صفحات الحوار

فاروق يوسف: بٍنْيَة الخليج يسّرت المشروع المعتبر استعمارياً

 

 

اسكندر حبش

الفنانون خاضعون للمؤسسة الفنية وللأجانب الذين تستعين بهم

رحلات كتابية كثيرة ومتنوعة خطها العراقي فاروق يوسف، وهي إن دلت على شيء، فعلى الكتابة التي تشكل الأساس بالنسبة إليه. آخر إصداراته «الفن في متاهة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) وهو كما يقول عنه «نوع من الاطلاع عما يفضح سلوكيات المؤسسة الفنية العربية وفنانيها وما تشيعه من أوهام». حول الكتاب هذا اللقاء الذي أجريناه معه مؤخراً في بيروت خلال زيارة الكاتب لها:

بين الشعر والنقد والتشكيل وكتب الرحلات، تتشعب رحلاتك الكتابية، أين تقف من ذلك كله؟ وما معنى هذا التنوع؟

^ السؤال ليس صعباً، لكن ليس من اليسير أن أدخل في تفاصيل العملية. كل شيء يحدث تلقائياً بالنسبة إليّ، امتزجت عليّ الأمور، ولم تعد هناك مسافات مرئية بين الشعر وكتابة النصوص التي تتعلق بالفن التشكيلي ووصف رحلاتي بين المدن والأماكن والأصدقاء. في الحقيقة بدأت أشعر بأني أمارس الكتابة التي أصبحت هي الأساس ولم أعد أفكر بجنس أدبي محدد، وبالأساس أنا لا أجيد الكتابة المنتظمة، غالباً ما تأتي كتاباتي مفككة ولا تقول الشيء الذي كنت أنوي قوله. وغالباً، عندما أراجع كتاباتي السابقة، اشعر بالأسى، لأنها من وجهة نظري الحالية، رديئة. ألوم ذلك الكاتب الذي كنته لأنه لم يكن يجيد الكتابة. لا يزال النص الذي أفكر فيه غير مكتوب، وهو نص لا ينتمي إلى أي جنس أدبي، حتى عندما أكتب ما يسمى بالنقد التشكيلي، فأنا أكتب بروح المسافر الذي أعيشه. ذائقتي الشخصية هي التي تتمكن من تحديد المسار وليست هناك معايير مدرسية أو أكاديمية تحكمني.

في كل ما أفعله، أتابع المسير وراء المشّاء والمسافر الذي كنت دائماً أحلم بأن أكونه. وهو حلم استطعت أن أحقق الجزء الأكبر منه. فأنا الآن مشرد كما كنت أريد أن أكون. مشرد بين الأمكنة وبين الأجناس الأدبية والفنية.

في كلامك نقد جريء لتجربتك، لكن أليست الكتابة هي تعّلم مستمر، وحين نقتنع أننا وصلنا فهذا معناه أننا انتهينا؟

^ بالضبط. لكنني لا أقول ذلك إلا بعد شعور عميق بما يمكن أن نسميه الفشل في تحقيق الوصول إلى النموذج الذي كنت أحلم في الوقوف إلى جانبه أو على الأقل بالقرب منه. ما زلت أشعر بالألم والأسى حين أقرأ نصاً، أشعربأنني عاجز عن كتابته. في الحقيقة تعلمت من الرسامين أكثر مما تعلمت من الكتّاب. تسحرني عادات الرسامين اليومية من جهة علاقتهم بالمواد، ومن جهة اختراقهم البياض، وما يلتقطون في الفراغ من كائنات لم تكن موجودة من قبل.

العولمة

ومع ذلك، فإن كتاباتك عن الفن التشكيلي، مثلاً، تثير الجدل دائماً. ما أريد قوله إن تجربتك الكتابية لها صدى واسع؟

^ غالباً ما أشعر بأن هناك واجباً أخلاقياً يجعلنا، أثناء الكتابة، نواجه الحقيقة بتحد. الحقيقة كما أفهمها شخصياً، لا الحقيقة المطلقة. أحاول أن تصل أفكاري المختلفة إلى الآخرين، من أجل النقاش، ومن أجل أن نصل إلى قواسم مشتركة في المشهد الفني. من جهتي لا أوافق على أن نكون متفقين على كل شيء، خصوصاً أننا نعيش الآن في أسوأ المراحل الثقافية، وهو كما أرى ما مهّد للانهيارات التي تعيشها المجتمعات العربية الآن. لو كنّا نملك ثقافة قوية لما سهل على الآخرين تهميشنا إلى الدرجة التي أصبحنا فيها نلتفت إلى الماضي بحسرة، وهو أمر يمنعنا من التطلع إلى المستقبل. لذلك من خلال كتاباتي عن الفن التشكيلي أريد أن أدق ناقوس الخطر، لا أريد أن أتواطأ مع وضع سيئ صنعناه بأنفسنا مجتمعين.

هل بهذا المعنى يأتي كتابك «الفن في متاهة»؟

^ في هذا الكتاب عرضت للنقاش مجموعة من المشكلات التي لا تتعلق ببنية الفن التشكيلي، بل بحركة السوق التي لا يمكن للأعمال الفنيّة أن تصل إلى المتلقي إلا من خلال وجودها. أعتقد أننا تأخرنا كثيراً في محاولة النظر إلى هذا النوع من المشكلات، إلى أن تمّ استبعاد الفنانين من قبل أسواق الفن وأصحاب الصالات الفنية، بحيث صار من الصعب على الفنانين أن يملوا شروطهم، كما أشعر بأن هناك جزءاً كبيراً من الكرامة قد فُقد ومن الصعب استعادته الآن. صار الفنان خادماً لعملية التسويق، وهو الجزء الأكثر ضعفاً كما أنه الأكثر خسارة.

أعتقد أن الفنانين ساهموا في صناعة هذا الوضع المختل كما النقاد أيضاً، من خلال الصمت. كلّ الظواهر الآن تشير إلى خنوع وخضوع الفنانين لإرادة المؤسسة الفنيّة، وبالأخص ما يتعلق بوجود الخبراء الأجانب الذين صارت تلك المؤسسة تستعين بهم، إلى درجة أنهم صاروا قيمين على الفن العربي، بالرغم من أن عدداً منهم يعترف بأنه لا يعرف شيئاً عن هذا الفن قبل قدومه إلى المنطقة. هناك خطر حقيقي كما أعتقد، يمثله مسعى أولئك الخبراء إلى إلغاء ذاكرتنا الفنيّة، وتوجيه الأجيال الفنية العربية إلى قطيعة تامة مع ما أنجزه الفن العربي خلال مئة سنة ماضية، تحت شعار مضلل وملفق باسم العالمية أو العولمة، وهي كذبة كبيرة. ذلك أن القيمين الأجانب عاجزون عن تقديم الفن العربي إلى العالم. إنهم يضحكون علينا.

مهدَّدون وجودياً

ألا تجد أن ذلك كله يمثل مشروعاً متكاملا.. بمعنى أن ما نلحظه اليوم أيضاً هو إلغاء جغرافيا بأكملها في السياسة، هل يكون إلغاء الفن والثقافة جزءاً من تلك العملية؟

^ أنا أعتقد أن الأبواب مفتوحة بين الثقافة والسياسة والاقتصاد. ما يحدث الآن للفن العربي هو مشروع سياسي اقتصادي. في العقود الماضية كان هناك وهم لدى المثقفين العرب المعنيين بشؤون الفن أن الموضوع لا يتخطى اختلافاً في وجهات النظر الثقافية، لكن بعد استبعاد رموز الفن العربي من أسواق دبي وأبو ظبي وبينالي الشارقة، وصولا إلى سوق بيروت للفن، تبين أن المشروع أكثر سعة وأكثر شمولا. بدأ ثقافياً وانتهى سياسياً واقتصادياً.

التقيت ذات مرة بإحدى المعنيات بتسويق الفن العربي في أوروبا، فقالت لي بصراحة إن هناك أموالاً في المنطقة العربية ينبغي الاستيلاء عليها. أعتقد أن البنية الثقافية في منطقة الخليج قد ساهمت بشكل أساسي في تيسير هذا المشروع الذي يمكن أن نسميه استعمارياً بطريقة مختلفة. الآن احتكار كل النشاط الثقافي من قبل خبراء أجانب واستبعاد كل الخبراء والفنانين العرب عن أسواق الفن واللقاءات الفنية التي تتم باتت واضحة، «فلت» القرار الثقافي من أيدينا، والمؤسف حقاً أن هناك عدداً كبيراً من الفنانين العرب لا يزال لديه أمل في استرضاء الخبراء الأجانب الذين اتخذوا قراراً نهائياً في استبعاد كل ما هو عربي.

ثمة يأس في هذا الكلام، هل معنى ذلك أن كل ما تم إنجازه في الفترات السابقة من «ثقافة عربية»، مصيره الاندثار؟ كيف تنظر إذاً إلى مستقبل هذه الثقافة؟

^ مبدئياً أنا لا أومن بوجود الثنائيات من نوع متشائم/ متفائل، أو يائس/ لديه أمل، في كل ما أقوله ليس هناك أي تشاؤم بقدر ما أحاول أن اصف الأحوال التي انتهينا إليها. لذلك يمكنني القول إنه إذا استمرت الأوضاع كما هي الآن فإن كل شيء في طريقه إلى الانقراض.

الفن يدعم الوجود الإنساني، لكن بدون إنسان يشعر بكرامته وحريته وسيادته على أرضه لا يمكن أن تقوم للفن قائمة، علاقة الفن بالإنسان علاقة جوهرية، لذا يجب أن نحرص عليها. الإنسان في منطقتنا يعيش وضعاً مزرياً وهو مطارد ومهدد بفكرة الإزالة أو الامّحاء، لذلك لا يمكن أن نفكر بحلول للفن ومستقبله ومصيره بمعزل عن التفكير بمصير الإنسان. نحن مهددون وجودياً، لذلك فإن أي حديث عن إنقاذ الفنون في هذه المرحلة ينبغي أن يمر من خلال إنقاذ الإنسان من الفقر والجهل والأمية والتهميش. جزء عظيم من المجتمع العربي تحول إلى قطعان من النازحين واللاجئين والمشردين.

أجرى الحوار: إسكندر حبش

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى