صبحي حديديصفحات مميزة

غزّة: ما أرانا نقول إلا رجيعاً/ صبحي حديدي

 

على نحو ما، بل على أكثر من نحو في الواقع، يمكن القول إنّ الحرب البربرية، الوحشية والهمجية، التي تتعرّض لها غزّة منذ أسبوعين، ليست حرباً إسرائيلية فقط، بل هي حرب إسرائيلية ـ أمريكية مشتركة في المقام الثاني، وهي في المقام الثالث حرب إسرائيلية ـ أوروبية، لكي لا نقول غربية في العموم.

صحيح أنّ البرابرة على الأرض يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أنّ السلاح أمريكي بنسبة 90%، والتغطية السياسية للعدوان، فضلاً عن مختلف أشكال التعتيم الإعلامي، أمريكية ـ غربية بامتياز، والحديث هنا يخصّ الحكومات والمؤسسات وليس الشعوب ذاتها، التي عبّرت عن مواقف مختلفة هنا وهناك. وفي وسع المرء أن يبدأ من معزوفة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في “تفهّم” حاجات إسرائيل الأمنية، وإدانة “صواريخ حماس”، أو معزوفة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي اعتبر أنّ لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحقّ في “اتخاذ كلّ التدابير الكفيلة بحماية شعبه ضدّ التهديدات”، أو، أخيراً، معزوفة رئيس الوزراء البريطاني دافيد كامرون، التي تستكمل أنغام الطنبور…

ولكن… هل من جديد في هذا كلّه؟ وهل تصحّ فينا حكمة كعب بن زهير: ما أرانا نقول إلا رجيعاً، ومعاداً من قولنا مكروراً؟ نعم، لأنّ القسط الأعظم من هذه التفاصيل تكرّر ويتكرّر، أو تردّد أو يتردّد رجيعه بقوّة، في تسعة أعشار الوقائع السابقة المماثلة، حتى حين تكون لكلّ واقعة علاماتها الفارقة في مستوى البربرية، وأبعادها المنفردة في عمق المأساة المرشحة للاستقرار عميقاً في ذاكرة الضحية. وعلى سبيل المثال، في السفسطة الغربية حول مشاريع “وقف إطلاق النار”، ألا نتذكّر الجدل البيزنطي الذي نشب، وتعقد وتشابك حتى امتنع، خلال عدوان 2006 على لبنان؟

ألم تغرق الديمقراطيات الغربية في معمعان التفريق اللفظي بين “وقف إطلاق النار” و”وقف الأعمال العدائية”، وأمّا الوحش الإسرائيلي فقد كان يواصل الإجهاز على المزيد من المدنيين في لبنان، فيقتل عشوائياً، ولا يُبقي حجراً على حجر، برّاً وجوّاً وبحراً؟ في الماضي، كانت صيغة الكليشيه، المعتادة في اندلاع حروب إقليمية، هي مسارعة المجتمع الدولي إلى مطالبة الأطراف بوقف إطلاق النار فوراً، سواء كان الدافع هو التقليد البروتوكولي الصرف، أم فتح الباب أمام المساومات والصفقات وتحسين شروط التفاوض مع الخصم. الآن لم يعد “المجتمع الدولي” حريصاً حتى على ورقة التوت إياها، وفي مثال عدوان 2006 رأت الولايات المتحدة أنّ وقف إطلاق النار “غير مفيد الآن”، وفي العدوان الراهن على غزّة ترى أنه “غير ممكن” مع استمرار إطلاق الصواريخ الفلسطينية.

كذلك اتضح ـ من جديد… كما في كلّ جديد عتيق! ـ أنّ أوروبا العملاقة الموحدة، القارّة العجوز، أمّ أنظمة الاستعمار وفلسفات الأنوار، عاجزة تماماً عن اعتماد سياسة خارجية مستقلة قيد أنملة عن تلك السياسات التي تعتمدها الولايات المتحدة، إزاء سلسلة طويلة من الملفات الدولية الشائكة، وعلى رأسها قضايا الشرق الأوسط بالطبع. وما يجري في غزّة اليوم، على نهج ما جرى في لبنان صيف 2006 والعراق ربيع 2003، يعيد تظليل قسمات هذا النظام الدولي الذي استجدّ بعد سقوط جدار برلين وانهيار أنظمة الاستقطاب القديمة. الآن، بعد توسيع الحلف الأطلسي وغزو أفغانستان والعراق، لم يعد دهاقنة تحليل العلاقات الدولية مضطرين إلى تقليب الرأي في استقطاب أنغلو ـ ساكسوني (أمريكي ـ بريطاني) مقابل استقطاب أوروبي (فرانكو ـ ألماني)، وثالث آسيوي (هندو ـ صيني).

وفي المقابل، صار في الوسع الحديث عن نظام أمريكي إمبراطوري، تشارك فيه أطراف “حليفة” على نحو من المحاصصة الوظيفية، النسبية والتناسبية: لإسرائيل أدوار غير تلك التي تتولاها بريطانيا، وعلى أستراليا أداء واجبات غير تلك الملقاة على عاتق اليابان، وفي وسع فرنسا أن تعترض أو تشاغب أو تتوسط، مثل ألمانيا أو إسبانيا، شريطة البقاء ضمن التعاقد الأعرض…

وهكذا فإنّ الحرب الراهنة على غزّة هي، من هذه الزاوية، محض مناسبة جديدة لتثبيت المزيد من قواعد قديمة في تسيير العلاقات الدولية وفق نظام أورو ـ أمريكي، يُختصر بين الفينة والأخرى إلى مسمّى غائم مضلل هو “المجتمع الدولي”، فقط، لا غير!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى