضاف إن أهم أسباب الثورات هو الإحباط الجنسي لدى الشباب!

إن استمرار الحديث عن مؤامرات أجنبية وراء الثورات العربية يعبر عن خلل كبير في الرؤية. صحيح أن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن قد لوحت في فترة ما عن عزمها جعل نشر الديمقراطية في المنطقة العربية إحدى أولويات سياستها الخارجية.

وكان العنوان الرسمي لهذه السياسة ‘مشروع الشرق الأوسط الأكبر’ الذي طرح على قمة الثمان في أتلانتا عام 2004. ولكن القمة التي دعيت لها دول عربية معروفة، لم تقبل هذه التوصية، بل خففتها إلى ما سمي أولاً بمبادرة الشرق الأوسط الأوسع وشمال افريقيا، وعقدت لقاءات عدة تحت هذه المظلة تحت مسمى ‘المنبر من أجل المستقبل’. وقد أخذت دول عربية على رأسها المغرب والأردن والبحرين زمام المبادرة في إطار هذه الشراكة، حيث تعهدت البحرين والمغرب بالإشراف على الجانب المتعلق بإنشاء مراكز إقليمية لدعم رجال الأعمال وتشجيع روح المبادرة الاقتصادية. أما الأردن ومصر فقد عرضا أن يكونا مراكز للتدريب المهني، بينما أصبحت الأردن أول مركز للتمويل الأصغر.

ويلاحظ أن معظم أوجه نشاط المبادرة تركزت على الاقتصاد، بينما أيدت بصورة هامشية بعض أوجه نشاط المجتمع المدني، في مجال حقوق المرأة والتعليم وما شابه. وكانت العملية في شراكة كاملة مع الانظمة وبدعم نشط منها. بل قد شهدنا تنافساً من الأنظمة إياها للفوز بـ ‘عطاءات’ هذا البرنامج، حتى ان دولاً مثل مصر أصرت على أن يتم توزيع الدعم للمنظمات المدنية عبر الحكومة. ولو كانت هذه الحكومات تؤمن بأن هذه المبادرة يقصد منها بحق دعم الديمقراطية، لما تحمست لها هذا الحماس.

ولعلها لم تكن أكثر من مصادفة أن بعض التدريب وقع لبعض الناشطين في إطار هذا البرنامج الكسيح، وأن من هؤلاء من شارك بفعالية في حركات الاحتجاج التي أسقطت الحكومات الموالية للغرب. فهذا لم يكن المقصود، كما أنه لم يكن متوقعاً من أكثر المتشائمين من أنصار الدكتاتورية أو أشد المتفائلين من أنصار الديمقراطية. ذلك أن نفس الجهات التي كانت تمول إرسال حفنة صغيرة من ناشطي المجتمع المدني إلى مؤتمرات هنا، ودورات تدريبية هناك، لا يستغرق أي منها أكثر من أيام معدودة، كانت بنفس القدر تقدم الدعم الأمني والمخابراتي والعسكري للأنظمة المعنية.

فبينما لم يكن الإنفاق على النشاط المدني يتجاوز بأقصى حد بضع مئات الآلاف من الدولارات، كانت مئات الملايين، وفي حالة مصر، المليارات، تنفق على التعاون المخابراتي ودعم الأجهزة الأمنية والعسكرية. وقد لاحظ الجميع كيف أن فرنسا كانت حتى ساعات بن علي الأخيرة تعد لإرسال دعم أمني وعسكري قوي لنظامه المتهالك. وقد كان العون الإسرائيلي والأمريكي للنظام المصري في أيامه الأخيرة يكاد يكون شفافاً في وضوحه، وهو دعم تجاوز التنسيق الأمني إلى التعاون الإعلامي والسياسي.

نخلص من كل هذا إلى أنه لا صحة لما يقال عن أن وجود أي عمل خارجي منظم ومنسق وراء الثورات العربية، لأنها لم تكن متوقعة أو محسوبة من أي جهة.

وإذا كان هناك عمل منظم ومنسق، فإنه كان الرامي إلى تفادي مثل هذه الثورات أولاً، ثم إحباطها إن أمكن، وأخيراً التحكم في مسارها عبر خطوات استباقية. وهكذا رأينا في تونس أولاً فكرة نقل الرئاسة مؤقتاً إلى رئيس الوزراء محمد الغنوشي مع إبقاء بن علي رئيساً، ثم تم الانتقال إلى صيغة أخرى تحفظ الأوضاع. نفس الأمر تم في البحرين واليمن وسورية وليبيا وغيرها.المهم كان الإبقاء على النظم البائدة في صورة معدلة و’محسنة’، حيث كان ‘الخوف من المجهول’ هو المهيمن على الأذهان.

فوق هذا فإن نسبة ما أنجزته الشعوب من تحولات لا سابق لها، مع ما بذلته من تضحيات وأظهرت من شجاعة وإقدام وتضامن وعبقرية في التنظيم، نسبة كل هذا إلى عناصر أجنبية، وتجريد الشعوب من قدراتها وإنجازاتها، يعكس درجة مرضية من قلة الثقة بالذات، ودرجة من الهوس بقدرات الآخرين تصل إلى حد التأليه، ومقام من هو ‘على كل شيء قدير’. وكلا الموقفين يعبر عن خلل في التفكير والقيم ، لأن مثل هذا النمط من التفكير يكرس العجز ويروج له.

نحن نعرف أن الغرب سعى في السابق لإسقاط أنظمة عربية بعينها، وبطرق مباشرة ومكشوفة. فقد كانت هناك مساع لإسقاط الرئيس عبدالناصر، وصلت إلى حد الغزو والحروب، ومساع لإسقاط النظام الليبي، وصلت مراحل تسليح المعارضة وتزويدها بقواعد في دول مجاورة. نفس الاستراتيجية اتبعت تجاه النظام السوداني في حقبة التسعينات. وما محاولات إسقاط النظام العراقي التي شاركت فيها مع دول الغرب كل من إيران ودول الخليج بخافية على أحد. ولكن أيا من هذه الجهود لم تحقق أي نجاح. ونحن نشاهد اليوم أيضاً أوضاع ساحل العاج، التي تلقى فيها الرئيس المنتخب الحسن وتارا الاعتراف والشرعية وكل دعم ممكن، ولكن خصمه لوران باغبو لا يزال متشبثاً بمقعده، لن ينزعه عنه إلى قوة السلاح.

ملخص كل هذا هو أن إضفاء صفات الإعجاز على القوى الغربية هي مزاعم لا يدعمها واقع، بل بالعكس فإن الشواهد التاريخية تدحضها. وقد أثبتت الشعوب العربية أنها لا تنخدع، لا بالدعايات الرسمية ولا بمزاعم الخارج، بل تتحرك بقناعاتها. ولعل أهم إنجاز للثورات العربية لم يكن فقط الإجهاز على أنظمة البغي وكسر حاجز الخوف في مواجهتها في كل الدول العربية، بل كذلك قضت نهائياً على عقليات نظرية المؤامرة، وما تنطوي عليه من قلة الثقة بالذات وتضخيم قدرات الآخر لدرجة التأليه. الآن عرفت الشعوب العربية أنها هي وحدها التي تتحكم بمصيرها: حين تتوحد الإرادة، وتريد الشعوب الحياة، وترفض الركوع لغير الله تعالى، وتركل بعيداً أصحاب أصوات الخنوع، ممن يطيب لهم الهتاف: ‘فلان’ وبس!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى