صفحات مميزةيوسف فخر الدين

غياب في غياب: يوسف فخر الدين

حتى اللحظة، لم تخرج القوى السياسية السورية عن عادة ألفناها. فلا هي توقّفت عن نمط من الصراعات على النفوذ أصبح واضحاً أنه مضرّ بالثورة، ولا قامت بمراجعات ومكاشفات علنية أمام الشعب الذي تنتمي إليه. يكاد يكون الرئيس السابق للائتلاف الوطني الشيخ أحمد معاذ الخطيب الوحيد الذي خاطب الناس، وإن عبر شبكة التواصل الاجتماعية الـ”فايسبوك”، ليتراجع عن أمر صرّح به، ويعتذر. يمكن أن تكون شعبويته الحدث الصادق الوحيد في عيون الكثير من السوريين المؤيدين للمعارضة. لا يستطيع أحد أن يجزم، صحيح، لكن الكثير من الأحاديث المتواترة يشي بذلك. إلا أن المشكلة أعقد من لوم المعارضة وحدها. كثيراً ما نقرأ عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو نسمع ممن نلتقي بهم، لوماً لمثقفي الثورة البارزين واتهاماً لهم بالتضليل؛ وإدانة لما يعتبرونه إصراراً على إنكار بعض الظواهر والأخطاء، ما ساهم، في رأيهم، بانتقالها من هامش الثورة إلى متنها، مهدّدة بإفشالها؛ وتأكيداً لتناقض النتائج مع توقّعات المثقفين؛ واستغراباً من تخفّفهم من عبء المسؤولية عن مجريات الأمور، ورميها بعيداً عنهم صوب السياسيين وحدهم.

يمكن إثبات أن بعض من يُتّهم بريء من الكثير مما يساق ضدّه، أقلّه لا يصحّ اختصار مساهمته النظرية والتحليلية في جانب منها. لكن من الواضح أن هناك توقاً عاماً إلى إجراء مراجعات، وإلى تقديم الفاعلين السياسيين والمثقفين كشف حساب علنياً. من الملاحظ أن هناك رأياً عاماً أصبح يعتقد أن من حقّه أن يحاسب بعد كلّ التضحيات التي دفعها من أجل هذا الحقّ وسواه. وإذا كانت تشوب مثل هذه الدعوات شبهة توقٍ إلى كبش محرقة، إلا أنّها عموماً رغبة تستمدّ شرعيّتها من مقولات الربيع العربي الأساسية؛ فكيف للديموقراطيّة أن تكون، أو للمشاركة السياسية أن تتحقّق، إن لم يكن هناك محاسبة؟

ينتقل المثقّف من كلام إلى كلام يناقضه، كما القوى السياسية، وبمرونة أوسع. هكذا يأمل الجميع أن تُقبل منهم تراجعاتهم من دون اضطرارهم لوضع ما سبق وقالوه على الطاولة للبحث فيه. ليس فقط من باب الاعتذار، وربما ليس من باب الاعتذار البتة، وإنّما لتبيان كيف تمّت عملية التحليل الخاطئة، وما الذي لم يؤخذ في الاعتبار، للوصول لاستخلاصات تنفع التفكير في قادم الأيّام بعدما كان في غيابها ضرر. الأمر يبدو أكثر جذرية في بعض المطالبات، هناك من يسأل عما قيل عن سقوط النظام خلال أسابيع أو أشهر، أو عن الادعاء بغياب تنظيم “القاعدة” وما يشبهه، أو عن مديح الفوضى، أو عن إسلام معتدل بَشّرنا جميعاً به ولكن لم يره أحد حتى الآن. ربما يكون في مثل هذه الاتهامات مبالغة، ولا تُعدّ الإجابة عنها إقراراً بمضمونها، لكنها خضوع لسلطة الرأي العام. وهذا أصل من أصول الديموقراطيّة يوفّر في أحد جوانبه آليات تفكير جماعي، ويحافظ على علاقات الثقة بين الجمهور ونخبه، ويمكّنه من محاسبتهم، ويضعهم أمام مسؤولياتهم حين يجعلهم في يقين أن لكلّ سلوك ورأي مقابلاً، ليس إشادة ومجداً في الضرورة.

لا يبدو في الأفق أن هناك من القوى السياسية ما ينوي تقديم كشف حساب عما فعلته خلال زمن الثورة. تتعامل القوى الإسلامية مع الشعب السوري حتى اللحظة كأشباح، تختفي خلف مسمّيات مدنية وعسكرية يبدو أن لا نهاية لها. يعكس ذلك معرفتها بأن ما تفعله غير مشرّف دوماً ليُحسَب عليها، فيكفيها لاحقاً أن تزيل الواجهات التي عملت خلفها لتقيّد خطاياها ضدّ مجهول. مع تسجيل أن لتعدّد المسميات استخدامات أخرى لديها بالتأكيد، ومنها أنها تتيح لها إدخال مندوبين كثر في الائتلاف والمجلس الوطنيين؛ مرّةً باسم الحراك الثوري وأخرى المكوّن العسكري، وثالثة باسم القوى السياسية، بالإضافة إلى الشخصيات الوطنية. هذا يأتي من باب تعدّد المنافع ولا بدّ، وكلّها في هذا الموضع ترتبط بنمط من العمل ما دون السياسي، إن لم نقل إنه عمل عصاباتيّ. أمّا حزب الشعب، فلم يخبرنا حتى الآن عن نتائج استراتيجيته التي اعتمدها بالتحالف اللصيق مع “الإخوان المسلمين”، وإن كان رشح عن أوساطه في الائتلاف الوطني اتهامات لـ”الإخوان” تصل حدّ خيانتهم التعهّدات.

في إمكان أيّ من السوريين المتنعّمين حتى اللحظة بترف متابعة الفضائيات، هؤلاء الذين لا يزال عندهم بيوت وكهرباء وتلفزيونات، أن يتحدّث مطوّلاً عن فضائح المعارضة التي حرص الإعلام على نقلها بتفاصيلها، وغالباً على لسان أصحابها. ولكن أيّاً منهم لن يجد في جعبته شيئاً ليقال عن سياسيّ أو مثقّف خطّأ نفسه أو اعتذر؛ اللهمّ الاّ أحمد معاذ الخطيب، كما أشرنا سابقاً، الذي تحتاج الإجابة عن سؤال لماذا لم يتمسّك به السوريون مبحثاً آخر، ربما يكون جزء منه إجراء استقصاء إن كان أحد قد سألهم.

 كاتب فلسطيني سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى