صبحي حديديصفحات الرأي

غنغرش والحزب الجمهوري: انحطاط “الفلسفة” وأفول “النجوم”/ صبحي حديدي

 

 

تُسجّل له ريادة مبكرة في مساندة دونالد ترامب ليكون مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وذلك حين كانت الفكرة ليست بعيدة الاحتمال، فحسب بل شبه مستحيلة، ومثيرة للضحك والاستهزاء أيضاً.

اليوم، بعد أن صار ترامب رئيساً منتخَباً، ينتقل البروفيسور نيوتن ليروي ماكفرسن (غنغرش) من طور انتعاش الآمال في قطف منصب وزاري رفيع ضمن الإدارة الجديدة (وزير الخارجية، مثلاً)، إلى طور انكسار الآمال في أي موقع، بحيث باتت مهمته اليومية تنحصر في استصدار «جردة» حساب، معيارها سجلّ العداء أو الوفاء، ضدّ أي مرشح، لأي منصب. على سبيل المثال الأحدث، يستنكر غنغرش أن يفكر ترامب في إسناد حقيبة الخارجية إلى ميت رومني (المرشح الجمهوري ضدّ باراك أوباما، في سنة 2012)، لأنّ التعيين سوف يشكل «إهانة» لكلّ مَنْ ساند ترامب أثناء الحملة الانتخابية، أو صوّت له!

والحال أنّ غنغرش نجم علا في سماء الحزب الجمهوري، ذات يوم غير بعيد، ثمّ انطفأ وانحسر نفوذه حتى كاد أن يُنسى، لولا أنه لا يكفّ عن التذكير بنفسه وبأفكاره، وكأنه يعيش في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1995، حين اختارته أسبوعية «تايم» الأمريكية رجل العام. كان غنغرش آنذاك أبرز وجوه الحزب الجمهوري، رئيساً للكونغرس، وصانع ضجيج منتظم يكفي لإبقائه في سدّة الحدث اليومي وعلى خشبة المسرح الأكثر اجتذاباً للأنظار. صحيح أنه كان أحد أبطال «العقد مع أمريكا»، أو ذلك البيان الانتخابي الذي تبارى على توقيعه مرشحو الحزب الجمهوري في انتخابات تلك السنة، كمَنْ يتبارى في شعائر الإخصاب وإحياء الأرض الموات. وصحيح، أيضاً، أنه كان أستاذ التاريخ الحديث، والروائي المولع بقصص الخيال العلمي ـ التاريخي، وأطول المحافظين الجدد لساناً في كل ما يتصل بالأخلاق والقيم والأعراف.

ولكن من الصحيح أيضاً أنه كان مشروع نجم آفل، أو يكاد، وبلاغة الضجيج التي دشنها منذ الدقيقة الأولى لجلوسه في الركن الأعلى من قاعة اجتماعات الكونغرس، أخذت تستهلك بعضها كالنار التي أكلت الكثير ولم يتبق أمامها سوى أن تأكل بعضها. و«العقد مع أمريكا» سرعان ما انقلب إلى «عقد على أمريكا»، حتى قبل أن يبلغ مئة يوم من عمره الأقصى، الذي حدّده مَنْ أدّوا اليمين. وأمّا أستاذ التاريخ فقد تراجع بمعدّل 180 درجة في أول اختبار لاذع مع اللوبي اليهودي حول علاقة الولايات المتحدة بالهولوكوست، فانحنى، وأطاح بزميلته المؤرّخة كريستينا جيفري، هو الذي جاء بها لتدوّن مآثره الشخصية التي آمن ـ ويؤمن اليوم أيضاًـ أنها ستكون استثنائية، غير عادية، وخالدة.

وفي عام 1970 اختار لأطروحة الدكتوراه موضوع الاستعمار البلجيكي للكونغو، فانتقد سياسات الحكومة البلجيكية، ليس لأنها مارست أسوأ أنماط الاستعمار في العصر الحديث، بل لأنها… لم تكن استعمارية بالقدر الكافي، أو عجزت عن فهم الرسالة الإمبريالية الأعمق من وراء إرسال الأساطيل عبر البحار. وكتب غنغرش: «ضمن ثوابت الليبرالية الأمريكية في القرن العشرين، يُعتبر الاستعمار الأوروبي سياسة غير مقبولة. ولكن ماذا كان معنى تلك السياسة عند المواطنين الأفارقة أنفسهم؟ هل قامت القوى الإمبريالية بأداء وظيفة مؤلمة ولكنها إيجابية، حين اخترقت المجتمعات التقليدية وعبّدت الطريق أمام تحديث أكثر سرعة؟». نعم، يجيب غنغرش دون تردد: «لقد حاول البلجيكيون حلّ واحدة من أعقد مشكلات عصرنا، أي كيفية تحديث مجتمع تقليدي».

ومنذ كتابه الأول «نافذة للفرصة: مسوّدة من أجل المستقبل»، والذي صدر عام 1984، وغنغرش يبشّر بثبات الأحوال، ويحذّر من التغييرات الدراماتيكية التي تعصف بالقيم وتقتلع البشر من جذورهم. وهو، في ذلك الكتاب وتلك الحقبة من تفكيره، يبدي الكثير من التأثّر بأفكار عالِم الاجتماع السوداوي ألفن توفلر (صاحب «الموجة الثالثة» و«صدمة المستقبل» وسلسلة الأعمال القيامية التي تحيل الآدمي إلى «قالب» تكنولوجي أصمّ أعزل)، ويهتف بحرارة مشبوبة: التكنولوجيا أولاً، والتكنولوجيا أخيراً، هي التي تدلنا على طريق الغنى، قبل أن تعلّمنا الطرائق المعرفية اللازمة لاجتناب الفقر. ولكنّ غنغرش كان مضطراً إلى خيانة تعاليم توفلر، بقصد الوفاء للنزعة المحافظة التي ترسم المسار الجوهري لعقائده، ولهذا فقد تأرجح طويلاً بين الحماس الرؤيوي للكوامن المستقبلية في التكنولوجيا، وبين الفزع (المحافظ، جوهرياً) إزاء مفاعيلها و«آثارها الجانبية الهدامة» حسب تعبيره. وكان يفكّر على المنوال التالي، مثلاً: اختراع الدراجة مفيد للإنسانية، ولكن ألم يمنح فرصة أكبر للناشئة كي «يتملصوا» من رقابة الكبار؟ كي يسرحوا ويمرحوا دون وازع؟

ولأنه بالغ الاحتفاء بثوابت القيم الأمريكية، والموقع الاستثنائي لتلك القيم في السلّم الأخلاقي للإنسانية، فإنّ غنغرش يعطي التكنولوجيا المعاصرة فرصة إشاعة وترسيخ وإحياء القيم القديمة، قبل تجديدها كرموز سارية المفعول في الوجدان والانضباط العام. والتاريخ، في ذلك كله، ملزَم بتعليمنا الدروس ذاتها التي تعلّمها بنيامين فرانكلين وألكسيس دوتوكفيل، ونحن مطالبون بتكرار صرخة باتريك هنري: «أعطني الحرّية، أو فاعطني المنيّة»، أو الوقوف موقف ناثان هيل: «ليتني أمتلك حياة ثانية، لكي أهبها من أجلك يا وطني»!

وغنغرش هو أستاذ التاريخ الذي لا يدرس أو يدرّس التاريخ، بقدر ما يرجّع أصداءه، على حد تعبير غاري ولز. إنه مفتون بالأسطورة والحكمة والتقليد العريق والرمز و… التخييل القصصي الذي يلوي المخيلة الإبداعية إلى جدول لإعادة ترتيب العالم على نحو شائه. في روايته «1945»، المتأثرة كثيراً بأدب اسحق أسيموف، والتي تمسخ الخيال العلمي إلى ألعاب لاستقلاب التاريخ، يصف غنغرش سقوط أدولف هتلر ضحية غيبوبة تدوم بضعة أسابيع إثر حادث طائرة في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 1941، أي قبيل التاريخ الفعلي لإعلانه الحرب على الولايات المتحدة. وحين يصحو من الغيبوبة يقرر شنّ الحرب على أمريكا لقطع الطريق على نجاحها في تطوير السلاح النووي، «الوحيد القادر على تدمير الرايخ». والدرس المستمد هو، ببساطة: المزيد فالمزيد من التسلح، في غيبوبة هتلر، مثلما في صحوته، وصحوة بدائله المعاصرة.

كتابه الأعلى صخباً حمل عنوان «تجديد أمريكا»، وصدر في طور دقيق بين الصعود والأفول (ومع ذلك، حصد غنغرش مكافأة مقدارها 4.5 مليون دولار من دار النشر هاربر كولنز)، وفيه بدا مفتوناً بالتعداد: ثمة أعمدة خمسة لحكمة الحضارة الأمريكية، هي الدروس التاريخية، والقوة الشخصية، والمؤسسة الاستثمارية الحرّة، وروح الابتكار والاكتشاف، والمساواة (كما يعرفها رجل أعمال واحد وحيد يدعى و. إدواردز ديمنغ). وثمة خمسة أسباب لدراسة التاريخ الأمريكي، هي أنّ التاريخ ذاكرة جمعية، والتاريخ الأمريكي هو تاريخ الحضارة الأمريكية في الآن ذاته، وذلك كله ينطوي على امتياز استثنائي تنفرد به أمريكا عن التاريخ الإنساني العام، والتاريخ مصدر يعلّمنا بقدر ما يسمح لنا باستخدامه، والتجربة التاريخية تساعدنا في استخراج طرائق جديدة لحل المشكلات الراهنة…

أمّا عناوين أحدث مؤلفاته فتسير هكذا: «»أمّة لا كالأمم»، أو «من أجل إنقاذ أمريكا: تعطيل آلة أوباما العلمانية ـ الاشتراكية»، أو «إعادة اكتشاف الله في أمريكا»… وما دام الرجل «منظّر» الحزب الجمهوري الأعلى صخباً، وأعماله هي «الفلسفة» المرجعية الأعلى في أدبيات الحزب، وهو اليوم السوط المسلط على رؤوس «خونة» ترامب في صفوف الجمهوريين، فللمرء أن يتفهم، ربما بسهولة قصوى مشروعة، مقدار الارتباط بين صعود ترامب، وانحطاط الحزب، وأفول «النجوم»… على شاكلة غنغرش، بادئ ذي بدء!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى