صفحات سوريةعمر قدور

غداً سنطعمكم لحم صديقكم

 

عمر قدور

لن أنسى عضلات وجهه وهي تنقبض، كل عضلة بمفردها. لن أنسى رغبتي في أن أصمّ أذني، فلا أسمع ما اعتقدت حينها أنها حشرجة أمعائه، أو ربما كانت حشرجة أمعائي التي راح الغثيان يعتصرها. قلت له: كفى. ومن المرجح أنه لم يسمعني، لأنه استمر لأكثر من دقيقتين في حديث لم يعد مترابطاً كما بدأه. كان محدّثي يخبرني عن تجربته في الاعتقال في سجن تدمر، لمدة قاربت العشرين عاماً. في أحد مقاهي المثقفين في دمشق؛ لم يكن المكان مناسباً تماماً بسبب ضجيجه، ورحت أضطر إلى الإصغاء والانتباه الشديدين على سبيل المجاملة أولاً، ففي عام 2004 كنت قد تعرفت على عدد كبير من المعتقلين السابقين، وسمعت الكثير عن أنواع التعذيب التي لاقوها، باختصار كنت قد فقدت إلى حد ما الفضول والدهشة، الواجبين تجاه هذا النوع من المأساة الإنسانية.

محدّثي كان معتقلاً بتهمة الانتماء إلى تنظيم «البعث العراقي»، أي الشقيق اللدود للبعث الحاكم في دمشق، ومن المعلوم في الأوساط السياسية السورية أن هذه التهمة تُعدّ الأخطر مرتبة بعد تهمة الانتماء إلى تنظيم الأخوان المسلمين، وعلى الأغلب كان معتقلو هذين التنظيمين يتقاسمون زنازين السجن نفسها التي تلقى معاملة «خاصة» من الجلادين. وبالطبع تتجلى المعاملة الخاصة هنا بالاستباحة القصوى للمعتقلين، تعذيباً وتنكيلاً وصولاً إلى الموت. كثيرة هي القصص التي تسرّبت متأخرة عما كان يحدث في هذه الزنازين تحديداً، ولعل رواية «القوقعة« للسوري مصطفى خليفة، بما احتوته من فظاعات، ليست سوى رأس الجليد بالتعبير المجازي الشائع.

كان إعدام السجناء يتم عن طريق إصدار إحكام في جلسة واحدة لمحاكم عسكرية صورية، ومن القصص المعروفة على نطاق واسع قصة الأب وأولاده الثلاثة، المتهمين جميعاً بالانتماء إلى الأخوان المسلمين، فقد سيق الأب إلى المحكمة المقامة على عجل في باحة السجن، وأبلغ بأن المحكمة ستُعدم اثنين من أبنائه، وعليه هو حتى اليوم التالي أن يختار الابن الناجي منهم. اجتمعت العائلة المكونة من الأب وأبنائه الثلاثة، وبعد مداولة، لنا أن نتخيل فجائعيتها، اختاروا نجاة الابن الأصغر لأنه لم يتزوج وينجب بعد، وعلى افتراض أن قدراً أكبر من الحياة لا يزال بانتظاره. في اليوم التالي أبلغ الأب المحكمة بقراره، فأُخذ أولاده الثلاثة، ورأى بعينه تنفيذ الإعدام بهم جميعاً، وابتداء بابنه الأصغر. كانت قصة الابن الناجي مجرد مزحة من المحكمة، هكذا مجرد مزحة لمن يعتقد أن الوحشية تفتقر إلى الطرافة أيضاً.

إذاً، كانت تلك المهاجع المكتظة تشهد حركة عبور دائمة، فمن جهة هناك المعتقلون الذين يتوافدون بكثرة، وبمجرد الشبهة في كثير من الأحيان، وهناك المحكومون بالإعدام الذين يُساقون منها إلى باحة سجن تدمر لتنفيذ الحكم بهم. كان رحمة الجلادين تتسع أحياناً لتترك للمحكوم بالإعدام فسحة توديع أصدقائه في الزنزانة، وربما ترك وصيته الأخيرة لإيصالها إلى أهله، على أمل أن يبقى أحد من زملائه في عداد الأحياء والطلقاء يوماً. أما في المرة التي كان محدّثي يخبرني عنها فقد كان الجلادون أكثر فظاظة، إذ اقتاد عنصران منهم المحكوم، وأخبر قائدهم بقية المعتقلين، ومنهم محدّثي، بقرار إدارة السجن: «غداً سنطعمكم لحمه».

مع ذلك، ربما أمكن للعبارة السابقة أن تمر كدعابة سمجة، لولا أن وجبة الغداء التي أحضرها الجلادون في اليوم التالي لإعدام زميلهم كانت، في سابقة فريدة من نوعها، لحماً مطبوخاً. كان الجلادون مجهزين بالبنادق في وضعية الاستعداد، مع الإنذار بالإعدام الفوري لأي معتقل يرفض تناول الطعام. لم يُطلق النار على محدّثي، ولا أدري إن كان أُطلق على أحد آخر بسبب رفضه تناول ما قُدّم على أنه لحم زميلهم الذي أُعدم في اليوم السابق. في الواقع، ليس الأكثر أهمية هنا مَن أُجبر على تناول اللحم المطبوخ، ومَن لم يقوَ على تناوله على رغم تهديد السلاح.

لا يجزم صاحب هذه التجربة بأن ما تناولوه كان لحماً آدمياً، وأنى لمن لا يعرف مذاق اللحم الآدمي أن يميز مذاقه؟!؛ إذ ثمة فرصة في أن يكون الأمر برمته مجرد دعابة سمجة أخرى من دعابات إدارة السجن. لكن هذا الافتراض لا يمنح عزاء كاملاً، بل ربما يلبي ما أراده، الجلادون أصلاً بإبقاء المعتقلين تحت طائلة الشك فيما تبقى من حياتهم. هنا أيضاً ليس الأكثر أهمية ما إذا كان تقديم اللحم الآدمي مطبوخاً قد حدث، أم أن الأمر مجرد خدعة، فلا أحد من المعتقلين الباقين يمكنه الجزم بحقيقة ما حدث، وعلى كل واحد منهم أن يعيش ما تبقى من عمره ضمن هذا الشك المدمر: أنه ربما أكل لحم صديقه ميتاً.

هي قصة من زمن لم يكن فيه الموبايل ذو الكاميرا قد اخترع بعد، وإلا ربما كنا حظينا بتسجيل قام به أحد الجلادين يقطع الشك، وربما أيضاً سمعناهم يقهقهون في التسجيل طرباً بسبب انطلاء الخدعة على المعتقلين المساكين. وربما أيضاً نفترض وجود جلاد قرأ رواية «خريف البطريرك» لغابرييل غارثيا ماركيز، وأغراه ذلك المقطع الذي يقدّم فيه الديكتاتور أحد جنرالاته مطبوخاً لزملائه الجنرالات الذين شاركوه في التخطيط لانقلاب. ثمة الكثير من «ربما» هنا، ومنها أن يقول قارئ لنفسه: «ربما كان كاتب هذه السطور يفتري على النظام»؛ إذ يعزّ على إنسان سويّ تصوّر حدوث مثل هذه الفظاعة في الواقع. لكن الـ»ربما» الأخيرة تصبح هشة إزاء الفيديوهات التي يسربها شبيحة النظام يومياً، وإزاء تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي تفضح الممارسات الشنيعة التي تنتهجها الأجهزة الأمنية السورية في سجونها، والتي تدلل في مجملها على أنها ليست نهجاً مستحدثاً، بل تم التدرب عليها واختبارها سابقاً.

أَمِن المعقول أن يفعل النظام ذلك؟! هذا سؤال، إن افترضنا براءته، لا يسأله الكثير من السوريين، فهم يعلمون أنه يفعل ذلك وأكثر. لم يأت الشبيحة الجدد من فراغ، فهم قد تربوا جيداً على أيدي أساتذة في فنون التعذيب، ومن المرجح أن يكون التلامذة الجدد قد بزّوا أساتذتهم في فنون الإجرام، ومن المرجح أيضاً أن يحفّزهم انتشار فيديوهات التعذيب والتنكيل على التسابق فيما بينهم. هذا نظام لم يتورع يوماً عن اقتراف ما لا يخطر في بالنا، نحن السذّج، وهذا يقين راسخ حتى في أوساط بعض مؤيديه؛ أولئك الذين يستخدمون هذه الحجة لتخويف الباقين من مغبة المطالبة بإسقاطه.

إن موسوعة جرائم النظام أكبر من أن تُحصى حقاً، وقد يحتاج السوريون أجيالاً لترميم ذاكرتهم وذواتهم من آثارها، ليست المسألة فقط أن النظام قتل منذ بدء الثورة ما يقارب السبعين ألفاً، وهو ماضٍ في مشروع الإبادة طالما تيسر له؛ الأمر يتعلق فيما يبقى من أحياء سيكون الكثير منهم بمثابة ذاك الخارج من المعتقل، والذي ربما يتمنى لو أنه مات بدلاً من مكابدة العيش مع ذاكرته. في الواقع قد لا يكون من مطمع مباشر لمن يقومون بالثورة الآن، سوى أن الأمل يحدوهم بأجيال قادمة تنظر إلى ما نرويه الآن على أنه من خرافات الأجداد والجدات.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى