راتب شعبوصفحات الناس

عين واحدة تكفي/ راتب شعبو

 

 

(إلى منير شعبو)

فجأةً غاب كل شيء عني وباتت الدنيا مظلمة وكأن ملاءة سوداء شملتها وأنا أمشي في باحة التنفس، كأن الكهرباء انقطعت عن عيني للحظة ثم عادت. كتمتُ خوفي وتابعتُ سيري من دون أن ينتبه شريكي في المشي. في السابعة من عمري فقدتُ إحدى عيني، واعتدت على العيش بعين واحدة، عيني الوحيدة كانت كافية لكي أدرس وأعيش بشكل طبيعي، ولكي أنخرط في عمل سياسي معارض أوصلني إلى السجن. غير أن خوفي من أن أفقد بصري ظل ملازماً لي طوال حياتي. كنت إذا رأيتُ ضريراً في الطريق ينشدّ نظري إليه. أضطرب وتتوه قدماي وتفقدان غريزة المشي فأقف لحظات حتى استعيد مجدداً قدرتي على متابعة سيري. ما حدث لي في باحة التنفس أيقظ في داخلي تاريخاً متراكماً من الخوف. ولا سيما أن ما حدث راح يتكرر.

ترددتُ طويلاً قبل أن أطلب من رئيس المفرزة أن أراجع طبيب عينيَّ. في المشفى العسكري الذي نقلوني إليه بعد أيام، قال لي الطبيب الذي قرأت على وجهه علامات اليأس، إن عصب العين السليمة ليس سليماً تماماً، وإن عليَّ أن أخفف من إجهاد عيني في القراءة أو متابعة التلفزيون أو أعمال الخرز أو ما شابه. “العصب ليس سليماً تماماً”. لكن الحقيقة أن العبارة ليست صادقة تماماً، لا يريد الطبيب أن يقول إن العصب في الرمق الأخير. إذاً، خوفي في مكانه. عدت من المشفى وجلستُ على سريري واثقاً من مصيري، جلستُ كأنني جالس في عزاء نفسي، كأنني أنتظر اللحظة التي ستنقطع فيها الكهرباء عن عيني ثم لا تعود، كأنني أنتظر في كل لحظة هبوط تلك الملاءة السوداء هبوطاً نهائياً. انشغل بي زملائي في المهجع لبعض الوقت ثم انشغلوا عني، وانشغلتُ بحالي.

بعد وقت طويل أو قصير، صمت المهجع، واستقر كل مسجون في سريره. كانت اللمبة الوحيدة المعلقة في الكوريدور تبدد عتمة المكان، كانت هي الشيء الذي يعطي عيوننا قيمة، الضوء الوحيد الذي يلتزم على مدار الساعة إضاءة المكان الذي لا يصله أيّ مصدر آخر من النور، حتى تعارفنا عليه باسم “الملتزم”. في تلك اللحظات كان يبدو لي أن “الملتزم” يجاهد بصعوبة كي يفي بالتزامه. بدت لي اللمبة متعبة بالتزامها كعجوز يجرّ عربة ثقيلة في طريق صاعد. ثم، بعد وقت طويل أو قصير، أطبق الظلام على كل شيء دفعةً واحدة. أدركتُ أنني فقدت بصري. هذا ما كان ينتظرني وأنتظره، وكنت واثقاً من أنه حادث لا محالة، وها قد حدث. دسستُ نفسي تحت الغطاء ببطء وغمرتُ نفسي بالكامل وهمدتُ محاولاً أن أفهم وأستوعب وأقبل حقيقة أنني بتُّ أعمى. أظلم قلبي كما أظلمت عيني. بردت أطرافي وصار دمي لزجاً وتنفسي ثقيلاً كأن قطعة من الاسفنج أغلقت رئتي. استسلمتُ لقطيع هائل من مخلوقات سوداء مشوهة امتصت هوائي وهزمت آخر شعاع أمل عندي وخنقت روحي.

بعد قليل راحت يد جاري وصديقي تهزّني بقوة وسمعته يقول:

منير شو في؟ ليش عم تبكي؟

من دون أن أرفع الغطاء عن رأسي قلت له باستسلام:

أنا عميت يا أبو علي.

قال لي بصوت هادئ ومطمئن وقد خمّن ما جرى:

ليست عينك بل الملتزم هو ما انطفأ.

رفعتُ رأسي قليلاً من تحت الغطاء، كان الظلام محيطاً بكل شيء، وسمعتُ من مكان ما في المهجع من يقول: هذه هي المرة الأولى التي ينطفئ فيها الملتزم منذ سنوات.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى