مراجعات كتب

غاليانو في “صيّاد القصص”: الكلمات الأفضل من الصمت/ سارة عابدين

 

 

“صياد القصص” كتاب انتهى منه الكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو (1940-2015) قبل عام من رحيله، وصدرت ترجمته مؤخراً، عن دار “ورق”، بعد أن نقله إلى العربية صالح علماني.

في الكتاب يستكمل غاليانو طريقه الذي شقّه منذ عمله الأول “الأيام التالية” مروراً بـ “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية”، الذي بيعت منه أكثر من مليون نسخة، و”مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالم”؛ حيث اختار الصحافي والروائي أن يكون كاتب القصص المغيبة وأن يعيد البريق لمعنى حياة من يعيشون على الهامش. تناول يوميات المسحوقين، أيا كانت السلطة التي تسحقهم، نظاماً أو جيشاً أو كنيسة أو طبقة.

استعمل الكتابة كطريقة مقاومة للنظام الذي يسيّر به العالم ويقسّم به جنوباً وشمالاً أولاً وثالثاً، بل ربما استخدمها كطريقة ثورة على التأريخ، على نحو عميق، وساخر في بعض الأحيان، ولجأ إلى كتابة مقاطع مبتسرة استعاد من خلالها قصصاً مدفونة في التاريخ المنسي.

يدخل “صياد القصص” في كتابه هذا إلى غابة من الحكايات الخفية المتشابكة والمتوارية خلف الحكايات المعروفة، معيداً تدوين التاريخ من وجهة نظر إنسانية وإبداعية، وكأنه يسطّر تاريخا موازياً، لهؤلاء الذين لم تنصفهم سجلات التاريخ ولا المؤرخون. يصنع ذاكرة خاصة للإنسان ومدينته، تلك الذاكرة التي يحملها السكان الأصليون للمكان، ويعيد الحياة لمدن مهجورة ومهدّمة عن طريق إعادة بناء الذاكرة.

يأتي الكتاب في أربعة فصول، من بينها عشرون قصة قصيرة. كانت مشروعاً بعنوان “خربشات” بدأه غاليانو ورحل قبل أن يكمله. غير أن الناشر وجد أن في هذه الخربشات الكثير من الأمور المشتركة مع حكايات “صياد القصص” ويمكن أن تصبح جزءاً من الكتاب من دون أن تظهر غريبة عنه أو مقحمة فيه، فأضافها إليه في فصل يحمل عنوان “أردتُ، أُريد، أتمنى”، وهو عنوان قصيدة اختتم بها الكاتب عمله.

يسيطر الموت كهاجس ملحّ، يظهر ويحضر في معظم القصص والنصوص، حتى إنها تبدو تصورات استغرقت غاليانو لمدة طويلة عن الموت. من جهة أخرى، يبدو الكتاب فسيفساء صنعت من قصاصات الحياة اليومية، والأساطير الشعبية القديمة، لتشكّل كلاً واسعاً ومتقناً، يمكن استخدامه كمدخل للتعرّف على غاليانو، أو كمرجع لأفكاره، حتى إن بعض النصوص تشبه الوصية.

يتضمّن العمل أيضاً تفاصيل وحكايات من السيرة الذاتية لصاحب “المعانقات”، فقد عاد إلى شذرات من طفولته وسنوات شبابه في بعض منها. ويروي أن شغفه بالكتابة بدأ يتكوّن حين طلب منه عمال منجم قرية ياياغوا البوليفية، أن يصف لهم البحر. يقول غاليانو أنه كان يعرف أنهم لن يروا البحر أبداً، كما أنهم محكومون ببؤس العجز عن الخروج من تلك القرية البائسة، لذلك كان عليه العثور على كلمات قادرة على جعلهم يبتلون بالماء، وكان ذلك أول تحدٍ يواجهه ككاتب، انطلاقاً من اليقين بأن الكتابة قد تنفع لشيء ما.

يصف غاليانو الكتابة بأنها تحليق في العتمة، مثل الخفافيش، في هذه الأزمنة القاتمة، تساعده على أن يكون موضوعياً، ومحايداً. وتمنعه من التحوّل إلى شيء لامبالٍ بالمشاعر الإنسانية، تجعله أقوى من الخوف والخطأ والعقاب، في لحظة الخيار في المعركة الأبدية بين المفتقرين إلى الجدارة والناقمين.

في جانب من “صياد القصص” يسرد غاليانو تاريخ بعض المقاهي الشهيرة في العالم، بوصفها أماكن مضادة دائماً، تحمل بداخلها تاريخ الخطط السريّة للثورات ومعقلاً للفن والأدب والسياسة، ويذكر منها “مقهى البرازيل”، حيث كان يكتب بيسوا، ومقهى “إلس كواتريانا” في برشلونة الذي أقام فيه بيكاسو أول معارضه الفنية. يتذكر أيضاً “المقهى المركزي” في فيينا والذي كان تروتسكي ولينين يناقشان فيه مسألة الثورة الروسية.

وفي فصل آخر يعود غاليانو إلى حكايات نساء، ويحوّل حكاياتهن إلى أساطير. فيجعل من كتابته رداً في عصر آخر، من كاتب أوروغواني على الظلم الذي لحق بهذه النساء المنسيات أو اللاتي قُدّمت حكاياتهن من زاوية واحدة، من هؤلاء أغلاونيكيه أول امرأة فلكية عاشت في اليونان واتهمت بالسحر والشعوذة، وكاتالينا دي لوس ريوس الملقبة بـ كينترالا والمتهمة بالسحر والشعوذة وطعن عشاقها بالسكاكين، والتي أنقذتها ثروتها من حكم الإعدام الذي أصدرته محاكم التفتيش ضدها، وكذلك ليليث التي تمثل النسخة غير المنصاعة من حواء.

يدخل مؤلف “أفواه الزمن” قارئه إلى كواليس العمل التأليفي لديه، يصف الكلمات وهي تمشي في أعماقه لروايات ترغب هي نفسها أن تُقال وتروى بأقل عدد ممكن من الكلمات، يتذكر مثلاً قصة “كاميلا أوغرمان والكاهن لاديسلاو غوتيريث”، اللذين أُعدما رمياً بالرصاص بجريمة الحب، ليقول إن حكايتهما في نهاية الأمر تحوّلت عنده إلى سطر: “إنهما اثنان بالخطأ وقد صحّحهما الليل”. وفي ما يتعلق بأسلوب الحكايات المبتسرة، يلفت إلى عبارة مواطنه الروائي خوان كارلوس أونيتي، وجعلته يفكر في الأسلوب الذي يريده لنفسه ككاتب، قال أونيتي “الكلمات الوحيدة الجديرة بأن توجد هي الكلمات الأفضل من الصمت”.

الذاكرة والتاريخ، هذه هي منطقة صاحب ثلاثية “ذاكرة النار”، التي كتب فيها حكاية خمسة قرون من عمر أميركا الشمالية واللاتينية. وهذه هي المنطقة التي ظلّ يحفر فيها في كتابه الأخير، الذي مارس فيه هوايته المفضلة؛ صيد الحكايات.

في مقطع من “صياد القصص” يقول غاليانو “لم يحالفني الحظ في التعرف على شهرزاد. لم أتعلم فن القص في قصور بغداد. كانت جامعاتي هي مقاهي مونتيفيديو القديمة. الحكاؤون المجهولون علّموني ما أعرفه. اكتشفت في المقاهي أنه يمكن للماضي أن يكون حاضراً، وأنه يمكن للذاكرة أن تروى بطريقة لا تعود معها أمساً، كي تتحوّل إلى الآن”.

_________

الأشياء التي تهمّه

وصف غاليانو نفسه ذات مرة بأنه “كاتب مهووس بالتذكّر”، وفي عمله الأخير هذا، الذي أضيفت إليه أجزاء كتبها وهو يعيش محنة الصراع مع سرطان الرئة، يتجلى تذكره للأشياء التي تهمه، التي أحبها، والتي يود تذكرها، أو الحديث عنها، بعض مقاطع من طفولته وعودة منتقاة إلى سيرته، لكنه ظل مخلصاً لكل ما عرفه القراء عن كتابة غاليانو وما ألفوه لديه من تجاور حميم بين الأسطوري والماضي والمعاصر، خلطة أسلوبية انفرد بها غاليانو.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى