مراجعات كتب

“فتيان الزنك”/سفيتلانا ألكسييفيتش

 

 

من أجل الجارة أفغانستان/ حسن داوود

لو أمكن لتلك الأم أن تختار لفضّلت أن يعود ابنها في واحد من توابيت الزنك التي كانت تأتي بها الطائرات من أفغانستان. لم تستطع احتمال بقائه حيا بعد قتله رجلا، بالساطور، وبدم بارد، وتقطيعه إربا «على الطريقة الأفغانية» بحسب ما وصف الجيران.

تقول تلك الأم إنها تحسد الأمهات اللواتي عاد أبناؤهنّ من دون سيقان.. حتى لو راح ابنها يكرهها حين يسكر، كما يفعل أولئك الذين فقدوا أطرافهم. أو «يكره العالم بأسره، وينهال عليها بالضرب كوحش (…) إنني أحسد جميع الأمهات اللواتي يرقد أبناؤهنّ في القبور..». لو حصل ذلك لكان سيبدو عاديا، في السياق المفهوم الذي وجدت نفسها فيه كلّ الأمهات اللواتي قضى أبناؤهنّ في الحرب هناك. وهي، مثلهن، ستشعرعند ذاك بتلك السكينة المهدّئة، المخدّرة للألم، وسيخيّل لها أنه، وهو في قبره، سيأنس بالزهور التي ستحملها إليه. أليس ذاك أفضل من سماع نباح الكلاب الذي لا تعرف إن كانت تسمعه أو إن كان يطلع من رأسها وحده ولا يتوقّف أبدا، لا في الليل ولا في النهار؟

وهو، الابن، ظلّ على إثر الجريمة كما كان قبلها. ملامحه المبتعدة، بل الغائبة، ظلت كما هي، وكذلك ظل صمته، بل أنه، حين عاد إلى البيت بعد دقائق من ارتكابه تلك الجريمة، أعاد الساطور إلى مكانه في الدرج، هكذا كأن شيئا لم يكن. وحين أودع في السجن شاءت أمه أن تعرف كيف يمكن لابنها أن يَقتل، وقد ذهبت إلى موسكو من أجل ذلك. هناك في مستشفى بوردينكو حيث يعالج شباب القوات الخاصة راحت تسأل الفتيان زملاءه: «يا شباب ، لماذا استطاع ابني قتل إنسان؟». وهم أجابوها ببرود قائلين «إنه لا بد وجد سببا لذلك».

ولم يولّد الحديث عن القتل عند هؤلاء أي شعور «مما يحصل عادة لدى أي إنسان عادي لم يشاهد منظر الدم». وهم كانوا يتحدثون عن الحرب «بصفتها عملا يجب فيه قتل البشر». لكنهم، بعد أن عادوا منها ظلوا كما كانوا هناك فيها، أي أن ذاك الفتى قتل هنا مثلما كان يقتل هناك. ففي الحرب التي سيقوا إليها لم يعبأوا بقدر كاف من الكراهية والغضب قبل أن يبدأوا بإطلاق الرصاص. في المقابلات التي أجرتها سفيتلانا أليكسييفيتش مع الكثيرين الكثيرين الذين عادوا من هناك، لم يشر أحد إلى كرهه لمن كان يقتلهم. كان ذلك يجري آليا، تنفيذا للأمر السريع الذي يأتيهم أن أطلقوا النار. لكنهم سرعان ما اعتادوا على ذلك، بل وتعلّقوا به. في شهاداتهم هناك من ذكروا بأنهم كانوا يعمدون إلى القتل من دون أوامر، وخارج المعركة، فيصوّبون على رجل ويقتلونه لمجرد حاجتهم إلى قتل السأم.

في تلك الشهادات التي جمعتها ألكسييفيتش من جنود وضباط برتب مختلفة وممرضات وطيارين وأطباء وأمهات جنود قتلى ومستشارين وعسكريات ومتطوعات وسكرتيرات أُخذن إلى هناك للترفيه عن الضباط غالبا، وموظفات واختصاصيات في علم الجراثيم، غيّرت أفغانستان جميع من قضوا فيها خدمتهم. في تقديمها للكتاب لم تذكر المؤلّفة ألكسييفيتش حتى عدد الجرحى والمشوّهين فهؤلاء ربما ينبغي إحصاؤهم بمجهود فردي طالما أن الإحصاءات الرسمية، أو المعروفة، تكتفي بذكر عدد القتلى (15051 قتيلا) أو عدد الأسرى والمفقودين. ولنضف إلى ذلك أولئك الذين كان يصعب تبيّن أمراضهم من مجرّد رؤيتهم، على نحو ما يُرى أولئك الذين فقدوا أجزاء من أجسامهم. هؤلاء الذين هم مثل الفتى ذاك، قاتل ضحيّته بالساطور، والذين هم مثل مَن قصدتهم أمه إلى المستشفى في موسكو، وكذلك مثل الذين توجّهوا إلى أرمينيا بعد الزلزال مرافقين فصائل الإنقاذ. «لم يشعر هؤلاء بأي خوف هناك، حتى أن مشاعر الشفقة كانت قد خمدت لديهم. الأجساد البشرية الممزقة، المدهوسة، والجماجم والعظام» لم تثر مشاعرهم. وحين عادوا من هناك بدا أن أشياء أخرى استحوذت على اهتمامهم مثل «مستودعات النبيذ الغنية التي أخرجوها من تحت الأنقاض، وأي صنف من الكونياك او من النبيذ شربوا…».

هكذا كانوا هناك في أفغانستان. ما كان صعبا إدراكه هنا في الاتحاد السوفييتي بدا ظاهرا بل مضخّما هناك في ظل تسلط الضباط والجنود الذين سبقوهم فكانوا أكثر تمرسا بالخدمة. هناك كان الفساد جاريا من دون رقابة، ومن دون حاجة إلى إخفائه. الرشوة، السرقة، التحكّم المطلق الجائر، القتل من دون سبب، وتحويل النساء إلى بغايا لأصحاب الرتب. ما كان صعبا ظهوره في الاتحاد انفجر هنا مثل قنبلة هائلة أخرجت موادها البشعة والمسمومة.

محاولات الفرار من ذلك الجحيم كانت ممكنة لقليلين بشراء قدحين من بول مصاب باليرقان ليشربه الشاري فيمرض، أو يتلف أحدهم أصابعه بزناد المدفع الرشاش، كانت هذه من الذرائع التي كان يلجأ إليها الساعون إلى الهرب، الذين سيُعادون إلى بلدهم «في طائرة واحدة مع توابيت الزنك والحقائب الحاوية على معاطف فرو الضأن وسراويل الجينز والملابس الداخلية النسائية، والشاي الصيني».

أما ما كان الإعلام يذيعه هناك في روسيا فهو أن أولئك الشبان كانوا يخوضون حربا أممية لإدخال الجارة أفغانستان في العصر الاشتراكي الجديد. وإذ بدا أن الإعلام شاء الاعتذار عن ذاك الفشل الذريع سمّى ما حصل، بهوله كله، «خطأ بريجنيف»، أو جعله بندا في قائمة تلك الأخطاء.

«فتيان الزنك» رواية من نوع فريد إذ هي جارية فصولا على ألسنة أولئك الذين كانوا ضحايا الحرب الأحياء، أو أمهاتهم إن كانوا قد صاروا قتلى في القبور. هي رواية حرصت كاتبتها على أن يقال فيها كل شيء، ولا يهم إن قيل الشيء مرة أخرى، أو مرّات كثيرة إذ أن الكاتبة هنا هي بصدد جمع كلّ ما يمكّنها من أجل إجراء المحاكمة. أما الأدب، الفن الأدبي، فيمكن البحث عنه في تلك التفاصيل التي لا حدّ لاتساعها وللصدمات المهولة التي تحدثها.

الكتاب، أو الرواية، تعرّضت بدورها للمحاكمة بعد أن طعن الكثيرون بما سبق لهم أن أدلوا به. لم يعلموا أن معاناتهم هناك ستستكمل هنا، لكن في المساءلة هذه المرة. أغلب هؤلاء المتراجعين عما قالوه هم الأمهات. لم يدر في خلدهن، حين كنّ يدلين بتلك التفاصيل، أن أقوالهن ستشيع إلى هذا الحد، في بلدان الاتحاد السوفييتي كما في خارجه.

*كتاب «فتيان الزنك» لسفيتلانا ألكسييفيتش (الحائزة جائزة نوبل للعام الماضي 2015 ) نقلها عبد الله حبة إلى العربية عن «دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع» في 366 صفحة.

٭ روائي لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى