صفحات الحوار

غسان زقطان: قوة السيرة تكمن في تحويل سير الآخرين إلى شأن شخصي

 

 

حاوره: عبد اللطيف الوراري

يمثل غسان زقطان، ضمن آخرين، أفق الشعر الفلسطيني الجديد الذي يواصل، من جماليّات ورؤى وحساسيات متنوعة، مشروع حماية العمق الجمالي والإنساني للقصيدة إلى حد التخفف من البلاغة ونبرتها الخطابية التي ارتبطت بها زمنًا، بقدرما هو يبحث المعنى الآخر للمقاومة التي تحرر بفعل المخيِّلة روح الفلسطيني وتسترجع إنسانيّته عبر هويّةٍ لا تنقطع عن التجدُّد.

ينتمي غسان زقطان إلى جيل الثمانينيات الذي وجد امتدادًا له في أصوات التسعينيات وما بعد أوسلو. لفت جمهور الشعر بقصيدته ذات النبرة الغنائية الخفيضة، ثُمّ سرعان ما اختطَّت هذه القصيدة لنفسها مساراً شعريّاً خاصًّا يمزج أسلوبيًّا بين الغنائي الملحمي والسردي على نحو فتح مصراعيها على استثمار تفاصيل اليومي وتجربة المعيش والفعل السيرذاتي، وإيقاعيًّا ينوع بين أشكال قصيدة النثر والتفعيلة والهايكو والشذرة، وكأنّنا بالشاعر يتعقّب إيقاع ذاته وهي تكتب آثار سيرتها وتلتقط أصداءها وروائحها القديمة.

يتحدث غسان في هذا الحوار عن محمود درويش وصداقته له، وعن شعراء فلسطين الجدد، وينقلنا إلى ضفاف تجربته الشعرية في تطوُّرها، أو في عبورها إلى لغات العالم بفعل الترجمة؛ وهو ما يجعل منه اليوم شاعرًا جديرًا بانتمائه الفلسطيني، ومن شعره ذا بعد إنساني واستراتيجي في آن.

■ كيف ترى الشعر الفلسطيني اليوم بعد نحو ثماني سنوات من رحيل محمود درويش؟

□ مشروع درويش الشعري قائم ويتمتع بحيوية مدهشة وقدرة على التأثير، التجربة الثرية التي تركها محمود درويش عبر منجزه الإبداعي تذهب أبعد وأعمق وتتعرض لقراءة مختلفة في كل مرة. القراءة التي تغتني بالراهن تمنح مثل هذه التجربة الخاصة غنى وحضورا وتضيء على ظلالها في كل مرة.

لقد كان رحيل محمود مؤلما وصادما، بدون شك، ولكنني أرى أن استعادة حضور الشاعر تكمن في قراءته قبل كل شيء. ما زلنا نقرأ المتنبي بعد عشرة قرون من رحيله، ونصطدم بمجايلته وجديده وحداثته وتأثيره الراسخ في مناطق كثيرة من تجارب الراهن، هذا ينطبق على امرؤ القيس وطرفة والشنفرى والحمداني والمعري.. إلى آخر هذه القافلة المذهلة. لعل هذه القوة التي يتمتع بها الشعر العربي بتواصله وحضوره، تميزه عن ثقافات أخرى.

■ بحكم الهالة التي ضُربت حوله رمزيّاً وسياسيّاً، هل شَكّل محمود درويش في حياته حجاباً لاقتراحات شعرية جديدة أخرى، أم كان دافعاً لتطوير جماليات القصيدة الفلسطينية بمعايير فنية أكثر منها أيديولوجية؟

□ أميل إلى الاستنتاج الثاني في السؤال، فقد شكل مشروع درويش تحديا مركزيا في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، في كل مرحلة من مراحل منجزه، بما فيها مرحلة البدايات المبكرة التي ارتبطت بالمقاومة وتداخلت مع الأيديولوجيا وتأثيرات قوية لشعراء آخرين مثل، نزار قباني، لعل جغرافيا البدايات وزاوية التناول منحت تلك القصائد المباشرة بنبرتها السياسية الواضحة والقاموس الجديد الذي يخاطب العدو عبر تماس جسدي، حضورها وتأثيرها الذي لا يزال متصلا إلى الآن.

سيذهب محمود أبعد في مشروعه في المراحل اللاحقة، وسيدخل مناطق شبه محرمة، مستفيدا من الجغرافيا ومعرفته الخاصة بثقافة الآخر واحتكاكه اليومي بمجتمع طارئ، يخفي قلقه الوجودي تحت قناع عنصر، ويستمد أحداث روايته من خليط غيبي ومادي. في تلك النصوص قدم محمود هويته بقوة ووضوح، ولكنه جرد العدو من أكثريته واستدرجه كفرد في ما يشبه اكتشاف الشق في الجدار، فظهرت نصوصه الجديدة تماما على الذائقة العربية، مثل «ريتا» أو «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، لقد استطاع بضربة واحدة أن يؤنسن العدو ويعيده إلى عاديته وفي الوقت نفسه أن يدرب الذائقة العربية على تقبل عدو يمتلك هيئة بشرية وأن يعمق مفهوم «المقاومة» ويمنحه أفقا جديدا. حتى في نصوص مثل «سجل أنا عربي» استطاع أن يقدم صورة للعدو المنتصر الذي لن ينجز انتصاره على الهوية، «العدو المنتصر» لم يكن موجودا في النص الفلسطيني والعربي بالوضوح الذي قدمه درويش، حتى في ما بعد عندما تتالت «انتصارات» العدو، واصل الشعر الفلسطيني الحديث عن عدو بلا ملامح حقيقية، بلا حضور جسدي وبلا ظل، عدو ميت ولكنه يواصل انتصاره خارج القصيدة، أو الحديث عن الخسارة التي تسبب بها «شبح» بمرتبة عدو.

درويش ذهب مباشرة إلى عدوه وفككه ومنحه ملامح، وضوح العدو سينعكس على وضوح المقاوم، وسيمنح الصراع بعدا واقعيا يفتقر له، وهو ما فعله درويش.

سيكون من السهل هزيمة شبح وتحميله وشحنه، ولكن سيكون صعبا وواقعيا مواجهة عدو حقيقي مادي يمتلك تناقضات ونزعات إنسانية بمعانيها المركبة، هنا تصبح المعرفة والثقافة هي البنية التحتية للنص بديلا عن البلاغة السائدة التي تخفي عجزها وهزائمها وراء حيلة اللغة. ثمة إضافات كانت حاضرة في كل مراحل مشروع درويش، إضافات متكئة على معرفة مختلفة وثقافة مختلفة. وهو ما لم يتوفر لمجايليه من الشعراء الفلسطينيين.

■ في اللحظة الفلسطينية الراهنة بين مأزق القضية وتراجيديا الشرط الفلسطيني، نشعر بأنّ لغة الأمل والحماسية تراجعت في خطاب الشعر الفلسطيني، وأخلت المجال لأسطرة الشخصي والاهتمام بتفاصيل الحياة الصغيرة، إلى أي حدّ مثل هذا الوضع جماليّات مختلفة في نسيج الشعر الفلسطيني وروحيّته، وكشف عن مشاغل الحياة الفلسطينية وتبدُّلاتها اليوم؟

□ ليس تماما، بل لعلني أخالفك الرأي، أنت تتحدث عن جيل الثمانينيات الذي أنتمي إليه والذي وجد امتدادا له في أصوات التسعينيات وما بعد أوسلو، إذا اعتبرنا أن حدودا يمكن أن تشكلها أحداث سياسية بين مناطق الثقافة، ولكن مع صعود ما أطلق عليه الربيع العربي وصعود الإسلام السياسي الذي أحضر معه، ضمن ما أحضر من حمولاته الكثيرة، خطابا يتكئ بشكل كلي على قاموس سلفي، بدلالات تأتي من تاريخ انتقائي تم عزله عن سياقه وعما سواه، ترك هذا الخطاب أثره على المشهد الشعري، سواء من خلال استحضار نماذج جاهزة من الماضي، أو نصوص جديدة تستلهم مفاهيم هذا الخطاب وأشكاله ولغته، فيما يشبه حركة «إحياء» معكوسة تماما، أو العزوف عن الشعر في امتداد للفكرة السلفية نفسها التي لا ترى في الشعر أداة أو وسيلة مقبولة. وهي نزعة مقبلة من فكرة التشكيك في الشعر والشاعر وتصنيفه «سياسيا» منذ بدايات الدعوة الإسلامية. ثمة انحسار حقيقي للذائقة يمكن ملاحظتها من خلال الاحتفاء بالخطاب السلفي، وتراجع واضح في تأثير المنجز الذي قدمه جيل الثمانينيات العربي، ومن ضمنه الشعراء في فلسطين، هذا لا يعني غياب التجارب المهمة عن الشعراء الشباب، وهي كثيرة ومتنوعة وفيها الكثير من البحث والابتكار، ولكنها تتشكل كتيارات في المهجر وتنقل مركزها إليه، بحيث يتحول المنفى تدريجيا إلى مركز ثقافي، بينما تنحسر التجارب عن المركز الحقيقي، أو تنعزل هذه التجارب وتبتعد عن الضوء.

بعض الشعراء، الشباب على وجه الخصوص، وقبل نضوج تجربتهم انحازوا في نصوصهم هذا المنحى الذي يوفر جمهورا جاهزا من جهة، ولا يتطلب الدخول في مغامرة الكتابة نفسها، بحيث يمكن الحديث عن دعاة شعريين وليس عن شعراء.

■ عشت قريباً من محمود درويش في الأيام الأخيرة، مأخوذاً بحدبه الأخوي وثقافته ونصائحه أحياناً، ألم يكن في الأمر ما يشبه انجذاباً بوعي أو غير وعي إلى كاريزما سطوته الشعرية؟

□ كانت صداقة محمود في السنوات الأخيرة أقرب إلى ضربة حظ، لقد سمحت تلك الصداقة بالاقتراب من ثقافة محمود ومصادره، كانت تلك فرصة طويلة أيضا للخروج من سطوته الشعرية عبر الدخول عميقا في قراءة نصه وإحالته إلى منابع ثقافته المختلفة.

والحقيقة أن كاريزما محمود لم تكن في شعره فقط، ولكن في حضوره الإنساني وثقافته الواسعة وقدرته على تحويل هذه الثقافة إلى مفاهيم وسلوكيات يومية. محمود الأكثر قراءة وحضورا بين الشعراء العرب المعاصرين، لم يحظ بالقراءة العميقة التي يستحقها. ولعل هذا الرأي يقودني إلى اعتبار أن الخلاص من السطوة الشعرية لشاعر تكمن في التعمق في قراءته وتتبع مصادره. هذا ما حاولت أن افعله عبر صداقة حميمة امتدت أكثر من خمسة عشر عاما.

■ منذ «صباح مبكر» (1981)، وأنت تخطُّ لنفسك مساراً شعريّاً متطوّراً، حتى أوجدتَ لنفسك أسلوباً خاصّاً بك يمزج النبرة الغنائية الخفيضة والحس الملحمي المنثور في تفاصيل اليومي والمعيش، ولاسيما في المجاميع الشعرية الأخيرة. هل هو نوع من البحث عن معنى الذات في منفى المكان ومنفى اللغة؟

□ ليس لدي خطة واضحة في الكتابة، الأمر يأخذ شكل الوفاء، ربما، والثقة في تتبع المجرى ومراقبته، الكتابة الإبداعية في أي محصلة هي رغبة في البحث: نحن منفيون في طريقنا للمنفى.

■ في ديوانك الجديد «لا شامة تدل أميّ عليّ» (2014)، ثمّة حضور لافت للسرد وهو ما فتحك على استثمار المعيش واليومي، كأني بك كنت تكتب سيرتك الذاتية شعريّاً من بيت جالا إلى أصقاع العالم؟

□ أظن أننا نكتب سيرة ذاتية بطريقة أو أخرى، في السياق ستتقاطع مع سير أخرى مجاورة، سيرة المكان وسيرة الآخرين الذين يؤثثون حضورنا في الحياة. قوة السيرة تكمن في قدرتها على استحضار سير مجاورة وتحويلها إلى شأن شخصي.

■ يتشكل الديوان من نحو خمسين قصيدة متفاوتة الطول مزجت فيها بين أشكال قصيدة النثر والتفعيلة والهايكو والشذرة. هل كنت تتعقّب إيقاع ذاتك وهي تكتب آثار سيرتها وأصدائها وروائحها القديمة؟

□ أتعرف يا لطيف، لا أعتقد أن علينا اعتماد شكل وتسميته مثل «الهايكو»، ثمة قصائد قصيرة ومكثفة، مثل ضربات فرشاة في لوحة بيضاء، ولكن قصرها وكثافتها ومحاولتها تأثيث البياض لا يمنحها الحق في أن تحصل على هوية «هايكو»، هذا لا يقلل من شأنها على الاطلاق، بل على العكس من ذلك، يمنحها حرية وهوية خاصة بها. ويمنحنا الفضاء الضروري لقراءتها على ضوئها الخاص الذي ينبعث من نواتها، وليس في سياق المقارنة والتقليد. طبعا ينبغي ان تكتب على هذا الضوء وأن تأتي منه. لذلك أجد أنه من الصعب الحديث عن قصيدة «هايكو» عربية أو فرنسية مثلا. اذ يحتاج الأمر إلى تاريخ خاص وثقافة مختلفة ولغة مختلفة، تكوينات الحرف والكلمة، انحناء الخط والكتلة المتشكلة بصريا أساسية في كل هذا، العلاقة مع الطبيعة ودخولها على اللغة جزء من البناء، الموسيقى والأصوات والاحتفال المتواري في الظلال. هناك تكمن فكرة «الهايكو». أحبُّ تعبيرك حول إيقاع السيرة وتتبعه، ويبدو قريبا من وصف حركة القصائد.

■ تُرجم شعرك إلى لغات أوروبية، فإلى أيّ مدى تساهم الترجمة في نقل شعرك إلى ضفاف العالمية، وفي التعريف بالشعر الفلسطيني المعاصر برمزيّته وحساسياته الراهنة؟

□ كان لدي ما يكفي من الحظ، لا أقول هذا تواضعا، لأن تترجم بعض أعمالي إلى معظم اللغات الأوروبية، إضافة إلى لغات حية أخرى، وهو ما مهد لي مع الصديق الشاعر فادي جودة الحصول على جائزة «غريفن» العالمية، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها الجائزة لمجموعة مترجمة، كذلك المرة الأولى التي تمنح فيها لعربي، كما سمحت هذه الترجمة بوصول مجموعة «كطير من القش يتبعني» إلى قائمة جائزة «نوستاد» القصيرة التي تعتبر نوبل أمريكا في دورتين على التوالي لعام 2014/2016، إضافة إلى مشاركات عديدة في معظم الجامعات الأمريكية والعالم، تضمنت في معظمها حوارات حول القصيدة الفلسطينية والعربية. كانت تلك فرصة لتمرير القصيدة الجديدة بحساسياتها الراهنة إلى متلق مختلف وذائقة مختلفة، انحكمت ولفترات طويلة بمفاهيم استشراقية وتأويلات سياسية محبوسة ضمن رواية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في هذا السياق يمكن الحديث عن اهتمام متنام بالمنجز الثقافي العربي المعاصر لدى الأوساط الثقافية الأوروبية، يمكن لمسه عبر تزايد نشاط الترجمة وحركة المقاطعة الثقافية الأكاديمية العالمية المتنامية لإسرائيل. هذا الجو ساهم بقوة في تعميق الحوار وتأثيره.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى