صفحات الثقافة

عيـــنٌ تجـــوسُ فـــي غابـــات

 

مبارك وساط

ـ1ـ قبل الغروب

قَبْلَ الغُرُوب، نَفَضت الحُقُولُ

عن ظُهورِها قُطعان

المَواشي، فلم تَذَرْ

لها من أثر

هكذا، لم يبق في جنباتها الذهبيّة الأعشاب

سوى بعض الثُّغاء الخفيف

الرُّعاة عادوا حَزَانَى

وأرادوا الاخْتِفاء عن الأنظَار، فدَلَفُوا إلى الزَّرائب

وَحْدَهُ الرَّاعي الأحمق بَقي واقفًاً وسط القرية

مُتهلِّلا، ويَعزف للرّيح

مُتَرَجِّيًا

أن تجلبَ بناتِها شبيهاتِ الدِّبَبة

حتَّى يرتعبَ منهنَّ الأطفال المتحلِّقون من حوله

فيضحكَ

من قفزاتِهمْ وصياحهمْ

ومِنْ رَفْعِهِمْ لعقائرهم بنداءِ

أمّهاتهمْ

ـ 2ـ بحر أسود

قارِبُ النوم يَمْخُر بي عُبابَ بحرٍ أَسْودَ يُبْعدني

عنْ غُرفتي في هذه الليلة الشَّتْوية

الموجُ العاتي يتقاذفه

سيوفُ البرقِ، أيضًا، تَهْوِي

في الأعالِي، بلا رحْمة

وخوْفِي يتركّز في حاجبيّ

لكنْ، فوق رأسي، أنصافُ الطُّيُور

التي بقيتْ حيَّة بِمُعْجزة

تَضعُ رُضّعًا في مُهود

وصَرَخاتِهِمْ في صناديق

البَرْد

وَتَعِدُني بحياةٍ جَديدة

حَالَمَا أستيقظ

مِن هذا الحُلم العنيف

ـ 3ـ أسلاف

في هذا البيت، في زمن قديم، تطايَرَ شَرَارٌ كثير

من جَسَد جدّ، بعد أن ارتطمَ رأسُه

بسقف قبّعته

سكّانُ هذا البيت، من أجدادٍ

أكثر قِدَما

كانوا شديدِي التديّن

واتخذوا إِلَهًا البُركانَ المقدَّسَ الذي

أصبح في مكانه الآن

فُرْنٌ كبير

أنا، خلال هذه الليلة، في هَذا البيْت نفسِه

أستمرُّ في كتابةِ تاريخ السُّلالة

فَيَدْلِفُ إلى غرفتي ناطقون باسْمِها من كلّ

العُصور

يتجمّعون في جانب من الغرفة، فتميلُ تحت ثِقلهمْ

يركضون إلى الجانب الآخر، فيشعرون

أنه يَمِيدُ بهم

وهكذا، أنا أُؤَرِّخ لهمْ

وهم

يُمَرْجِحُونَنِي

ـ4ـ بلد دائري

وَقْعُ حذائي على الرّصيف

ينفذ إلى أذنَيَّ

عبرَ نافذةِ غرفتي

إنهُ الحذاء الهارب

من الخدمة

يتابع سيرَه في الشارع، مُصَعِّرا

خَدَّه

وقدماي تستغربان

هذا العقوق

وثمّة أغنيةٌ تصعد نحوي الأدراج

قادمة من الشّارع نفسه، ذي البرد

الجريح

إنها للمغني الأعمى، الذي

يبيتُ في العراء، وعيناه

هما صَنْجاه

أما أنا فقانعٌ بالبقاء في هذه الغرفة الضَّيِّقة

لكن، متى ضجرتُ حقًّا

أركض فيها فتتحوّل

إلى بلد كبير

فيه قتلى يصنعون البارود

وكتبٌ كثيرة، وكنوز

مخفيّة

في رئات العصافير

بلدٌ كبير ودائري، حيث الحُزْن

يُزال

بالمماحي

وحيث، كثيراً ما يكون الله

هو النسيم

ـ5ـ عين

قَرْية جدّتي: بُيُوتُها تدور حول

صرخة، تَصَّاعَدُ على الدَّوَام من البئر

التي في وَسَطِها. لم يحدثْ

أن رأيْتُ تلك القرية، لكني

كنتُ متشوّقاً لزيارتها، بعد أن حَكَتْ لي الجدّة

عن طفولتها في أرجائها، وكيف أنّ

دوران بيوتها كان يجعلُ الطّواقي التي

يعتمرها أهلها

تضيء لهم سُبلَهم في الليالي الحالكة، ويُمكِّنُ

دجاجاتِها

من أن تُقوقئ بالعديد

من اللغات الأجنبيّة.

وفي ليلة بعيدة، كنتُ قد فكّرْتُ طويلا

في تلك العجائب، ثم أطللتُ من نافذة، فرأيتُ

دمعة جميلة في عين أليفة.

تلك كانتْ عينُ الجدّة. لقد أُغْمِضَت

منذ سنوات. لكنْ، أكيدٌ أنها الآن

تَجُوسُ في غابات

وفي قرًى عجيبات

وتتتبَّع مُغامرات

تقوم بها جِنياتٌ في حكايات

(شاعر مغربي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى