رستم محمودصفحات سورية

فاروق الشرع، الموظف الذي لم يستحق حتى شرف الطرد/ رستم محمود

 

 

كان قليلاً من «عدم الرضى»، هو ما صدر عن نائب الرئيس السوري السابق فاروق الشرع. ذلك القليل كان عن الآلية والمنهجية التي يريد بها النظام القضاء على الثورة الشعبية التي قامت ضده في ربيع عام 2011. لم يفعل الشرع ذلك انطلاقاً من مقام المعارض لجوهر النظام وآلياته ومؤسساته و»فلسفته»، ولا هو صادر عن ميول طائفية أو مذهبية تخص إنتماءه، ولا حتى لنزعة مناطقية جهوية، تخصه كحوراني منحدر من عائلة درعاوية، حيث دفع ذلك الإقليم السوري حصة الدم الأكثر غزارة في شهور المجازر الأولى، التي أرتكبها النظام ضد السوريين.

فقط لم يرضَ الشرع قليلا، أراد ذلك من موقع وعيه ل»مصلحة» النظام»، الذي كان يريد أن يقدم بعض التنازلات الشكلية، للحفاظ على استمراريته. فقط لأجل ذلك؛ استحق الشرع كل الذي طاله!

تم تهميشه بشكل كامل، وهو الوجه الدبلوماسي «المدني» للنظام منذ عقود عديدة. من ثم شُهر به، ولم يبالوا بأنه كان «الطفل المدلل» لمؤسس النظام، الذي بقي لسنوات وسنوات، وفي آلاف المناسبات والتحولات، بقي المدافع الوفي لخطاب النظام وسياساته، وفياً لشخص المستبد المؤسس، ومن ثم مباركا لآلية انتقال الحُكم للإبن وموالياً له. الشرع الذي بقي طيعاً ليناً ساكتاً راضياً، من دون أي أمتعاض أو ظهور، هُمش وعُزل وشُهر به، فقط لحالة «عدم رضى واحدة.

لم يلغ الأسد نيابة الشرع له عبر مرسوم رسمي، جدد لنجاح العطار كنائبة له، وترك الشرع حيث هو، من دون أي ذكر. لم يستحق عنواناً في الجريدة الرسمية، ولم تتم إقالته بقرار سياسي أمني. لم يُمنح شرف تقديم استقالته، ولم ينتحر بثلاث رصاصات في الرأس. تُرك الشرع كجيفة لا تستحق سوى التعفن، لتهترئ بلا مبالاة أو انشغال. جيفة لا تستحق حتى شرف الدفن كأي جثة ميتة.

تكشف «حكاية الشرع» ثلاث مركبات تأسيسية في بنية النظام السوري، وعلاقته مع «رجالاته-أزلامه» الذين مثل الشرع، نموذجاً بالغ التمثيل لهم:

ليس النظام السوري هو هؤلاء الذين يظهرون على المنابر الإعلامية الرسمية. وأركان النظام ليسوا هم الذين يشغلون مواقع معنونة وواضحة في هيكل الدولة. وليست بنية النظام هي التراتبية الظاهرة «الدستورية»، إذ ليس شرطا أن يكون الوزير أقوى سلطة من مدير مكتبه، ويمكن لضابط هامشي (ظاهراً) أن يكون صاحب قرار أكثر من رئيس الأركان نفسه. النظام السوري بنية وديناميكية غير ظاهرة، ومكورة على نفسها، لكنها بالغة الوضوح لمن أراد معرفته من دون الطمع به. نظام تقوم فيه جوهرانية وقوة المركز والوظيفة، على مدى ومستوى المنح من قبل رأس الحُكم للشخص المخول. ليست السلطة دستوراً أو قانوناً أو تراتبية أو موقع، أنها مجرد منح من مالك لأناس «أقنان» يلبون وينفذون إرادته وحسب.

الأمر الآخر، أن النظام السوري لا ينتمي للأشكال التقليدية للأنظمة الاستبدادية، إذ ليس فيه مراكز قوى «متصارعة» ومتنافسة في ما بينها، سياسياً وأيديولوجياً؛ بل ثمة إرادة رأس الحُكم وحسب، وثمة تحتها الأجهزة المنفذة. والمحاور الموجودة، والمتصارعة في ما بينها، إنما هي أجهزة تنتمي للعالم الرمزي ذاته والهوياتي والأدائي. ثمة فرق الجيش والأجهزة الأمنية الاستخباراتية والمؤسسات العنفية الرديفة. صحيح أنها غير متصالحة في ما بينها، وأنها تشكل محاور ضمن بنية النظام. لكنها بالأساس تنتمي للعقيدة والعصبية والولاء نفسه، وما تباينها سوى أداة من أدوات رأس النظام للسيطرة عليها مجتمعة، كي لا تجتمع بأي لحظة ضده. ليس في بنية النظام اي مكان أو خيار للذين هم خارج هذا السرب من التباين السطحي الوظيفي، ليس في النظام السوري آراء وتوجهات ورؤى، ثمة فقط أجهزة مختلفة، يجب أن لا تكون على قلب رجل واحد، كي لا تجتمع في أي وقت كان على الضد من إرادة رأس الحُكم. أجهزة لها مصالح وأدوار متباينة، لكنها جميعا دون إرادة ورؤية ومصلحة ووعي ذاتي، هي أجهزة فقط، وليس أبدا إرادات.

أخيرا، ليس لنظام الأسد وبنيته ذاكرة. مصلحة النظام وإرادته في الحاضر، وآليات استمراره في المستقبل، هما الأداتان الوحيدتان في عقله وسلوكياته، هما جوهر أحاسيس النظام ومعيار ميزانه. لا يبالي بالذين خدموه لعقود، ولا يسأل عن الذين ضحوا بأعمارهم وسمعتهم ومكانتهم في سبيله. نظام الأسد حاضر من دون ذاكرة، كيان مليء بالولاء لاستمراريته وحسب، وأي شيء مهما كان دوره و»عطاؤه» في سبيله، طالما لم يخضع للإرادة والمصلحة الآنية الراهنة، فإن مقامه بمقام أي عدو آخر، عدو كان يناصب النظام العداء منذ عقود طويلة، كالتي قضاها الموالي في خدمة النظام. في اي لحظة عدم التزام، يصبح خطر كليهما في السوية ذاتها.

لنتخيل فاروق الشرع وهو يمضي وقته الراهن في كتابة مذكراته، ما الذي يمكنه أن يرويه لأبنائه وأحفاده، لذوي ديرته وإقليمه، للسوريين على طول البلاد وعرضها. الشرع الذي أمضى عمره بقدراته الدبلوماسية، واستطاعته التكلم بأكثر من لغة ووجه ولسان، بوفائه وطاعته وقبوله. منح كل شيء لشرعنة واستمرارية سلطة آل الأسد، وهو الذي كان يدرك أكثر من أي أحد غيره، هذا الجوهر المقيت للنظام. النظام الذي لم يمنحه -بعد كل هذا- حتى شرف الطرد، فقط لأنه لم يرض، ولو لمرة واحدة لا غير.

ما الذي للشرع وأمثاله أن يقولوه للأجيال السورية القادمة، وأي عار سيحملونه؟.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى