صفحات الرأي

غزو ثقافي معكوس/ نزار آغري

 

 

المدن التي تدوي أسماؤها في مسامعنا فور النطق بها، مثل رنين الزمن، وتوقظ في ذاكراتنا أشياء عظيمة وجميلة (باريس، روما، لندن…) لم تعد كما هي. لم تعد هي هي. تحولت إلى ساحات لرجال ونساء يظهرون في مظهر وملبس يشبهان المظهر والملبس السائدين في مدننا الإسلامية.

أحياء كاملة في هذه المدن تمشي فيها فتعتقد أنك في مدن آسيوية أو أفريقية بكل شيء فيها: السحنات والأزياء والمطاعم والمقاهي واللغات. وكان يمكن لهذا الشي أن يكون المراد المشتهى من جهة التنوع والتعددية والاغتناء واختلاط الألوان والأمزجة والأذواق والثقافات لولا أن شيئاً من هذا لم يحدث. ما حدث هو نشوء مجتمعات مغلقة، معزولة، متباعدة، منفصلة عن بعضها وعن بوتقة البلد كله، بعيداً من زمنه وإيقاعه وسيرورته ووجهته. مجتمعات تعيش عالمها الخاص، بقوانينها الخاصة ورموزها وعاداتها وأنظمتها وهواجسها. وفي كثير من الحالات ترطن بلغاتها الخاصة، بعد أن تكون عجزت، أو امتنعت عن، تعلم لغة البلد الذي جاءت للعيش فيه.

غزو ثقافي معكوس. كنا نشكو من غزو الغرب لنا وقيامه بتشويه وعينا وتهديم ثقافاتنا وتحطيم عاداتنا وخلخلة تراثنا. كنا نشكو من المحرمات والخلاعة والتحلل الأخلاقي، قادمةً من الغرب، على أجنحة مؤامرة محبوكة بعناية فائقة للقضاء على روح أمتنا. كنا نشكو من قيام الغرب بالتغلغل في نسيج مجتمعاتنا البهية عبر الفنون والعلوم والتكنولوجيا والآداب والمسارح والسينما، وبأرقى المبتكرات العلمية والعلاجات والأدوية والسيارات والطائرات والتلفزيون والفضائيات والأيفون والفيسبوك. كنا نردد، من دون كلل، أن الغرب غارق في مستنقع المادية والجشع والشهوانية وضائع في متاهات الأخلاق الفاسدة والمحرمات، وأن الشرق نبع للفضيلة ولسمو الروح ونبل الأخلاق وعفة الفطرة وجلالة التأمل ومرقد التصوف والزهد والتقوى. والآن ها نحن نرد الصاع صاعين. نغزوهم مباشرة بالهجوم عليهم في عقر دارهم ونفتح مدنهم واحدة تلو الأخرى. وها نحن ننشر في أرجاء أوطانهم متاعنا وعدة غزواتنا، ها نحن نريهم روحانيتنا وسمونا وتصوفنا الشرقي الباذخ: جريمة الشرف وضرب النساء والعنف الأسري والتحرش الجنسي والاغتصاب والنصب على الدولة والسرقة والاحتيال والتهرب من المسؤولية والتقاعس عن العمل والتكاسل عن أداء الواجبات والانشغال بالحلال والحرام ومن ثم الهزء بأهل البلاد وتسفيه طريقة عيشهم وتكفيرهم و… قتلهم.

لم تستطع المدن الأوروبية أن ترتقي بنا، نحن الغزاة القادمين إليها، إلى مستوى تمدنها وسلم تقدمها ودرجات تحضرها، وفشلت في حملنا إلى سويتها في مسالك العيش من حيث التسامح والحرية والرقة والتهذيب والأدب والاحترام. بل نجحنا نحن في أن ننزل بها إلى درك المدن التي جئنا منها بما حملناه منها معنا من عدتنا السلوكية ومنظومتنا الأخلاقية. وسقطت المجتمعات الغربية في بحر من التيه والحيرة بعد انتقالنا إليها، وها هي تتخبط محاولة البحث عن مخرج. هي تقف وجهاً لوجه أمام تحديات مرهقة. تحديات فكرية وسياسية وإجتماعية ودينية وثقافية وأمنية.

كيف لهذا الغرب العجوز أن يقف أمام هذه التحديات ويتحمل أعباءها وتبعاتها وآثارها؟

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى