صفحات العالم

فائض المعنى… بدل القوة


حسام عيتاني

الثورات العربية، وفي مقدمها الثورة السورية، مدعوة إلى إنتاج فائض في المعنى تقابل به وتدحض، فائض القوة الذي تستند إليه أنظمة الاستبداد العربية.

الثورة السورية في المقدمة لأنها اصطدمت بالنواة الصلبة للخرافة العربية. الخرافة السياسية التي تتحدث عن وحدة وطنية تُحَصّن الداخل ضد كل انحراف أو زيغ عن الولاء المطلق للرئيس وعائلته وطغمته المتسلطة، وعن انتصارات وأدوار وهمية على مستوى الكوكب تجعل الدول بكبيرها وصغيرها تطلب رضا الحاكم. والخرافة الثقافية التي تنسب لأهل العروبة إنجازات لا أصل لها ولا فصل في كتب التاريخ بل يقع أساسها في مخيلات مؤدلجة لشراذم من أنصاف المتعلمين الذين اجتاحتهم شهوة السلطة. وخرافة الاجتماع النافية لوجود فوارق بين المواطنين الذين يشكلون، في أدبيات الأنظمة، صخرة صماء لا شقوق فيها ولا ندوب، ولا عمل لها غير أن تتحمل ضربات العدوان الصهيوني الأميركي فيما هي تصد عن جسد النظام ورأسه أهوال سياسات خرقاء.

طبعاً، لا نقصد بـ «فائض المعنى» ما رمت إليه مقولة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي اهتم بالنص والسرد وبقاء معانيهما (أو فيضهما) بعد زوال السياقات التي انتجت النصوص والسرديات، أو بكلمات ثانية، تغير الدلالات وبقاء الكلمات. فريكور اهتم أكثر بالنصوص الأدبية والتاريخية ولم يتناول في أعماله، على ما نعلم، الراهن السياسي. بيد أن ذلك يبقي مجالاً للمتأمل فرصة الاستفادة من المصطلح في مجال ربما لم يأبه له ريكور. مجال أقرب إلى التناول اليومي لكنه قد لا يقل تعقيداً بسبب تداخل معطيات الواقع وتفاصيله وآثاره.

واعتمد النظام العربي، بصيغه المختلفة وصولاً إلى الجماعات الأهلية المسلحة في العراق ولبنان، فائض القوة لتكريس هيمنته على المجال العام وإحباط الخصوم ومنعهم من محاولة تحديه. ولا ريب في أن الثورات العربية كانت موجهة في بعض نواحيها، إلى فائض القوة الذي كان يلذّ للسلطات والأنظمة استعراضه. وغالباً ما يأتي اللجوء إلى فائض القوة عند الافتقار إلى «المعنى» في السياسة والثقافة والاجتماع. فيكون استسهال توسل القوة العارية، الجسدية والمسلحة، التعويض الوحيد عن قوة الإقناع وقوة التوافق وقوة التحالف. هذا ناهيك عن تهافت الهيمنة الثقافية واضطراب تلك الاجتماعية. وثمة شواهد كثيرة في الحالة اللبنانية، على سبيل المثال لا الحصر.

وتجد الثورات العربية نفسها اليوم أمام واقع تسارع القوى الدينية إلى ملئه بما يهدد بإعادة إنتاج أنظمة تسلطية استبدادية. فانهيار منظومات الأفكار المسيطرة في الدول الأمنية، وقبل ذلك انهيار أدوات السيطرة المادية من أجهزة امن واقتصاد وتعليم، يترك الساحة فارغة أمام من يحمل مشروعاً يتسم بحد أدنى من التماسك والتنظيم، وهذا حال الإسلاميين. لكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون مشاركة الإسلاميين في السلطة، من جهة، ودون احتضان القيم والفنون والرؤى التي انتجتها الثورات في صراعها ضد الاستبداد، من جهة ثانية.

ورغم الأثمان الباهظة التي يدفعها الشبان العرب في ثوراتهم على أنظمة القهر والقمع، لا مفر من الاستمرار في تبني قيم التنوع والديموقراطية والاعتراف بالآخر، والإعلاء من شأن الحرية الفردية والعامة كمدخل لا بد منه لتحرر المجتمع من قيود الاستلاب السابق. ويمكن القول إن ما تقدم به شباب مصر منذ سنة إلى اليوم، يحيي الآمال بيقظة تعم المجتمع المصري الذي بدا في الأعوام الماضية مصاباً بمرض النوم. الأمر ذاته ينطبق على سورية وتونس وغيرهما.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى