صفحات العالم

فتوى “قتل” الأسد!

د. أحمد يوسف أحمد
تثير حركات التغيير التي يشهدها الوطن العربي منذ السنة الماضية في عدد من البلدان العربية قضايا ملتبسة ومعقدة تتطلب إمعان النظر فيها وتبني مواقف محددة إزاءها، وليس هذا بالأمر السهل دائماً. وإحدى هذه القضايا تتعلق بتسليح المعارضة السورية الذي سبق أن ناقشته مبيناً مدى تعقد المسألة بين ضرورة حماية الشعب السوري من آلة القتل التي تنشب أظافرها فيه كل يوم وبين التداعيات الخطيرة على سوريا لمثل هذا العمل -أي تسليح المعارضة- والأمر نفسه ينطبق على دعاوى التدخل العسكري في سوريا أسوة بما حدث في ليبيا.
ولكن المواقف من هذه القضايا الملتبسة لا تبنى دائماً على أساس من الحسابات الرشيدة، وإنما قد تنبع من رغبة في المزايدات السياسية على أساس أنك كلما بدوت في مواقفك اللفظية أكثر ثورية اكتسبت مكانة أرفع بين الثوار. وقد طالعتنا منذ أيام في إحدى الصحف المصرية واسعة الانتشار فتوى منسوبة لأحد المنتمين إلى التيار الديني الذي كان يسمي نفسه في الشهور الأولى للثورة رئيس مجلس أمناء الثورة، ثم هو يُقدم الآن باعتباره أمين عام رابطة أهل السنة. تجيز الفتوى قتل الرئيس السوري بشار الأسد، وأن “من مُكِّن من قتل الأسد ولم يقتله فهو آثم”، و”من يقتل بشار فهو في الجنة”، وأضاف قائلاً “لو لم أكن معروف الوجه لذهبت بنفسي وقتلته، ومن يستطع أن يقتله فليقتله، وأنا أتحمل الدم عنه”، مؤكداً أن هذه الفتوى ليست فتواه وحده، وإنما هي فتوى أصدرها مئة من العلماء المنتمين لمختلف التيارات الدينية، مشدداً على أن قتل بشار أصبح فرض عين على الأمة.
ولا شك أن المسؤولين عن المذابح التي يتعرض لها الشعب السوري يجب أن يعاقبوا، ولاشك أيضاً أنهم لو حوكموا جميعاً محاكمة عادلة فإنهم سينالون جزاءهم، غير أن المسألة أكثر تعقيداً بكثير من فتوى تطلق في هذا الصدد سواء كان صاحبها فرداً أو مئة من العلماء، وثمة ملاحظات ضرورية ينبغي تسجيلها:
الملاحظة الأولى أن الفتوى صدرت من غير ذي اختصاص. فهو ليس رجل دين وإنما هو سياسي منسوب إلى التيار الديني، ولو أتحنا الفتوى لكل من يريد بغير قيد أو شرط لتورطنا في حالة من الفوضى أخطر ما فيها أنها تتخفى وراء الدين، كما أن صاحب الفتوى جعل من نفسه حكماً في أمور تتعلق بإرادة الله سبحانه وتعالي، فهو يدخل القاتل الجنة، وهذا كله ناهيك عن بعض الأمور الطريفة كالقول إنه لا يتمكن من وضع هذه الفتوى موضع التنفيذ لأن وجهه معروف، وكأن حراس الطاغية لن يهتموا إلا بمن يعرفون وجوههم! أو كأنه سيصل بسهولة إلى حيث يمكن قتل الطاغية، ولن يحول دونه ودون ذلك إلا كون وجهه معروفاً(!).
أما الملاحظة الثانية فهي أن الفتوى تشير إلى أن صاحبها لا علاقة له من قريب أو بعيد بالسياسة، فمشكلة سوريا تتمثل في وجود “فرد” يمكن وضع حد للمشكلة بقتله، وما أبسطه من تحليل يشير إلى الغياب التام للدراية السياسية. إن ما يحدث في سوريا اليوم ليس من فعل الأسد وحده، وإن أتى على رأس المسؤولين عنه بطبيعة الحال، وإنما هو نتاج منظومة كاملة قد لا يقل نفوذ الأعضاء القياديين فيها عن نفوذ الأسد إن لم يتفوقوا عليه، وهكذا فإن قتل الأسد أو غيره من الأفراد لن يحل المشكلة طالما بقيت هذه المنظومة، ومن هنا فإن المهمة الأساسية ليست هي قتل فرد وإنما تفكيك منظومة القتل التي تأتي على رأس غيرها من منظومة للفساد وحماية الرموز الأساسية في النظام، وهكذا. باختصار فإن النضال الأساسي لثوار سوريا يجب أن ينصرف إلى مواجهة النظام وتفكيك علاقاته، وليس قتل رأسه أو غيره من الرؤوس النافذة فيه، ذلك لأن قتل كل هؤلاء لن يحل المشكلة طالما أن النظام قادر على “تفريخ” عناصر جديدة تعيد إنتاج كل مساوئ النظام وآثامه.
وتشير الملاحظة الثالثة إلى أن الفتوى تعد عدواناً صريحاً على القانون والسلطة القضائية. صحيح أن التطورات السياسية تفرض ذلك أحياناً كما في واقعة القذافي الذي يعلم الجميع مدى إجرامه في حق شعبه، لكن قتله على النحو الذي تم أثار استياء الكثيرين من أنصار الثورة نفسها لما أدى إليه من تشويه لصورتها، كما أن واقعة القتل جرت على نحو غير مخطط فرضه الصراع الشرس بين النظامين القديم والجديد، والغِل الذي شعر به الثوار عندما وجدوه أمامهم. أما هنا فنحن إزاء رئيس ما زال في السلطة، وفتوى تضع منهجاً محدداً لقتله، وتدعو لذلك، وتقدم ضمانات للقاتل، ولو أن أحداً قد استجاب لها فلن يكون بمقدورنا أن نوقف موجات الفوضى في سوريا، وسنكون بذلك قد أرسينا مبدأ قتل الطغاة ليس في سوريا وحدها، وإنما في أي بلد عربي آخر بما في ذلك احتمالات أن تكون الأحكام عليهم جائرة طالما أن منطق الغوغائية السياسية -وليس السلطة القضائية- هو السائد.
وفي الملاحظة الأخيرة أشير إلى ما يشوب الفتوى من ازدواجية في المعايير. ظل الرئيس اليمني السابق شهوراً يمطر المناطق القبلية المعارضة له بوابل من القذائف، فضلاً عن كمية النيران التي استخدمتها قواته ضد الثوار، فأسقطت من أسقطته من الشهداء، ناهيك عن إصابة الآلاف، ولم تتناوله الفتوى من قريب أو من بعيد، مع أن الرجل بالإضافة إلى ما سبق حصل كما نعلم جميعاً على حصانة قضائية كاملة فيما ارتكبه من جرائم، بل لقد أصر على العودة من الولايات المتحدة بعد أن كان التصور أن يبقى هناك، وذلك بدعوى تسليم السلطة للرئيس الجديد في إشارة إلى أن كل ما تم من تغيير قد تم برضاه، ثم هو ما زال رئيساً لحزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتقاسم الآن السلطة في الحكومة مع أحزاب المعارضة، وما زال مجلس النواب الذي انتخب في عهده قائماً، بل لقد وصل به الأمر إلى أن يشترط مغادرة عدد من قيادات المعارضة اليمن، ومنها أخوه اللواء علي محسن الأحمر الذي انشق بفرقته العسكرية تأييداً للثورة، وكان ضمانة قوية لعدم الفتك بالمشاركين فيها، وهو بهذا -أي الرئيس اليمني السابق- يحاول أن يثبت أن ما حدث لا يمثل تغييراً من أي نوع. ورجل كهذا الرجل لا مكان له في فتوى قتل الأسد مع أن جرائمه لا تختلف عن جرائم الأخير وإن كانت أقل منها في الدرجة!
لو أن كلاً منا قد لزم حدوده، وتوقف عن إقحام الشريعة الإسلامية فيما يجوز وما لا يجوز، لأصبحنا في تقديري في وضع أفضل كثيراً مما نحن عليه الآن، ولاستطعنا أن نباشر عملية ترشيد خطى الثورات وعمليات التغيير في الوطن العربي على النحو الذي يجعل منها إضافة إيجابية للمستقبل وليس تقويضاً له. أما إطلاق الأمور على عواهنها كما ورد في الفتوى موضوع هذا المقال فهو طريقنا الوحيد إلى فوضى شاملة هي آخر ما نحتاجه في الظروف الراهنة.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى