صفحات الحوار

غسان جباعي: تجربة سجني تدمر وصيدنايا علمتني الأمل

 

 

ميسون شقير

عاش كل ما تعنيه كلمة سجن من فقد، وعتمة، ورعب، وموت. كان سجين رأي سياسي لمدة عشر سنوات كاملة، فعبر رحلة الموت الممتدة من سجن فرع الأمن العسكري، ثم إلى سجن تدمر، وبعدها إلى سجن صيدنايا.

إنه غسان جباعي، الكاتب، والمخرج المسرحي السوري، الذي درس الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفييتي السابق، وعاد إلى بلده كي يعد مسرحا حقيقيا يعيش في المسافة بين اللون والظل، ويصل إلى القلب، لكن نظام الأسد اعتقله، واعتقل معه مسرحه، ولونه، وظله.

غسان جباعي، الذي مذ خرج من السجن، يسكنه شغف واحد، هو تعرية هذا الوحش بأدب يستحق أن يقرأ، وأن يعيش، وبمسرح يستحق أن يقدم. أخرج مسرحيات جزيرة الماعز للمسرح القومي- 1994، أخلاق جديدة- 1998، ثم ألف وأخرج مسرحية سلالم- 2003 التي منع عرضها بعد عشرة أيام، ومسرحية السهروردي لحلب عاصمة الثقافة العربية- 2006 ومنعت أيضا من المشاركة. وهو غسان جباعي الذي كتب مجموعتين قصصيتين هما “أصابع الموز”- 1994 و”الوحل”- 1995، ومجموعة شعرية هي “رغوة الكلام”- 2011. وكتب كتابا فكريا حول “الثقافة والاستبداد”- 2015. وأخيرا كانت روايته “قهوة الجنرال” الحائزة على جائزة “المزرعة” لعام 2015، من “رابطة الكتاب السوريين الأحرار” التي تشكلت بعد الثورة. وهي رواية تترك قارئها بمرارة تمسك روحه، بعد أن تلتف عليه منذ الصفحة الأولى، رواية تكشف عن حجم الخراب الذي يتركه السجن السياسي في داخل من دخله يوما، وحجم ركام الحياة المحطمة التي تتراكم في قلب السجين، الذي خرج مثقوب القلب.

اليوم، بعد تقرير الأمم المتحدة حول سجن صيدنايا أو المسلخ البشري، نلتقي بغسان كشاهد إبداعي حقيقي على ما حصل، وما زال يحصل في كل لحظة، من خلال هذا الحوار:

*ما الذي فعله سجن صيدنايا في روح غسان جباعي، وفي كتابته؟

لا أبالغ إذا قلت إنه فعل فيها ما تفعله النار في الصلصال، أو الماء في الفولاذ، أو حتى النطفة في جدار الرحم. هذا أمر حقيقي، لأن السجن يعلمك الحفر والانتظار والأمل والحلم والمراجعة، يعلمك الصبر والقدرة على التحمل والتحدي، وكما يغدو الجمال رفيقك في الحياة، تمتحن البشاعة نبلك وإنسانيتك.

هناك، حيث يكون المعتقل أضعف خَلق الله، عليه أن يصبح قويًا جبارًا، وحيث يكون بجوار الموت عليه أن يحب الحياة، لأن الحياة والحرية صنوان؛ ذراعان لجسد واحد. هناك لا وجود لأنصاف الحلول والمداهنة، إما أن تنكسر وتصاب بالفصام وتنخرك الوساوس والهلس، أو أن تنتصر على ذاتك وتتحول من مجرد رقم – كما أرادوا- إلى إنسان حقيقي، كما تريد أنت.

هذا ما يصيب الروح في السجن، أما الكتابة، فما هي إلا صدى لهذه الروح، وخشبة لخلاصها. لذلك، علي اليوم – وكل يوم- أن أشكر الكتابة والقراءة والرؤيا، لأنها كانت تذكرني – عندما أضعف- بأنني إنسان.

المحزن في هذا كله أننا كنا نترفع عن هذه الخسة البشرية التي يمارسها أبناء وطننا علينا! ومع ذلك كنا نعيش في عالم مختلف بهيٍّ، يتجاوز الجدران والقضبان وأبواب الحديد. كنا نتطلع إلى كوكب آخر، بعيدا عن تلك العلبة السوداء التي أعدوها لنا. كنا نُعِدّ لهم الحرية. وهذا يذكرني بالفيلسوف الصوفي الحروفي، عماد الدين النسيمي، الذي أمر المماليك بسلخ جلده وصلبه على أبواب حلب. لقد أصفرّ وجهه وهم يسلخون جلده، وعندما سأله الجلاد عن سبب ذلك قال: الشمس يصفرّ لونها عندما تشرف على المغيب…

تجربة سجني تدمر وصيدنايا

* من هم الكتاب والمثقفون الذين كانوا معك في السجن نفسه؟ وماذا استطعتم أن تقدموا لبعضكم ثقافيًّا من تواجدكم معًا، حتى ولو في سجن قاتل؟

يمكنني القول إننا تحولنا جميعًا إلى كتاب ومثقفين! كنا خليطًا غير متجانس، لكننا -جميعًا- كنا محكومين بالعتمة والموت البطيء. وكنا نعلم أن الطريق طويلة والمصير مفتوح على المجهول، لذلك كان أول طلب لنا هو الكتب (كان ذلك في سجن تدمر) ولما رُفض طلبنا اعتمدنا على أنفسنا، وراح كل منا يفرغ ما في جعبته من معرفة وذكريات وحكايات! كان بيننا كتاب وصحافيون وأطباء ومحامون وعمال وفلاحون وضباط ومهندسو مدن وبواخر وكهرباء وأساتذة جامعات واقتصاديون ومبدعون في المسرح والسينما والأدب والرسم والنحت.. كنا نجتمع كل ليلة بعد العشاء مثل كومة من الثياب حول واحد منا، كي نستمع إليه وهو يحدثنا في اختصاصه ومغامراته، أو يستعيد شفويًا كتابًا جميلًا أو رواية قرأها ذات يوم.

ما أكثر الروايات والقصص التي اخترعناها وأعدنا تأليفها من جديد. روايات عربية وعالمية ارتجلناها بشكل جماعي، فاختلط فيها الخيال بالحقيقة وتبدلت شخوصها وأحداثها حتى أصبحت روايات من الأدب الغرائبي. ثم اقتربنا أكثر فأكثر من عواطفنا وذكرياتنا الخاصة الحميمية، وبدأنا نتحدث عن تجاربنا مع المرأة والحب والأمكنة… هناك كان الحديث ممنوعًا بعد الثامنة مساء، وكنا مضطرين للتحدث همسًا تقريبًا… أما في سجن صيدنايا العسكري الأول، الذي كان لنا شرف تدشينه سنة 1987، على ما أذكر. فكان – بالقياس إلى سجن تدمر- بمثابة إخلاء سبيل. هنا تحول السجن إلى مركز ثقافي، حيث جمعنا من خلال الزيارات، عددًا كبيرًا جدًا من أهم المؤلفات، وحوّلنا أحد المهاجع إلى مكتبة عامة. هنا ترجمنا الكتب، وكتبنا الأشعار والقصص والروايات، وأقمنا الأمسيات والمحاضرات… وهنا تعرفت على عدد كبير من الشعراء والفنانين والروائيين مثل الشاعر الجميل الراقي وديع إبراهيم ومحمد عيسى ومحمد كتيلة، والروائي مصطفى خليفة وأحمد سويدان ووائل سواح وعلي الكردي، والتشكيلي المعروف طلال أبو دان وزهير سكرية (الذي انتحر للأسف بعد خروجه من السجن)، والموسيقي الشاب هيثم القطريب والممثل والمخرج الهاوي بدر زكريا، والنحات سهيل ذبيان وجهاد المسالمة… وعدد كبير آخر من المنسيين، بعضهم تابع عمله الإبداعي والبعض تخلى تمامًا عن تلك المهنة الصعبة.

السجن حاضر في كل كلمة تكتبها، هل تعتقد أنك لن تخرج يومًا منه؟

ولماذا أخرج؟ ومن قال إني خرجت? إنه قضية وطنية وليست شخصية. وهو قبل هذا مرتبط بقضيتنا الأساس “الحرية”. سورية كلها اليوم تقبع خلف القضبان أو خلف الحدود أو تحت الخيام أو التراب. المعتقل كان وما زال جزءًا من مأساة شعبنا، وسوف يبقى كذلك حتى تتحقق الحرية والعدالة للسوريين. كيف أخرج من السجن وأترك أصدقائي بداخله!؟ لن أخرج ما دام فيه سوري واحد. الجرائم الكبرى لا يطويها التقادم والنسيان، وكذلك الذاكرة والحقيقة. ألم يعتقلوا ابني عمر عام 2013 ويجعلوه يرث ذاكرتي بالقوة. فكيف ننسى؟! نحن اليوم، بأمس الحاجة لكشف هذه الجرائم وفضحها. منذ أن خرجتُ من السجن حتى الآن، دخل إليه مئات الآلاف، وبات بعد الثورة أكثر شراسة وخطرًا، وما يحدث الآن يعد جريمة ضد الإنسانية وقيمها. لن أخرج قبل أن يسقط المجرم وأدواته، ويحاكم على جرائمه، وتتحول سجونه إلى متاحف ومدارس تؤرخ لنضال السوريين من أجل الحرية.

*كيف كانت الكتابة في السجن هي (فعل الحياة الوحيد)، كما قلت يومًا؟

كانت الكتابة مكلفة جدًا. لم نكن نملك الأدوات اللازمة لذلك. لا حبر ولا أقلام ولا أوراق ولا حتى مسامير. اخترعنا أدواتها! حولنا العظام إلى أقلام وأوراق السجائر إلى دفاتر، وهذا بحد ذاته عمل إبداعي. كانت القضية قضية موت أو حياة! ولذلك هي فعل حياة. إن الكلمات القليلة المحفورة على جدران الزنازين بالحجارة والمسامير (وبعضها المكتوب بأصابع ملوثة بالدم) ترقى إلى مستوى الأعمال الإنسانية. ثم إن الكتابة كانت صلة الوصل الوحيدة بين الداخل والخارج. عن طريقها كنا نغادر الزنزانة إلى الضوء عندما نشاء؛ نتسلل عبر شقوق الأبواب، نتسكع عبر الأثير في شوارع المدينة وزواريبها، نلقي التحية على الناس والأشجار، ثم نعود… فكيف لا يكون ذلك فعل حياة وأمل؟

*ما أسوأ ما فعله بك سجن صيدنايا الذي أظهر تقرير أمنستي مدى بشاعته التي لا تصدق؟

على المستوى الشخصي، فقدت أسرتي. كان عمر ابني 40 يومًا فقط. حرمت من طفولته ومن أبوتي. أصبحت غريبًا عنه وصار غريبًا عني. وعندما خرجت سرعان ما تبين لي أنني فقدت ذاكرتي أيضًا، ووجدت نفسي مضطرًا لأن أولد وأحبو من جديد.

لكن أسوأ ما في الأمر أن المجتمع كان خائفًا في تلك الفترة، حتى المقربون كانوا يخافون من ذكر اسم المعتقل أو زيارته، إذا خرج من السجن. لم يعترف المجتمع بالتضحيات التي قدمها المعتقلون السياسيون، كانوا يلامون لأنهم اعتقلوا! وكان الصمت والتستر على جريمة الاعتقال جريمة مضافة.

*في “قهوة الجنرال”- جنرال الأسد أو الأسى كما سميته- هل تعتقد أنك استطعت أن تعري هذا القاتل وأن تكون شاهدًا روائيًّا أدبيًّا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري؟

لا أدري. ربما. ما أعرفه جيدًا أنني حاولت. لم يكن الأمر سهلًا. سورية كلها كانت محشورة في زنزانة، والسجان كان يعيش في دمشق، وليس في تدمر أو صيدنايا أو غيرهما من الفروع الأمنية والسجون. ولم تكن تعرية القاتل متاحة، رغم أنه كان عاريًا بالفعل، ولا يحتاج إلّا إلى طفل يشير بأصابعه نحو الملك ويصرخ: “الملك عارٍ”. كان هذا الطفل موجودًا في داخلي، بل كان قابعًا –أيضًا- في صدور معظم السوريين، لكنه كان مبتور الأصابع، أبكم، ولم يتمكن من النطق إلا في آذار 2011. “قهوة الجنرال” كانت مرآة للقفص الصدري والروح وليس لقضبان الحديد أو السجان.

ما الذي ينقص في أدب السجون؟

هذا النوع من الأدب يحتاج إلى الاهتمام والانتشار أولًا. لقد عانى من التقصير بسبب القمع والخوف من العواقب والحسابات الضيقة أحيانًا! وهو يحتاج إلى توظيفه كأدب إنساني، بالدرجة الأولى، بعيدًا عن الرومانسية والدعاية السياسة والحزبية والإعلامية. إنه قضية وطنية جليلة وإنسانية، لا يجوز أن نحوله إلى سلعة أو أن يخضع للمساومة والمزايدات. كما لا يجوز أن يقول، أو تُقال من خلاله، نصف الحقيقة، أو أن تُروّج الأكاذيب والمبالغات، باسمه. أنا متأكد من أن أدب السجون هو أصدق وأنبل ما يمكن أن يُكتب، لكنه في ظل الخوف والذل يهمش ويشوه، ما يحدث في صيدنايا كان يحدث في تدمر الثمانينات، لكن أحدًا لم يكن ليجرؤ على قول الحقيقة. وعندما قالها مصطفى خليفة في قوقعته مثلًا، شككوا فيها ولم يدافعوا عنها. حتى أن البعض لم يكن يجرؤ على اقتناء تلك الرواية التي ترقى إلى مستوى “مذكرات بيت الموتى” لدستويفسكي.

لقد اهتم الغرب والإعلام المناهض للنظام بهذه المسألة، أكثر حتى من المعارضة السورية والشعب السوري نفسه، على الرغم من أن هذه السجون وجدت من أجله. (من أكثر المهتمين مثلا، ماري كوك الأميركية، التي بحثت في هذا الموضوع ونشرت كتابًا خاصًا بالمعتقلين السوريين؛ بدءا من محمد الماغوط مرورا بإبراهيم صموئيل وصولا إلى معتقلي الثمانينات والتسعينات). وكان محمد ملص أول من تجرأ وأخرج فيلما بعنوان “فوق الرمل تحت الشمس” -وهو مأخوذ عن قصة لي- وكذلك هالة محمد في فيلمها الوثائقي “رحلة إلى الذاكرة” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية… وهذا كل شيء، وهو أمر مفهوم ﻷن الشعب السوري لم يكن محرومًا من حق التعبير فقط، بل -أيضا- من حقه في الشكوى أو التذمر أو حتى التعبير عن الوجع.

ما الذي يؤلم أكثر، السجن نفسه؟ أم الكتابة عنه؟ وهل فعلا حين نكتب عن السجن نحن نعيش التجربة التي نفعل ما بوسعنا لنسيانها؟

الكتابة – والإبداع عموما- ما هي إلا عملية انعكاس، أو إعادة إنتاج للواقع المعاش والمتخيل. المرأة لا تلد الطفل مرتين. لكن المبدع يفعل! يحبل بالمأساة – وهذا ما قصده الجرجاني بـ “المعاناة”- ثم يلدها من جديد في قصة أو لوحة أو أغنية أو فيلم. وهو يجد متعة في ذلك؛ متعة قول الحقيقة وكشف المجرمين والانتصار للعدالة. لا بد للمبدع من صرخة في وجه الظلم، حتى لو كلفته حياته. في مسرحية سلالم 2003 سألني مدير المسارح هازئًا: “بعدك ما نسيت!؟”. يريدون أن ننسى، لكن “لا أحد ينسى ولا شيء يُنسى”، هذا ما قاله الشعب الروسي عن معاناته بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجب أن يقوله السوريون.

*ما الصور التي تعود إليك عندما تسمع ما جرى في مسلخ الأسد البشري في صيدنايا؟

صور تدمر.. أصوات أبواب المهاجع التي تخترق الصمت الجنائزي قبل بزوغ الفجر. تلاوة أسماء المحكومين بالإعدام وتكبيراتهم. كنا نعرف عددهم من خلال تكبيراتهم. فيما بعد صاروا يغلقون أفواههم بشريط لاصق، كي لا تسمع المدينة ذلك الصوت..

في إحدى قصصي شبهت الذين أعدموا في تدمر ببقع الزيت. أتذكر تدمر. نعم. كما أتذكر اليوم العشرات من أصدقائي الذين ماتوا تحت التعذيب: مروان الحاصباني وعمر عزيز وعماد أبو صالح وعشرات الآﻻف غيرهم… ممن بقي منهم في أقبية النظام مجهول المصير… أخاف عليهم، وأطالب الدنيا بإنقاذهم.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى