بدرالدين عرودكيمراجعات كتب

“عين الشرق” إشكالية التقنية والخطاب/ بدرالدين عرودكي

 

 

راوَدَ دمشقَ عن نفسها كلُّ من عرفها عبر التاريخ من الأنبياء والشعراء والكتاب والرحالة. لم يصمد أحدٌ أمام نداء سحرها الغامض وهو يداري أمره قِبَلَها. يحاول أحدهم بفصاحة العبارة أو إيقاعها أن يقول هيمنته عليها، ثم سرعان ما يكتشف قارئه أو سامعه أن الأمر لا يتجاوز بهلوانية أدبية تخطف الوعي كما يخطف لاعب السيرك البصر. ويحاول الآخر أن يعثر على مدخل إليها..هي، مدينة الأنهر السبعة؛ فما إن يبدأ محاولته، حتى ينتقل إلى مدينة أخرى، لا يترك وراءه غير صفحات تنبئ عن أنها لا تزال أقرب إلى المحاولة منها إلى الكتابة الناجزة.. أما الآخر، وقد أفلتت المدينة كلها من كيانه، فلا يجد مخرجاً إلا بوصمها بالنقائض، يجمعها في ما يظنه نبضاً شعرياً يخفي، تحت ظاهر جماله، حقداً تاريخياً وطائفياً يكسر الشعر ويشوه الجمال. لكن أحداً ــ على ما أعلم ــ لم يستجب بعدُ إلى هذا السحر ويجسِّده في رواية تكون هي الشخصية المرجع والأساس.

محاولات استجابة، مع ذلك، عديدة إذن، وقلما كانت ناجعة؛ إلا أنه لا بد، كما يبدو، لكل سوري اتخذ من صياغة الحروف أداته في الوجود أن يستسلم لإغراء هذا النداء أحياناً أو لضرورته القصوى أحياناً أخرى.

هكذا، تبدو “رواية” عين الشرق للكاتب إبراهيم الجبين كما لو أنها تستجيب لهذه الأخيرة: الضرورة القصوى، بدءاً بالعنوان الذي يعنيها، بما هو الوصف الذي حباها به إمبراطور روماني فصار واحداً من أسمائها. لكنها، وهي تستسلم لهذه المراودة، سرعان ما أوجدت لنفسها بدءاً من هذا العنوان تحديداً، مخرجاً من شِركٍ، ما كان لها أن تخرج منه سالمة، لو لم تجعل من المدينة بهذا الاسم تعبيراً عن معظم الخارطة السورية، ومن هذه الأخيرة عنواناً للشرق.

هكذا، لم تعد دمشق، المدينة/المكان، هي الشخصية الأساس في الرواية (كما أمكن أن تكون مدينة كالإسكندرية شخصية رئيسة في رواية لورنس داريل الرباعية الإسكندرانية على سبيل المثال لا الحصر)، هي المعنية بقدر ما هي سورية كلها، أما الزمن فهو زمن الذاكرة، يمكن الانتقال فيه بين قرن وآخر أو بين عقد من السنوات وآخر أو، حتى، بين ليلة أو لحظة وأخرى، من دون إخلال في سردٍ لم يعتمده مساراً له، ما دامت المأساة السورية هي فكرته وموضوعه وهاجسه وبنيته التكوينية الأساس.

ليس وضع كلمة “رواية” بين قوسين تمهيداً لرفع هذه الصفة عن هذا الكتاب بقدر ما هو، خلافاً للعادة، محاولة تسترعي انتباه القارئ إلى أن الكتاب رواية، وأنه يجب أن يُقرأ على هذا الأساس، رغم كل ما ينطوي عليه، وهو يتكشف للقارئ صفحة بعد أخرى، من كسرٍ لكل معايير الكتابة الروائية، التقليدية أو غير التقليدية، فارضاً في الوقت نفسه طريقة وإيقاعاً وتصميماً قد يؤدي إلى استدعاء أدوات وطرق فنون أخرى للمقارنة بها، لكنها تبقى هنا، وفي هذا العمل الأدبي تحديداً، نتاجاً أوحت به أو بالأحرى فرضته هنا طبيعة الغرض.

سيكون من العسير، بل ومن التعسف أيضاً، والحالة هذه، الحديث عن التقنية الروائية المستخدمة هنا بمعزل عن خطاب الرواية جملة أو تفصيلاً، أو تناول هذا الأخير بعيداً عن التقنية المستخدمة لأدائه.

في دزينة من الفصول وحوالى ثلاثمائة وتسعين قطعة يتراوح طولها ما بين سطر إلى ستين سطراً، يرسم الراوي لوحة المأساة السورية، جذورها ومكوناتها وحاضرها، كما تتجلى في عمق الزمان وفي اتساع المكان من خلال ما يشبه القصص القصيرة أو الحكايات أو الأخبار. كما لو أن المأساة السورية تستدعي بفعل مكوناتها شكلاً آخر في الرواية تبتكره هذه التشظية التي نراها في عين الشرق. تشظية تتضح وظيفتها منذ البداية. إذ ليست الرواية سرداً يتابع مسار بطل أو مجموعة أبطال ضمن بيئة محددة، يعرض عناصرها ويصف الشروط الاجتماعية والسياسية التي يتحركون في ظلها، بل هي سرد، يبدو كما لو كان عفو الخاطر ــ في حين أنه ليس كذلك بالطبع ــ، لكل ما يمكن أن يؤلف في نهاية التحليل العناصر المقومة للحياة السورية طوال خمسين عاماً: بعضها شائع المعرفة، وبعضها الآخر حبيس الوثائق أو ذاكرة بعضهم ممن كانوا شهوداً أو فاعلين. لكن السرد كله وليد ذاكرة شخص واحد هو الراوي.

وإذا كانت الشخصيات الأخرى التي تملأ عالم روايته تحمل أسماء حقيقية أو مستعارة، وتشير بالتالي إلى أشخاص حقيقيين يعيشون في الواقع بما فيهم الراوي ــ وهو شخصية الرواية الأساس ــ الذي لا يحاول التغطية على هويته أو على هويات سواه، فهي، وإن كانت تستثير انتباه من يعرفها، إلا أنها سرعان ما تعود في نظره إلى دورها الأساس كشخصيات في رواية كما سينظر إليها قارئ لا يعرف أحداً منها في الحياة الواقعية. هذا بالنسبة إلى القارئ السوري. ولكن، هل سيكون الأمر نفسه بالنسبة إلى القارئ العربي، وكذلك بالنسبة إلى القارئ الأجنبي حين يقرأ هذه الرواية بلغته؟ تلك مسألة أخرى ولا شك، يمكن لها أن تعيد طرح صلاحية هذا التفصيل في تقنية هذا الشكل الروائي الذي يبدو للقارئ السوري مبتكراً وربما سيبدو للقارئ العربي والأجنبي لغزاً!

سوى أنَّ اللغز لن يقتصر، كما يبدو، على هذا الجانب من التقنية الروائية المعتمدة. هناك أيضاً مسألة الصوت الواحد الذي يقود إلى تساؤل آخر عن النسبية الغائبة في مجال هذا العالم الروائي وعن الحرية المتاحة للقارئ، والغائبة هي الأخرى أيضاً، أمام خطاب أو خطابات الرواية التي يقرأها.

تلك حرية أساس ألَّفت وتؤلف على الدوام أحد أهمِّ مقومات الرواية بالمعنى الدقيق للكلمة. ذلك أن ما يمكن أن يميز عملاً تخييلياً كالرواية عن أي مقال تحليل سياسي أو مقال رأي يعبر عن موقف كاتبه، هو، على وجه الدقة، هذه الحرية التي يمنحها العالم الروائي في شكله وفي خطابه عبر ما يعرف بالأصوات المتعددة ضمن عالم واحد، تتيح للقارئ التقدير والتقويم والموازنة.

في هذا إنما تتجسَّدُ الإشكالية التي تكتنف “رواية” عين الشرق، بمعنى ما، أي في غياب هذه الحرية التي لا يمكن أن تتجلى إلا في تعدد الأصوات، أو في تناقضها، أو في تعدد مستويات التخييل الروائي. إذ تبدو الرواية في مثل هذه الحالة، وبالتالي في الرواية التي نحن بصددها، وكأنها مقالة صحافية اختارت الشكل الروائي أداة من دون الالتزام بقواعده المقومة الأولى، لا سيما وأن اللغة التي كتبت بها هذه الرواية بقيت ــ وليس ذلك عيباً في حد ذاته من دون أي شك ــ لغة الصحافة اليومية في صياغة الخبر الصحافي أو حتى مقال الرأي السائد في أيامنا هذه.

ستبقى دمشق بهذا المعنى، وكما يبدو، عصية على الرواية والروائيين إلى أن ..

ويبدو أنه لا بد من الانتظار..

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى