صفحات سورية

غياب العقل السياسي للثورة

 

تستمر الثورة في سوريا وهي تعاني أكثر ما تعاني من مستوى العنف و القتل و الدمار المخيف، الذي اقتحم جميع تفاصيل حياة السوريين ليشكل حاضرهم ويهدد بأن يكون جزءً من المستقبل، إضافة إلى أخطار تهدد المجتمع السوري والدولة السورية ما يحتم على القوى السياسية الشروع في صياغة برنامج عمل سياسي واقتصادي واجتماعي يكون بمثابة خطة طوارئ لإدارة واقعية لهذه المخاطر.

ولكن غياب العقل السياسي للمعارضة المكرسة أو ضحالته، والاستعاضة عنه بالنواح والسباب على شاشات الإعلام، يعزز المخاوف. و هو ما جعل الثورة تبدو وكأنها تسير بدون عقل، فيسودها العمل العفوي. ورغم التقدم الكبير في تنظيم العمل العسكري وتعاظم قوته، إلا أنه يعاني من التوهان السياسي والوطني الذي بات يطبع معظم التشكيلات المسلحة، نضيف إليه مؤخراً تصاعد الحصار الدولي على الثورة، حيث تشتكي التشكيلات العسكرية المقاتلة في طول البلاد وعرضها، من تضييق الخناق عليها، فبات إضعاف الثورة وإخضاع ذراعها العسكري مهمة دولية ملحة في غمرة البحث عن “حل سياسي”.

إن مبادرة الشيخ معاذ الخطيب، ألقت حجراً في بركة المعارضة الآسنة. إذ إنها كشفت عن عورات المعارضة السورية المنضوية في الائتلاف والمجلس الوطني، وأظهرت الرعب الحقيقي الذي يتملك المسيطرين على المجلس الوطني خصوصاً الإخوان المسلمين والملتحقين بهم من فقدان المركز السلطوي الذي يعارضون النظام من أجله، كذلك فتحت الباب على “تشبيح” أولئك الذين باتوا يعيشون على عطايا الثورة، وهو ما يستدعى من قوى الثورة الحقيقية إعادة النظر بالهيئات السياسية التي تمثلها بفعل الأمر الواقع.

فقد أبت المعارضة السورية أن تكون الابن البار للثورة، وتمسكت دوما بدور “اللقيط” الذي يصيح في أروقة الدول الكبرى، بانتظار تدخل العامل الدولي الذي افترضته آتياً لا محالة وسيصب في مصلحة الثورة. أما الثورة فتطورت في اتجاه آخر، وصارت قوة لم يحسب حسابها لا الأعداء ولا الأصدقاء ولا المعارضين هؤلاء. قوتها هذه، جلبت مشكلات وأزمات لا حصر لها، فضلاً عن تدخلات كثيفة جداً من جميع الدول النفطية.

وحقيقة الأمر أن من يتوسل نصرا عسكريا حاسماَ ومزلزلاً لقوى الثورة فهو واهم، وهذا ليس مرادفاً للحديث عن تراجع الثورة الذي يسوقه بعض المعارضين “الوطنيين” لتبرير تخاذلهم، فالثورة مازالت تحاصر العديد من القطع العسكرية الضخمة، وتشن هجمات مؤثرة على حواجز ومواقع أخرى، و الحديث عن تراجعها هو محض هراء وتشاؤم من تعبت قلوبهم من هول المعركة، لكن هذا لا يمنع من ضرورة عدم الانسياق وراء وهم الحسم العسكري الكامل، بل أن يكون هدف العمل العسكري هو الحسم السياسي، ما يرتب على الثورة مزيداً من تنظيم قواها العسكرية وقوننة وضبط سلوكها وخطابها، وأخيرا تفعيل العقل السياسي بحيث يكون عاقلاً جريئاً ومبادراً وحراً، لا جباناً وخاملاً وأسيراً لمصالح القوى الدولية.

تجاوز أخطاء الثورة:

لقد سجلت الثورة السورية، أكبر عملية مشاركة جماهيرية وإدارة ذاتية من قبل “العامة” لشؤونهم السياسية والإعلامية والحياتية، كما سجلت أكبر تدخل خارجي في شؤونها ومساراتها!!، هذا التناقض عدا عن كونه نتاج همجية وتوحش النظام من جهة واستكلاب الغرب ودول النفط على الثورة من جهة أخرى، فهو كذلك نتاج انفجار ثورة سياسية بدون سياسيين وبدون حياة سياسية سابقة وبدون صراع سياسي وبدون أحزاب، مما أضعف التنظيم السياسي للثورة وأضعف مناعتها للتدخلات القذرة ذات اللبوس الإنساني والثوري، ولا يبدو أننا بصدد حل هذا التناقض اليوم، بالرغم من كونه تناقضاً مدمراً جعل الثورة تفرط في عفويتها، إلا أن حله سيكون في مجرى الصراع الاجتماعي السياسي القائم، وهنا علينا أن نميز عندما نرصد “أخطاء وانحرافات الثورة” بين تلك التي تنتج عن عقل سياسي واردة سياسية محددة تريد للثورة مساراً مغايراً لما أعلنه الثوار منذ البداية في دولة مدنية تحقق مصالح الطبقات الشعبية، وبين تلك الأخطاء التي تأتي كجزء من العملية التاريخية، وكنتاج للضعف البنيوي الذي قبعت فيه البلاد برمتها.

الحلول الدولية والتقسيم:

منذ الآن بدا تخبط المعارضة السورية أمام طروحات الحلول وطاولات الحل، وربما نكون امام تحد قريب لوطنية السوريين، قد يحدث تصادم ومواجهة بين طموحاتهم وتصوراتهم لوطنهم من جهة، وطموحات ومصالح الدول الكبرى من جهة اخرى. قريباً جداً سوف تأتي تلك اللحظة التي يكشف فيها حلفاء النظام وأعداؤه المزعومين عن مآربهم الحقيقية، وعن فحوى الحل الذي من اجله يضعفون قدرة الثورة على الاستمرار، فليس سوى الشعب من يريد رحيلاً كاملاً للنظام، وأرضا موحدة يعيش فيها جميع السوريين كمواطنين متساويين، أما اللاعبون الدوليون فيرومون بقاءً ما للنظام مهما طال الجحيم الذي يذرفون دموع التماسيح على أطلاله، إذا كان بقاءً كاملاً على طول البلاد وعرضها بما يعنيه من هزيمة للثورة، فهذا جيد ومحبذ، وإلا فلا ضير من بقائه على بقعة ما، فللتقسيم حلفاء كثر هم أصدقاء النظام و”أعداؤه”، في حين أن له عدو حقيقي واحد: الشعب.

نشرة اليساري – العدد 21

http://yasari.blog.com/2012/10/29/read-new

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى