صفحات مميزة

“فدوى سليمان” وداعا

سلامات أيتها الشجاعة/ رشا عمران

كنا ننتظر نشرات الأخبار على فضائيات العالم، لنشاهد البث الحي لمظاهرات الخالدية والبياضة والوعر في حمص العدية. أتذكر حالة الفخر التي كان كثيرون منا يشعرون بها، ونحن نشاهد عبد الباسط الساروت، العشريني الأسمر حارس مرمى نادي الكرامة السوري لكرة القدم، ترافقه الممثلة السورية الشابة فدوى سليمان، وهما يقفان على منصةٍ في ساحات الخالدية والبياضة، محاطين بشباب حمص، وبآخرين قادمين من مدن أخرى. كان الساروت وفدوى يهتفان ويغنيان، وكنا نردّد معهما الغناء في بيوتنا. لم يكن في سورية من لم يسمع بهذا الثنائي الاستثنائي، وكذا في العالم الذي كان يتابع ما يحدث في سورية أيضا. وجودهما معا، شاب وشابة سوريان من طائفتين مختلفتين، في وقتٍ كان النظام ومؤيدوه يركّزون على أن ما يحدث في سورية إرهاب ضد الأقليات. وكان وجود فدوى العلني في حمص، برفقة الساروت، ردا صريحا على ما يروّجه النظام.

لم تكن حمص محطة فدوى الوحيدة، ربما كانت محطتها ومحطة الثورة الأخيرة، قبل أن تتحوّل الثورة إلى السلاح والأسلمة، وقبل أن يبدأ تجار الدم والدين والسلاح بالسير على خطى النظام في تأكيد أن ما يحدث في سورية ليس سوى انتفاضة إسلامية، نازعين صفة الثورة الشعبية وشعارات الديمقراطية والتعدّدية والحكم المدني عنها. في تلك الفترة، خوّن كثيرون فدوى، وحرّضوا ضدها، كما فعلوا مع كثيراتٍ غيرها ممن ينتمين إلى الأقليات السورية، وشاركن السوريين الثائرين مظاهراتهم وحصارهم ووجعهم في بلداتهم ومدنهم المحاصرة. في الوقت نفسه، كان بعض أفراد عائلتها يتبرأون منها، ويتهمونها بخيانة الوطن.

لم تترك صفحات “فيسبوك” ومواقع النت السورية الموالية للنظام، وبعض المناهضة له، تهمة تمسّ سمعة امرأةٍ إلا وألصقوها بفدوى سليمان التي كانت، قبل حمص، تتنقل بين بلدات ريف دمشق، برزة ودوما وحرستا وعين ترما وقدسيا، فدوى التي كانت في كل مظاهرات العاصمة دمشق، وفي كل حراكٍ مدنيٍّ في 2011، فدوى التي كانت شجاعتها وجرأتها ذلك الوقت مثار استغراب لنا، نحن الذين كنا نخاف، إذا رأينا شبّيحا يحمل عصا بيده، كانت تقف هي في وجهه هاتفةً بذلك الشعار الخالد “حرية..”. وكغيرها، ممن لوحق وحوصر وفقد أي مكانٍ له، غادرت فدوى سورية، بعد المآلات المؤسفة للثورة. رحلت إلى باريس، حيث استقبلت هناك واحدةً من أيقونات الثورة. كانت هي هكذا فعلا، غير أنها، كغيرها، لم تحتمل كل ما حدث، الخسارات الكبيرة في الثورة، التحولات التي أصابت رفاق طريقها، الغربة واليأس وفقدان الأمل، الهوة العميقة في الروح التي تحدث نتيجة فاجعة الفقد.

فقدت فدوى وطنها، الوطن المكان والوطن الحلم، فقدت صوتها العالي الذي سمعه العالم، أسكت صوت السلاح وصراخ الدم صوت هتافها وأغنياتها. ومثل كثيرين غيرها، كان الخذلان والخيبة يعيشان معها. ومثل كثيرين، عاشت حالة النكوص المرعبة. كان نكوص بعضهم نحو ماض متحجّر بعد أن صار المستقبل الحلم تحت التراب. وكان نكوص آخرين فرديا يبحث عن خلاصٍ شخصي. وبعضهم، ومنهم فدوى، كان النكوص على شكل مرضٍ يأكل أجسادهم شيئا فشيئا. أصيبت فدوى بسرطان الرئة، يا للعجب، كأنه كان يعرف أن رئتيها لا تصلحان للتنفس خارج سورية التي أحبتها، وحلمت بها بهيةً وعالية. قليلون من عرفوا بمرضها، كانت في باريس تمر بانقلابات نفسية عديدة، شأن الجميع، غير أن انقلاباتها كانت محط النظر، كما كان وجودها في الثورة.

لم نفهمها جيدا. أنا من هؤلاء، لم أقدّر حالتها، وما يمكن أن تكون قد مرّت به. انقطعتُ عنها، ولم أعرف عنها شيئاً إلا أخباراً متفرقة، كان آخرها عن مرضٍ تعاني منه. هل لهذا ارتجّ كياني حين قرأت خبر رحيلها؟ هل لأنني اكتشفتُ كم كنت متنمرةً وغبيةً حين انقطعت عنها لأسباب تافهة؟ سلامات، يا فدوى. سلامات، يا شجاعة. سلامات كان يجب أن أرسلها إليك منذ زمن، لكنني لم أتوقع رحيلك قبلي.

العربي الجديد

أي سوريّة هذه يا فدوى؟/ عمار ديوب

تتّقد عيناها بلمعاتٍ حادّة. هكذا رأيتها أول مرة مع ثلّةٍ من شبابٍ ثائرين، يحاولون فتح بوابات السماء. تكاد تخنقُها كلُّ كلمة تنطقها، حيث الزمن الجميل في الأشهر الأولى من 2011، والبلاد تغلي بكلّ أشكال الحراك الثوري، وبالرقص والغناء والاحتفالات والمبادرات، وكذلك بالقتل والاعتقال اليومي.

كانت السيدة الحالمة منصهرة بكل حدثٍ يجري هنا وهناك. شقّتها المستأجرة قرب ساحة الشهبندر كانت موئلاً لنشاطاتها مع رفاقها ورفيقاتها. كانت نشاطاتها لا تنتهي، من قلب دمشق حيث شارع الحمرا والصالحية، مروراً بدرعا وإلى أحياء دمشق المهمّشة، ثم الغوطة شرقاً وجنوباً وغرباً، ثمّ إلى حمص، وهناك كان استقرارها الأكبر حيث الخوف من “الفتنة الطّائفية” والتأسيس لدمار سورية. هناك كانت عاصمة الثورة، فكيف تغيب عنها، وقد طرح اللئامُ أنّها طائفية؟ رفضت، كما أهل حمص، التهمة فاستقرت هناك، ولم تتردّد في إلقاء الخطب من أقوى المنابر الثورية، فأكّدت سلمية الثورة ومدنيتها وشعبيتها.

فدوى سليمان التي استشعرت الخطر من النظام ومن الإسلاميين، ومن الخطر على الناس الذين حموها من بيتٍ إلى بيت؛ غادرت حمص وتخفّت بضعة أشهر في دمشق. كان خوفها كبيراً من النظام ومن الرحيل عن سورية؛ فلمن ستترك البلاد، للنظام الذي يدمرها أم لإسلاميين معتقلين لديه، وقد أفرج عنهم وسَهّل لهم الانطلاقة والسلاح والمال ومدعومين من دولٍ إقليميّةٍ، وبقصدٍ تخريبَ الثورة بالتدريج، ومحاصرة أيّة شعبية وسلمية للثورة، وأسلمتها وبالنهاية جعلها مقبرة؟

تركت حمص لكي لا تُحمّل أهلها، أهل الثورة، مسؤولية دمها. تركت سورية، لأنّها إن ظلّت فستعتقل وستقتل كما ظنّت وظنُّها صحيح. أخافتها دعوات التأسلم ودعوات السلاح والتدخل الخارجي؛ فثورة الشعب، كما رأتها، كانت من أجل حياةٍ أفضل للناس، وليس من أجل معارضة فاشلة، أو لتسليم البلاد لإسلاميين أو للتدخلات الخارجية.

لدى فدوى إيمانها الخاص، وفيه تتجاوز البعد المذهبي والديني، وهي تعلن ذلك في خطبها، فتكرّر كلماتٍ للأنبياء السماويين والأرضيين. يمكن متابعة بُعدها الصوفي مما كتبت، ومن نمط حياتها داخل سورية وخارجها، فحين وطأت أقدامُها الأردن، سألها خفر الحدود: هل كنتم لاجئين من قبل؟ هنا سقطت أرضاً، فقد أصبحت خلفها حوران وكل البلاد، ولن تطأ أقدامُها البلاد مرة أخرى ولزمنٍ طويل، وقد أصبحت لاجئة.. قتلها ألمها ذاك تماماً.

“لدى فدوى سليمان إيمانها الخاص، وفيه تتجاوز البعد المذهبي والديني، وهي تعلن ذلك في خطبها، فتكرّر كلماتٍ للأنبياء السماويين والأرضيين”

رغبت، ككل شخصية متميزة ومتفردة، بإعلان حركة سياسية تشبهها، وسمّتها “سوريا كما نحب”، وضمّنتها مبادئ تتسق مع شخصيتها في عدالة اجتماعية وديمقراطية وتسامح مجتمعي، كانت تريد إنقاذ الثورة بأي شكل. لم تغيّر موقفها من النظام الديكتاتوري، وأنه يجب أن يسقط، لكنها أيضاً رفضت كل مؤسسات المعارضة التي لم تفهم الثورة، وبدلاً من أن تثق بها، وثقت بأوهامها بالخارج الإقليمي والدولي، وهذا ما حولها إلى مجموعات تابعة لتلك الدول، وهو ما أفشل أيّ عملياتٍ توحيدية لمؤسسات المعارضة أو الثورة، فظلّت تلك المؤسسات مشتّتة ومتفرقة؛ فليس من قيادةٍ موحدةٍ، سياسياً أو عسكرياً أو مالياً، وفي كل متطلبات الحياة.

لم تتصالح فدوى سليمان مع الغربة أبداً. ربما يتوهم بعضهم أنّها، باعتبارها فنانة، ستعيش هناك كما أميرة، وتحقّق كل رغباتها، وهذا ممكنٌ لو شاءت. لم يحصل. كانت روحها في الداخل وجسدها في الخارج. قتلها اللجوء، وكان واسطته إليها المرض الخبيث.

أجبر النظام أخاها على التنديد بها على فضائيته، قال لها كلمات العتاب بكل رقّة. عذرت أسرتها؛ لأن رقابهم تحت المقصلة. حوربت فدوى من النظام وحاشيته ونقابة فنانيه، وكذلك من المعارضة المتأسلمة، فهي “مدسوسة وعلوية…”. وهناك من جعلها عميلة للفرنسيين. لا يمكن تعليل الاتهامات التي طاولتها وتطاول غيرها بالحرمان الطويل من الحريات في سورية، وسيطرة التفسير المؤامراتي وغير الذكي على العقول، وقد نال فدوى كثير منه، فهناك أيضاً التفكير الطائفي، والذي قتل الثورة وساهم بقسطه في دمار سورية.

حين كنت أناقشها في أن تعود إلى المسرح والفن والشعر والتلفزيون والسينما، فذلك ميدانها وفيه يمكنها أن تحارب، كانت تنظر إلي بشفقة، وتجيب إن التاريخ فتح الآن أبوابه، وعلينا العمل من دون توقف، والناس يحتاجوننا.. ألا ترى؟ كانت حياتها هكذا في سورية، وحينما أصبحت “لاجئة” كان الإحباط، العزلة، والدخان.

تستحق هذه الفنانة أن تكون من أيقونات الثورة السورية. كانت حالمة وطوباوية؛ ضد القتل والسلاح والأسلمة والتطييف، وتمسّكت بأهداف الثورة السورية، كما في سنتها الأولى حتى موتها اللئيم: الشعب السوري واحد واحد واحد.

تقول مي سكاف معلقة “أنت سباقة يا فدوى في كل شيء”. كانت كذلك، ورفضت مدّ اليد في هذه السنوات، ولم تعلن عن مرضها، ولم تهتم بحياتها، فقد تساوت لديها الحياة والموت بالمقدار ذاته… تغادر مسرحنا المدمر، ونظل ننتظر الممثلة.

العربي الجديد

رسالة فدوى.. كيف نمسح الأحمر بالأبيض/ سوسن جميل حسن
الحزن على موت فدوى سليمان، بحجم الحزن على موت أي سوري في الحرب الجارية الغادرة، فدمها مثل كل الدم السوري، وخلاياها لا تحمل جينة إضافية تتميز بها عن باقي السوريين، لكن لموتها طعم الفجيعة المر الحارق الكاوي، إنه يشبه إعدام الأمل الغائص في لجة عميقةٍ عاتمةٍ، بعد أن استمرت حياته نابضةً على نسغ هذا الحلم، حلم النجاة.
لا يمكن فك الارتباط بين موتها والمصير السوري الذي لم يعد وصفه ممكنًا، كما لم تعد الشاشات التي تفننت في عرضه قادرةً على فبركة صور ومشاهد جديدة، بعد أن وصلت عروضها المواكبة للحدث السوري، أو التي سبقته أحيانًا، إلى تحقيق الهدف بنسبة تفوق المائة في المائة، أو تزيد عن الطموح المرتجى.
فدوى سليمان، المرأة المستضعفة في مجتمع ذكوري يعيش تحت ظل نظام قمعي شمولي، المنحدرة من بيئة “علوية”، مثلما يفرض الواقع الراهن ذكر هذا المنبت، إكمالا لشروط الهوية السورية الجديدة التي فرضتها سبع سنين، ليست “عجافًا”، فالقحط سيتصدر الحياة بعد حين، بل سبع سنين من البيادر التي تشوى فيها الأجساد والأرواح، فدوى سليمان ممثلة المسرح التي لم تغادر خشبته إلا إلى كفنها، تاركة صدى صورتها يتردد في وجدان الشعب الذي أسكنته بين القلب ونبضه، بعد أن أسدلت الستارة على المشهد الأخير، حيث كانت فدوى، البطلة الوحيدة في نصها التراجيدي، تذوي مثل شمعة في انطفائها الأخير.
عندما صمتت فدوى “الحزينة”، وعضّت على جرح خيباتها، هي المرأة الحرّة التي لم يرَ فيها بعض المعارضين “الثوار”، وبعض الموالين، غير “علويتها”، فوصمت بالخيانة مرتين، نسيها من يدقّون على طبول الثورة، ليقضّوا مضاجع النائمين في المريخ، بعد أن أشاح العالم بوجهه عنهم، وحوصروا بعزلةٍ ما زالت تضيق حدودها بهم، منذ خذلوا الشعب المنكوب، فأخرسوه
“احتضرت فدوى سليمان في ربيع عمرها، هي والثورة السلمية المدنية التي حلمت بها. هذا هو المؤلم في موتها حدّ الفجيعة” بوعودهم المؤجلة، بعد أن انتزعوا منه صك وكالةٍ حصرية، عند صمتها استمرؤوا نسيانها، وعندما ماتت دقّوا طبولهم من جديد، منهم من يريد أن يجعلها بطلةً، ومنهم من عمد على تسفيهها، منهم من رسمها شيطانًا، ومنهم رأى فيها ملاكًا، بل منهم من استنكر نعيها، باعتبارها “كافرة”.
وقد كانت فدوى “الكافرة” بالنسبة إلى نفسها ليست أكثر من “فدوى” المرأة السورية التي تمرّدت على السلاطين الجائرة كلها، وانتفضت في وجه الاستبداد، من استبداد الأسرة إلى الطائفة إلى الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية، انتمت إلى إنسانيتها ودافعت عن الحقوق المهدورة، واستصرخت الضمائر لتلتفت إليها، وإلى الظلم المطبق على أرواح السوريين. كانت أعمق من محيطٍ عذب، وتحمل صدرًا أوسع من فضاء. هي التي حملها ورمها الخاص، وصارعته بمفردها، لتتحدّى السرطان الأخطر بمحبةٍ تسامت فوق أوحال الواقع السوري المستحدث من طمي الحرب. تقف في إحدى الساحات الفرنسية، لتشارك السوريين في دعم الانتفاضة التي في الداخل، لم تعتبر موقف أحد الأشخاص المؤثرين من الطائفة “النصيرية”، كما يسميها في تصريحاته العلنية، ولا اتهامه نساءها بالفجور والتهتّك الأخلاقي والانحلال، وهو اليساري العتيد السابق الذي كانت له كتبه وأبحاثه في قضايا الشعوب، لم تعتبره موقفًا شخصيًا ثأريًا مطلوبا منها الرد عليه، فهي صاحبة الصدر الواسع والانتماء الشاسع السامق الشامخ إلى سورية، وشعب سورية هو القضية الأساسية، والمحبّة وحدها رسالةٌ جديرة بحمل الصليب إلى الجلجلة، علّ نزيفها يرجع أمثاله عن غيهم، فيعودون إلى الالتصاق بجسد الشعب، ويساهمون بترميم ما انعطب من روحه، ورتق ما يتفتق من جروحه.
“كيف نمسح الأحمر بالأبيض؟” كان هذا سؤالها ومنه رسالتها، على الرغم من أنها كانت ترى “الممر المظلم أمامي كان الزمن ما يزال يسيل فيه”. لكنها مشت في درب غربتها وتغريبتها، كانت حاملةً المحبة في قلبها، ورسالة السلام في صدرها، مؤمنة بعمق بدور الفن، وقدرته على التغيير. لم يقتصر اهتمامها على الشعب في الداخل السوري، بل تابعت السوريين في بلدان اللجوء، بغض النظر عن موقفهم من الحراك أو الحرب، فللسوريين قضايا أخرى، فرضت نفسها ملحقا لمأساة العصر التي ألمت بهم، قضايا يفرضها منطق اللجوء وطباعه.
أرادت فدوى أن تشتغل هناك على مستويين، مستوى اللاجئين أنفسهم، بحماية وعيهم من التلوث، ومستوى مجتمع اللجوء لتسليط الضوء على الفرد السوري، صاحب التاريخ والحضارة الإنسانية، الفرد الذي تريد كل الأطراف الضالعة بمحنته أن تلبسه النقاب واللحية والعمامة،
“انتمت إلى إنسانيتها ودافعت عن الحقوق المهدورة، واستصرخت الضمائر لتلتفت إليها، وإلى الظلم المطبق على أرواح السوريين” وتحمّله السيف، وتجعل من نسائه قطيعًا يلحق حامل السيف. أرادت فدوى أن تزيل الغشاوة عن أبصار الشعوب الأخرى، وتمحو الصورة المشوّهة التي كرّسها الإعلام، وتقول للعالم إن السوري ليس إرهابيًا، و”داعش” ليست منا، وجبهة النصرة صادرت مجالنا الحيوي، وذلك كله لأننا أردنا حريتنا وكرامتنا وصرخنا في وجه نظام جائر مطالبين بهما، بصدورٍ عارية، فواجهنا الرصاص، وكان السلاح موفورًا من أجل لحظةٍ كهذه.
كانت فدوى سفيرة، ليس النيات الحسنة فقط، بل الأعمال الحسنة، والرسالة الحسنة، فعملت على “مسرحة” آلام الشعب السوري وقضاياه، وتوجّهت بعروضها الحية، والمقصود بـ “حية” هنا أنها العروض التي كانت تعيش أدوارها في تلك اللحظة التي تمّحي فيها الحدود بين التمثيل والحياة، فقد كانت تعيش الحياة التي امتلأت بقضية وطنها وشعبها على الأرض، في الشارع في الميادين في الوقفات الجماعية، مستعيضةً بها عن الخشبة، لتصنع مسرح الحياة، وتجعل الحياة ممسرحة حالمة بأن تختصر السبل إلى قلوب الناس ووعيهم، منذ اعتلت المنابر المرتجلة في ساحة الساعة في حمص، لتعيش دورها، مثلما لو أنها تنقلب مثل القفازات، وتصدح بصوتها مخاطبة تلك الجموع التي خذلتها الغالبية، كانت تقف بجانب عبد الباسط الساروت. ويا لمهازل القدر، أو يا لسورياليته الفادحة، شخصيتان امتلكتا من الجماهيرية ما يكفي لتكونا محرّضتين للمشاعر الثورية في أسمى تطلعاتها، بما كانتا قد حققتاه، كل واحدة في مجال إبداعها من موهبةٍ ونجوميةٍ حاضرة في الوعي العام، افترقتا، بل فرّقهما السلاح وعسكرة الثورة، وليس هذا بسبب بسيط، إنه “الساطور” الذي قصم ظهر الثورة، ورماها تنزف دماء أبنائها تحت الشمس الجبارة، كما جبروت الأنظمة التي عاثت في بلادنا.
فدوى سليمان، لشدة التصاقها بقضايا شعبها، عاشت ألمه، وقاومت الموت منذ سطا السلاح على ثورته، فاحتضرت في ربيع عمرها، هي والثورة السلمية المدنية التي حلمت بها. هذا هو المؤلم في موتها حدّ الفجيعة.
العربي الجديد

فدوى ونساء الثورة/ ميشيل كيلو
يُذكّرنا رحيل الفنانة فدوى سليمان بالتناقض بين دور المرأة السورية في الثورة، الاستثنائي بجميع المعايير، وتغييبها عن مؤسساتها. ويذكّرنا أيضاً بأنهن ذلك القطاع من المجتمع السوري الذي تخطت أدواره النضال في سبيل التحرّر السياسي من الاستبداد إلى النضال من أجل تحرّر المجتمع والإنسان، كما يتجسّد رمزياً وواقعياً في نساءٍ حملن معناه الشامل والعميق في وعيهن وأفعالهن، ووضعن حياتهن وإبداعاتهن في خدمته، بما هو جوهر ثورة تحرر إنساني لن تفيد منه النساء وحدهن، وإنما يحمل الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية إلى كل سوري وسورية، بجهود نساء كثيرات، مثل فدوى ورزان زيتونة وسميرة الخليل وميه الرحبي وسمر يزبك ومي سكاف وسعاد خبيه وفاتن رجب وحسنه الحريري، ومئات آلاف النساء اللواتي غدون رموز تمرد تاريخي، أسهمن في إنضاج أجوائه، وشاركن فيه بكل فدائية وحب للإنسان، وتماهين معه، حتى صارت أسماؤهن تذكّر به، وأضفت ريادتهن له طابعاً سلمياً ومجتمعياً، قاومت أغانيه وأهازيجه ودبكاته رصاص الاستبداد، ونشرت فوقه روحاً إنسانية حملته إلى كل شبر من أرض سورية، وأضفت عليه هوية من طبعنه بطابع حبهن الحميم والحنون للوطن والناس، جميع الناس، فلم يكن ما فعلنه أقل مما فعلته مثيلاتهن ممن أسهمن في صنع ثوراتٍ اكتسبت دلالات كونية كالفرنسية والروسية.
وضعت فدوى الثورة في قلبها وعقلها، فاحتلت قلوب وعقول سوريين بلا عدد، أطلقوا شهقة حزن مؤلمة هزّت كيانهم، عندما أعلن نبأ رحيلها عنهم، فكانت ردة فعلهم الحزينة دليلاً إضافياً على الأثر العميق الذي تركته أمثولتها من عاطفةٍ لازمت ضمائرهم، وعبرت عما بلغته رمزيتها عندهم. آمنت أن الحرية لا تكون لأحد إذا لم تكن لكل سورية وسوري، وأنها بغير ذلك تفقد هويتها. وقاتلت، ليس لتنال حرّيتها بما هي شأن فردي أو شخصي، بل لإيمانها أنها لن تكون حرة إن لم تكرّس وجودها لحرية الآخرين، وأن ثورتها لن تستحق اسمها إذا لم تكن زلزالاً يتجاوز إسقاط الاستبداد السياسي إلى اقتلاع جذره: مجتمع الامتيازات والإقصاء والأحكام المسبقة والتمييز بين المرأة والرجل وبين الطبقات والأديان والمذاهب.. إلخ. ولم يحصّن نفسه بتحرّر الفرد وحمايته من سقوط جديد في عالمٍ ستضيع تضحيات السوريين، إن هم انتصروا على الأسدية ولم يهزموه هو أيضاً. وفي منظور فدوى للثورة، كان أي سوري يساوي أي سوري آخر، وكان الجميع يتعرّفون بمطلبهم: الحرية بمعناها الأشمل والأعمق الذي ينقل المجتمع من واقع موروث مخالف للطبيعة الإنسانية إلى واقع طبيعي/ إنساني من صنع بشر أحرار، مثلها.
رحلت فدوى، لكن أفكارها التي تخطت المألوف لم ولن ترحل، ومثلها أمثولتها الشخصية، وفكرة الحرية التي ألهمتها وتلهم السوريات مطلباً ينبع من فطرتهن التي تدفعهن إلى المطالبة بحريةٍ شاملةٍ تتخطى السياسة، هي وحدها التي تحميهن من مجتمعٍ أمعن في اضطهادهن على مر السنين، وجعل من المحال بالنسبة لهن القبول بحرية مجتزأة أو بنصف حرية، وكيف يقبلن إن كانت أمثولة فدوى وحياتها تخبرهن أن حريتهن ستكون في متناول أيديهن، بقدر ما تكون رهان حياتهن، وتجسيداً لإرادتهن التي لا يجوز أن يسمحن، بعد الثورة، بتغييبها وراء إراداتٍ حجبتها، كتمت أنفاس النساء، وقوّضت وجودهن الإنساني النبيل وحساسيتهن الروحية المفعمة بفيض من الإنسانية.
رحلت فدوى، بعد أن أثبتت بالقول والفعل أن الحرية والمرأة صنوان، وأنها تستطيع أن تتقدّم صفوف من يضحون لأجلهما، كما ضحت هي، وينشطون كما نشطت هي، ويثقون، كما وثقت، بدورها في نيلها باعتبارها حقاً من حقوقها. أبعد هذا، تغيب المرأة السورية عن حريتها، وتغيب فدوى من حياة المرأة السورية ووجدانها؟ وهل يستطيع الموت تغييب من جعلت حياتها شأناً عاماً، يتداخل ويتفاعل مع حياة الملايين من نساء منحت فدوى قضيتهن، قضيتها، عمرها، وجعلتها معنى وجودها واختبار جدارتها، وتعاملت معها بنكران ذاتٍ وسخاء إنساني سيبقي سيرتها في أنصع صفحات تاريخ الحرية.
لم تكن فدوى طيفاً عبر حياتنا ثم غاب عن أعيننا، بل كانت شجرة سنديان سورية ضربت جذورها بعمق في وطنها ووعي ناسه. لذلك سيتفيأ زماننا الآتي ظلها، لكونها من صنّاعه، ولكونه كان وسيبقى زمانها.
العربي الجديد

فدوى سليمان أيقونة المسرح وضمير الثورة السورية/ راشد عيسى
قد يبدو المكوّن المسرحي في شخصية الفنانة السورية الراحلة فدوى سليمان (2017-1970) الأقل أهمية بين مختلف اهتماماتها، هي الموزعة بين دبلجة الرسوم المتحركة والسينما والتلفزيون والشعر، وخصوصاً هموم السياسة بعد اندلاع الثورة في سوريا العام 2011.
لكنّ الحضور القليل للمسرح في حياتها -بعد دراسة التمثيل لسنوات في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، ثم متابعة دراستها في باريس- جزء كبير من المشكلة، باعتبار أنّ «معظم خياراتها التالية أجبرت عليها بسبب المسرح المأزوم في بلدها». هكذا عبّرت ذات مرة حين سُئلت عن اشتغالها في عدد من مسلسلات الكرتون الموجهة للأطفال، فقالت إن الدوبلاج، على أهميته، لم يكن خيارها، بل جاء نتيجة الرقابة على المسرح، وقلة الإنتاج، والمخرجين، والبعثات الدراسية، وطغيان المحسوبيات، ما يدفع الممثل المسرحي نحو خيارات بديلة.
لكنّ الفنانة الهاربة من رقابةٍ على الخشبة، وجدتها أمامها في أعمال كرتونية لم تنجُ هي الأخرى من سياط الرقابة. وهنا كانت صدمتها الثانية. «كان غريباً وصادما أن تتسلط الرقابة على خيال الطفل، بحيث كانت تجري عمليات مونتاج هائلة، كأن تحذف شخصية الساحرة من حكاية ساندريللا».
وحين قالت إنّ «العقلية الأمنية في سوريا لا تسمح لك بأن تكون حراً على خشبة المسرح»، بدت كأنها تلخص جوهر المشكلة. وهذا ما يفسّر أيضاً عدم تردّدها في الانخراط في التظاهرات التي ملأت الشوارع بدءاً من شهر مارس (آذار) من عام الثورة. كانت تعرف أن الحرية هي المعضلة الكبيرة، هي التي اختارت المسرح في الأساس لأنها ترى فيه الوسيلة الأقدر على التغيير، على ما تقول في واحدة من مقابلاتها. أما السرّ في اعتقادها ذاك، فيكمن في كونها ترى المسرح وسيلة للتغيير في بلد يعيش فيه هذا الفن على الهامش، ولا يُعرف أنّ له في بلادنا دوراً فاعلاً. فهي كانت واعية الى أن تاريخ المسرح ارتبط على الدوام بالتغيير الاجتماعي، من عروض المسرح في أثينا القديمة، إلى المسرحيات التي خرجت من الكنائس إلى الشارع، وصولا إلى بريشت ومايرخولد وأوغستو بوال.

مأساة جيل
بضعة عروض مسرحية شاركت فيها سليمان، مثل «سفر برلك»، «بدون تعليق»، «العنزة العنوزية»، «بيت الدمى»، «ميديا»، «صوت ماريا». هو عدد قليل من الأعمال بالتأكيد، ولكن ربما يصلح ذلك لاختصار مأساة فدوى سليمان وجيلها من ممثلي المسرح الطموحين، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم من دون خيارات سوى دبلجة أفلام الكرتون، أو المسلسلات التركية والمكسيكية. لم يكن هؤلاء أقل موهبة من زملاء لهم لمعوا هنا وهناك، حتى من دون عناء دراسة المسرح، لكنّها مواهب مقهورة، لفَظَها المسرح بعيداً، وحشرتها لقمة العيش في أماكن قصية من الظهور والتأثير.
ومع ذلك، تظلّ مسرحية «صوت ماريا» (من إخراج مانويل جيجي) هي الأبرز في تجربتها، ليس لأنها مونودراما وضعت فيها سليمان كل طاقتها وموهبتها، وبالتالي كانت وحدها طوال الوقت تحت الضوء، بل أيضا بسبب موضوعها اللافت. فالمسرحية، التي قدمت في العام 2008 ضمن نشاطات «دمشق عاصمة الثقافة العربية»، بدت وكأنها قراءة في أحوال وأسئلة سوريا اليوم، من دون أن تشير إلى زمان الحدث ومكانه، لكننا نسمع فيها عن حكايات النزوح والموت والاغتصاب وحقول الألغام.
يروي «صوت ماريا» (نص للكاتبة البوسنية ليديا شيرمان هوداك) حكاية اغتصابيْن لأم وابنتها. اغتصاب البنت يفضي إلى ولادة طفل تموت أمه لاحقاً تاركة إياه لجدته. الطفل هو هنا ثمرة الحرب، وليس الحبّ. هو ثمرة زواج القاتل بالضحية. طفل يضع الجدة أمام تحدي الاختيار، لكنّ قرارها سيأتي واضحاً وصريحاً في آخر العرض، حين تصرّ على الاحتفاظ بالطفل وتبنّيه. فهل قررت الأم أن تنسى وتمضي إلى التصالح مع ذكرى الحرب، أم أنها أبقت الطفل كشاهد على الجريمة؟
أداء فدوى سليمان كان مدهشاً في ذلك العرض، أثبتت مقدرات عالية في التمثيل، حيث تنقّلت في تلك المونودراما بين أدوار الابنة وطبيبتها، والقائد العسكري الذي تمنّى لهم التيه في حقول الألغام، والقابلة التي ولّدت كل أطفال البلدة من دون تمييز ثم راحوا الآن يبصقون في وجهها.
في ذلك الوقت روت سليــمان لكاتب هذه السطور في حديث صحافي تفاصيل عن هذا العمل قالت فيها: «استــخدمتُ ذاكرتي في استعادة مشاهد مؤلمة، وما أكثرها في هذا الشـــرق. حاولت أرشفة الكثير من المشــاهد بصرياً، منها مثلاً مشهد محمد الدرة (الولد الفلسطيني الذي قتل برصاص الاحتلال الإسرائيلي في مشهد بُث على شاشات التلفزيون). استعرتُ كيف كان الأب يلوّح بيديه ويحرك أصابعه وكيف حرّك رأسه حين مات الولد. استعرت من مشاهد مجزرة قانا الأولى صورة رجل حمل ثلاثة أطفال وكيف راح يتنقل بين الجثث. قرأت «أربع ساعات في شاتيلا» لجان جينيه واستعرت منها أيضاً. اشتغلت على المشهد معنى وصورة».
إذاً لم يكن «صوت ماريا» عرضاً خارج معادلة «الآن وهنا». ويبدو أن رادار فدوى سليمان كان حساساً إلى هذا الحدّ، هي التي روت مرة حادثة من أيامها الدراسية الأولى في عمر ست سنوات، قائلةً إن «معلمة المدرسة عاقبت التلاميذ جميعاً في يوم ما بالضرب على أيديهم لسبب غامض بالنسبة اليها. حاولت الاختباء، والهرب من العقوبة، لكنها في النهاية أكلت نصيبها». وحين سئل التلاميذ مرّةً جرياً على عادة المدارس، «ما هو حلم المستقبل»، فأجاب معظمهم بأنهم سيصبحون أطباء ومهندسين، قالت فدوى «أريد أن أكون قائدة ثورة». ارتبكت المدرّسة، على ما تروي سليمان، واقتربت منها لتهمس في أذنها الصغيرة «أوعك تعيديها».

في طليعة التظاهرات
في العام 2011 لم تتردد فدوى سليمان في الانضمام إلى التظاهرات التي انتشرت في عموم البلاد. تنقّلت بين أحياء وبلدات عديدة في دمشق وريفها، قبل أن تتسلّل إلى حمص وقراها. شاهدها العالم أجمع عبر فيديوهات تهتف وتصرخ وتتحدى وتقود التظاهرات. ليس غريباً أنها -وربما بسبب ندائها السلميّ- أصبحت من أبرز المطلوبين لقوات النظام. كانت فدوى سليمان البرهان الذي يقلع عيونهم: في انضمامها للثورة، كما في احتضان الناس لها، دليل أكيد على عدم طائفية المتظاهرين. في كونها امرأة، وغير محجبة، وفنانة، تهتف للسلمية إثبات على أن الثورة لم تخرج من المساجد فحسب.
هكذا دُفعت الفنانة إلى مغادرة البلاد مهربة عبر الحدود إلى الأردن ومنها إلى باريس. على الفور وجدت نفسها خارج بيئتها، خارج الدور الذي اختارته لنفسها، خصوصاً، حين وجدت نفسها، وهي الثائرة على الأرض، في دوامة السياسة، ما يفسّر شيئاً من التخبط في خياراتها. تقول: «بعد وصولي إلى فرنسا شعرت بأنه لم يعد لي صوت. بعد أن كنّا الحدث، بات دورنا أن نعلّق على الحدث بلغة غير لغتنا. أحسست بأنني في حاجة الى الكتابة كي لا تضيع اللغة».
هنا كتبت الفنانة نص مسرحية «العبور» (ترجمته رانيا سمارة إلى الفرنسية، وشارك في «مهرجان أفنيون» و «ليموج» في فرنسا)، قالت إن هذا العمل «ينطلق من تجربتي الذاتية في الثورة ليذهب إلى أسئلة وجودية حول الحياة والموت والحب والحرب».
النص يأتي أولاً انعكاساً لذلك الضـــياع الذي تعيــشه الفنانة الثائرة، فهو عبارة عن أصوات ذاتية متعددة، تتحاور حول رغبة العودة والانتمــاء إلى شوارع بلدها: «الصوت: هنيك الناس عم تموت وبس. ما لازم تموتي/ الفتاة: وما لازم يموتوا/ الصوت: مو كنتي بدّك تنــامي ع الرصيف تلات أيام؟/ الفتاة: إي، بس بدّي رصيف بذاكرة/ الصوت: كلّ الأرصفة إلها ذاكرة/ الفتاة: بس رصيفي ذاكرتو بتشبهني/ الصوت: اتركي ذكرى ع هالرصيف».
وفي النص نقاش حول سلمية الثورة والاتجاه إلى حمل السلاح. ومع أن الفنانة كانت حتى اللحظة الأخيرة من دعاة السلمية، إلا أنها في نص «العبور» لا تغفل قوة المنطق الآخر، أي أنها لم تحاول الانتصار لصوتها الخاص: «صوت: شفتي بعينك القنّاصة كيف منتشرين ع سطوح البنايات؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: الدبابات؟/ الفتاة: شفتا/ صوت: البي تي إر؟/ الفتاة: شفتا/ صوت: حواجز الشبّيحة؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: الشهدا المقنوصين؟/ الفتاة: شفتن/ صوت: وما بدّك يّانا نحمل سلاح…؟!».
للمسرح شروط عديدة، من بينها الاستقرار والعمل المؤسسي، ولربما كان يقبل السوريون أن يصنعوا مسرحاً لو أن الأمر يتوقف عند حدود الرقابة والمنع لا الاعتقال والتعذيب، وربما القتل.
اختارت فدوى سليمان الثورة، فعلاً مباشراً للتغيير، بعدما اختارت المسرح للهدف نفسه. أبدت شجاعة استثنائية ستبقى للتاريخ، تركت أشرطة فيديو لها موزعة في عدد من التظاهرات من أجمل تاريخ الثورة، من أجمل تاريخ هذا البلد. لا شك أنها، لو أتيح لها المسرح، لن تكون أقل شجاعة.
الحياة

شاعرة «العبور» السوري/ عبده وازن
ليست فدوى سليمان ممثلة وامرأة مسرح ومناضلة مثالية فقط، إنها شاعرة أيضاً، بل أولاً وآخراً، شاعرة في ما كتبت وما عاشت وما حلمت وما عانت وواجهت. شاعرة في نضالها السياسي الفريد، ووعيها الثوري النقي، في إصرارها على الحياة والحلم والأمل حتى في أوج لحظات المرض الخبيث الذي أصابها في منفاها الفرنسي. وقبل نحو عشرين يوماً كانت فدوى نجمة مهرجان «أصوات حية» الشعري في الجنوب الفرنسي بحماستها وشغفها ونضالها من أجل الثورة السورية. قاومت الشاعرة مرضها وقرأت قصائدها في المهرجان الفرنسي وتحدثت في لقاءاتها عن الثوار الحقيقيين والأنقياء وعن الثورة التي أجهضها الأصوليون والنظام الديكتاتوري والغرب المتواطئ. ولم يمض عشرون يوماً على انتهاء المهرجان حتى وافتها المنية. وكان المهرجان كرمها وأصدر لها ديواناً بالعربية والفرنسية عنوانه «في العتمة المبهرة» (دار المنار- باريس)، لكنّ الموت لم يمهلها كي تفرح به وما حمل من بوراق أمل في وسط الظلام. فالعتمة التي وصفتها بـ «المبهرة» هي صنو «القمر» الساطع الذي استحضره عنوان ديوانها «كلما بلغ القمر» الذي صدر أيضاً بالعربية والفرنسية، في ترجمة بديعة للمسرحي اللبناني- الفرنسي نبيل الأظن (دار سوبراي). وكم استخدمت فدوى لعبة الثنائيات في شعرها لتعبر عن حال الصراع الذي طالما عاشته، داخلياً وواقعياً وتاريخياً… ففي مطلع ديوان «كلما بلغ القمر» تكتب في ما يشبه «الإهداء»: إلى الذي قتلني ذات زمان/ فقتلته ذات زمان»، وفي ختام القصيدة القصيرة هذه يحل رمز الضوء المبهر أيضاً فهي تقول: «سامحني وانظر في عيني التي سامحتك/ ولنمض/ معبر الضوء أمامنا». خلال منفاها الفرنسي برزت فدوى بصفتها شاعرة وشاركت في مهرجانات شعرية فرنسية مهمة مثل «ربيع الشعراء» وسوق الشعر»… وقدمت في مهرجان أفينيون المسرحي الشهير قراءة ممسرحة لنص درامي من تأليفها عنوانه «العبور».
لا أدري لماذا أغفلت المقالات التي كُتبت عن الراحلة فدوى سليمان وجه الشاعرة فيها وركزت على الممثلة والمناضلة. ربما لأن فدوى نفسها أصرت على إخفاء وجهها الشعري وراء وجه المناضلة فلم تكشفه علانية إلا في منفاها، مع أن الشعر كان من همومها الأولى كما تروي في أحد نصوصها. وتعترف بأن الشاعر محمود درويش كان أول من فتح عينيها على الشعر وقد حفظت له منذ مراهقتها قصائد، منها «جواز السفر» التي رددتها كثيراً.
لم تكن فدوى شاعرة مكثرة ولم يصدر لها سوى ديوانين («كلما بلغ القمر»، «في النعمة المبهرة») لم يوزعا في العالم العربي. لكنّ مواقع إلكترونية تناقلت قصائدها بالعربية وبترجمتها الفرنسية. وقد تكون لديها قصائد غير منشورة لو افترضنا أن المرض سمح لها بكتابتها. واللافت أنها لم تكتب شعراً ثورياً في المفهوم الرائج لهذا النوع الشعري بل كتبت مثلها مثل شعراء سوريين كثر يحتلون الآن المشهد الشعري العربي، قصائد مفعمة بالحنين والألم والفجيعة، لكنها لم تخلُ من النزعة اليومية والاحتجاج والاعتراض الوجودي وكذلك من الوعي التقني واللغوي المتقدم. تقول فدوى مثلاً في إحدى قصائدها الجميلة: «سكروا من خمرة الضوء وغابوا/ على لحن اصطفاق الأجنحة/ حملتهم اغصان الزيتون/ وخطّهم الغار شعراً/ على صفحات الريح/ نثرتهم الطواحين/ أقحواناً على ضفة العاصي/ وتعمد التاريخ في الفرات/ ودجلة شيخ شاهد/ نبت القمح من اجلهم في الشمال/ وغنى الياسمين في دمشق». واضح أن النبرة الشخصية والذاتية والصوت الجماعي يختلطان في شعر فدوى، وكذلك آلام الجسد والروح وآلام الآرض والجماعة: «في هذا النفق المظلم/ على القلب ان يبقى على القلب/ واليد في اليد/ والروح في الروح / والعين واحدة/ في هذا النفق المظلم…».
تكتب فدوى عن المنفى أجمل ما يمكن ان يُكتب، بألفة ووداعة وصوت خفيض، جاعلة منه حالا من الانتظار والامل ممزوجا بيأس وجودي. تقول في مطلع نص نثري لها: «منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك ارض اللجوء، تتلاشى ملامحك، تفقد هويتك، ، ولا تتعرف الى اسمك ولا عمرك… يختفي صوتك وانت تسمع لغة غير لغتك ، ينطق بها كل شيء حولك. ترى حروفك تسقط امامك ولا قدرة لك على لملمتها. تشعر انك بلا ذاكرة ، خارج الزمان والمكان، شبح لا مرئي…». مأساة النفي هذه المتجلية في هذا النص النثري تزداد شفافية وأسى في قصائد عدة تكتبها فدوى بروحها وعصبها وغنائيتها العذبة، كأن تقول: «من أنا؟ / بعد أن ظل وجهي/ واسمي / وورد طفولتي/ لغتي وصوتي/ وذاكرتي هناك». وفي قصيدة أخرى تقول: «افتح عينيّ/ بداية يوم جديد/ يا له من حزن عظيم».
أما نصها الدرامي الجميل «العبور» فهو يتمثل مأساة النزوح التي عاشها الشعب السوري الهارب من وحشية النظام والأصوليين، ويتوزعه صوت فتاة وصوت آخر تتبدل نبرته. وشاءت فدوى هذا الحوار التراجيدي يدور في ظل جدارية هي عبارة عن شاشة تعرض عليها بالتتالي صوراً تظهر معاناة البشرية في الحروب والمآسي: الحرب الأولى والثانية، هتلر وموسوليني وستالين، فيتنام، مجازر الأرمن وصبرا وشاتيلا وجنين في فلسطين وحلبجة في العراق، هيروشيما، ناكازاكي… إلى ثورة البوعزيزي في تونس. كأن فدوى شاءت أن تضع دكتاتورية النظام السوري وعنف الأصوليين في سياقهما التاريخي. لكن النص الدرامي لم يخل من لحظات حنين وإشراق تبدت في شوق الفتاة للعودة إلى دمشق، دمشق الحب والسلام والغار والياسمين… لكن الصوت الآخر كان صوت المتسلط القاتل.
فدوى سليمان شاعرة «العبور» ، شاعرة المنفى، لكنها شاعرة سورية الألم والأمل، سورية الثورة التي لن يتمكن نظام دكتاتوري ولا جماعات إرهابية من مصادرتها.
الحياة

 

————————–

 

 

في جواز الترحم على فدوى/ إياد الجعفري

وسط ظاهرة الترحم الجماعي الذي غلب في جمهور الثورة، على الراحلة فدوى سليمان، انحصرت التعليقات التي ناقشت جواز الترحم عليها من زاوية دينية، لتظهر كتعليقات شاذة، انعزلت وسط جمهورها المنكمش، ولاقت الكثير من الاستياء والرفض حينما كانت تخرج للعلن في غير مساحاتها الخاصة، لتكون أصوات نشاز.

قِيل الكثير في ظاهرة الترحم الجماعي تلك، التي بدت جليّة في العالم الافتراضي. بعضهم انتقدها من زاوية المبالغة. فيما انتقدها البعض الآخر من زاوية الاستثمار السياسي والإعلامي. ورأى فيها البعض الآخر تأكيداً لسمة تسود بين السوريين، وهي النيل من الأحياء، واحترامهم حينما يدخلون عالم الموت، وهو أمر لم تنجو منه فدوى سليمان نفسها. ولم تخلو حالات النقد تلك، من تشكيك بشخصية فدوى سليمان، ومقدار إخلاصها للثورة السورية. لكن، رغم كل تلك الآراء، كانت الأصوات التي ناقشت جواز الترحم من زاوية دينية، منعزلة ونادرة. وغلب على جمهور الثورة التعامل مع فدوى سليمان، على أنها أيقونة، تستحق كل تقدير.

قبل الثورة، ربما كان من الصعب أن نشهد خروجاً على الفهم الديني التقليدي، بهذا الكم، وبتلك النوعية. وفي سوريا تحديداً، كان الأمر سيبقى بعيداً عن الفضاءات العامة، محصوراً في النقاشات داخل أبناء الغالبية السُنية، التي ستُجامل في العلن، لكنها ستكتم، في أوساطها الخاصة، موقفها الديني تحديداً من قضية الترحم. ذلك الموقف الذي يعكس رؤية شريحة واسعة من السُنة، لمصير ناشطة علوية بعد الموت، تُعد في عُرف بعضهم، ليست في نطاق الإسلام أصلاً.

قد يرى البعض أن الأمر لا يستحق الوقوف عنده حقاً، لكن حينما تقرأ الردود على تلك التعليقات النادرة التي ناقشت جواز الترحم على فدوى سليمان، في حسابات “فيسبوكية” شهيرة، لنشطاء أو لوسائل إعلام معارضة، ستقف دون شك عند الردود ذاتها. فهي الأمر الجديد في طريقة تفكير شريحة من السوريين. تلك الردود التي كانت غاضبة في دفاعها عن فدوى سليمان. وتساءل بعضها على سبيل التهكم، “هل يجوز الترحم على أحمد حسون (مفتي النظام) مثلاً، ولا يجوز الترحم على فدوى سليمان؟!”.

في معايير الإسلام الرسمي، الممالئ للسلطة في سوريا، فإن نقاش قضية الترحم على فدوى سليمان، غير وارد أصلاً. لكن في أوساط الإسلام الشعبي، فإن الأمر وارد بقوة، لو كنا في ظروف غير التي نعيشها اليوم في سوريا. وهذا هو الفارق الرئيس، الذي يستحق الوقوف عنده.

فحينما يسود في جمهور الثورة، تغليب البعد الأخلاقي على البعد الديني (حسب الفهم الموروث)، فإن ذلك يعني أن إحدى ثمرات الثورة ربما أينعت. وقد يتطلب ذلك مدى زمنياً قصيراً، كي تُقطف. فأولى الضربات التي قد يتلقاها الاستبداد، تلك التي تنال من مرتكزاته الفكرية، ومن أبرزها، القراءات الدينية التي تبرر الخضوع له، ونظيرتها التي تبرر تقسيم المواطنين بحسب انتماءاتهم الدينية. حينما يتحقق ذلك، يكون حجر أساس في تغيير عقلية السوريين، قد وُضع. ويتطلب الأمر فترة زمنية فقط، كي يُشاد بناء فكري مختلف عليه.

وهكذا احتفظت فدوى سليمان بفرادتها، حتى في مماتها. فهي كانت حالة نادرة خرجت على بيئتها الحاضنة، وكانت من القلّة المتحدرة من تلك البيئة، التي قررت الانحياز لموقف أخلاقي، يرفض الاستبداد، ويفضل الانحياز للشارع. كان ذلك في حياتها. وبعد مماتها، استطاعت أن تكشف عن استمرارية ذلك الانحياز الأخلاقي، لدى غالبية جمهور الثورة، عبر ظاهرة الترحم الجماعي، عليها.

لا يعني ما سبق، أننا وصلنا إلى التغيير المنشود في الفكر والقيم، الذي تحدثه الثورات عادةً في شعوبها. لكننا دون شك، على الطريق. وإن كان هناك جمهور واسع من السوريين، ما يزال يرفض ذلك الانحياز الأخلاقي، ضد الاستبداد والتمييز الديني بين السوريين. إلا أن ذلك الجمهور، حسبما تؤكد ظاهرة الترحم الجماعي على فدوى سليمان، في انحسار. خاصة على صعيد التمييز الديني. وتبقى المعركة ضد مؤيدي الاستبداد أهون. ذلك أن معظمهم يتخذون مواقفهم بناء على المصالح الآنية، وليس بناءً على مواقف عقائدية وفكرية ثابتة.

المدن

فدوى سليمان … موت كأنه نعي ثورة/ إيلي عبدو

رحلت فدوى سليمان، الممثلة والمعارضة الشرسة لنظام الأسد، في توقيت ترتسم فيه نهايات الثورة السورية. فالأخيرة، وبعد تحولها إلى صراع أهلي ثم إقليمي – دولي، خضعت الآن لسطوة الشر الروسي، الذي يعمل على ترويض ما تبقى من بؤر معارضة، إما بالهدن أو بإدخالها في مجال الحرب على الإرهاب، تمهيداً لإعادة إنتاج النظام.

وفدوى، لا تنتمي إلى هذه التحولات السوداء في عمر الثورة، بل هي أقرب إلى «النقاء» الأول، حيث للتظاهر السلمي العابر للطائفية، فعالية وقوة. ابتعادها عن المشهد السياسي وتركيز اهتمامها على مشاريع فنية وشعرية، كان دليلاً إضافياً على أنها في غربة مضاعفة، عن وطنها الذي وثقت بتغييره، وعن ثورتها، وسيلة هذا التغيير.

لقد مثلت الراحلة، حالة خاصة في طائفتها، ليس فقط لمعارضتها نظاما يجده عموم العلويين حامياً لهم، بل أيضاً عبر تظهير هذا الموقف شعبياً، في التظاهرات والاعتصامات، وأحياناً الإضراب عن الطعام. حوّلت فدوى، العلوي المعارض من متعاطف مع الثورة ومتضامن معها، إلى جزء منها. فعلى نقيض معظم المعارضيين العلويين، فتحت الباب لدخول أبناء طائفتها إلى الثورة ليس بالنداءات فقط، بل بوصفها نموذجاً ورمزاً. لكن، اعتماد النظام أساليب مخابراتية لتخويف العلويين، معتمداً على إيقاظ سرديات تاريخية وأخبار مفبركة، وقصور خطاب المعارضة الرسمية لاجتذاب أبناء الطائفة، عدا عن دخول الثورة في مسارات العسكرة، كل ذلك جعل تأثير فدوى أقل، وحرمها القدرة على ممارسة دورها كما يجب.

حالياً، لم يعد العلويون فقط منحازيين للنظام، بل معظم الأقليات وجزء كبير من الأكثرية، قطاعات كبيرة من الشعب السوري قايضت حريتها بالاستقرار القائم على الاستبداد، مفضلة ظلم الأخير على إجراء أي مصالحة مع بعضها بعضا، لتنتهي بذلك قيمة أخرى مثلتها فدوى. الفنانة المنحازة إلى الثورة، حاولت تقديم صورة تتجاوز الطوائف، متصدرة قيادة تظاهرات حمص مع اللاعب المعروف عبد الباسط ساروت. مشهدية العلوية والسني، الممثلة وحارس المرمى، لم تكن كافية لعلاج جروح طائفية متراكمة، لكنها على الأقل كسرت نمطية الأكثرية المعارضة والأقلية الموالية، وعزلت النظام خارج المعادلة، لفتح الباب نحو إمكانيات جديدة في علاقات الجماعات السورية.

خسارة العلويين والمكونات الأخرى لصالح النظام، وضياع أي فرصة لمصالحة وطنية، ليستا القيمتين الوحيدتين اللتين ندفنهما مع فدوى ونستدل بهما على نهاية ثورتنا، هناك أيضاً سقوط المعارضة ليس بالأداء السياسي فحسب، وإنما على الصعيد الأخلاقي، ففيما كانت فدوى مثالاً للطهورية الثورية، ولم تستغل اسمها لتبوؤ منصب من هنا أو الحصول على منفعة من هناك، محافظة على استقلال قرارها وموقفها،

يتكشف كل يوم إلى أي درجة ربط المعارضون السوريون قضيتهم بأجندات الدول وأموالها، وأصبحت الثورة ملفا من ملفات كثيرة تستخدم في لعبة الصراعات الحالية والسابقة.

موت فدوى سليمان، هو في دلالاته العميقة، نعي ثورة، مثلت قيم الحرية ودعت جميع الطوائف للانضمام لها، خلقت ملامح مصالحة بين المكونات

التي تحمل أحقادا تجاه بعضها بعضا، وأرادت نموذجاً لأداء سياسييها يكون نقيضاً عن ذلك الذي كرسه النظام.

إيلي عبدو

القدس العربي

رحيل فدوى سليمان.. النجمة التي صنعتها الثورة السورية/ عمر بقبوق

وضع الموت حدًا للصراع الطويل الذي عاشته الممثلة السورية فدوى سليمان مع مرض السرطان؛ حيث شهدت مستشفيات باريس الفصل الأخير من حكاية سليمان، البالغة من العمر 47 سنة، والتي عاشت أيّامها الأخيرة في فرنسا المنفى، بعيدة عن عائلتها الباقية في دمشق، بعد أن أجبرتها الضغوطات الأمنية ومواقفها الثورية على مغادرة سورية سنة 2012.

بدأت مسيرة سليمان الفنية، قبيل تخرّجها من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق سنة 1995، حيث شاركت بالعرض المسرحي “سفر برلك” سنة 1994، للمخرج السوري عجاج سليم؛ وظلّت عالقة في نطاق المسرح لعامين، قبل أن تدخل إلى الشاشة الصغيرة من بوابة المسلسل الكوميدي “يوميات أبو عنتر” 1996، وشاركت بعدها في العديد من الأعمال الكوميدية في أواخر التسعينيات، أبرزها “عيلة سبع نجوم” و”دنيا”. وفي سنة 1997، شاركت في أوّل عمل درامي تلفزيوني لها، وهو “هوى بحري” إلى جانب النجمين أيمن زيدان ونورمان أسعد، اللذين رافقتهما في أعمالها التلفزيونية الأولى، مثل “الطويبي” و”جواد الليل”.

ومع بداية الألفية الجديدة، انحسرت مشاركات سليمان التلفزيونية، فلم تشارك بعد سنة 2000 سوى في أربعة مسلسلات، وهي: “المسلوب” و”الصمت” و”النورس” و”من غير ليه”، ولم تلقَ أيًا من هذه الأعمال نجاحًا جماهيريًا؛ وفي الوقت ذاته كانت سليمان قد بدأت تنشط بشكل أكبر في مجال دوبلاج الرسوم المتحرّكة، فرافق صوتها طفولتنا، من خلال أعمال حظيت بمتابعة كبيرة، أبرزها: “أبطال الديجيتال” و”أنا وأخي” و”المحقّق كونان” و”بيدا بول”؛ ومن ناحية أخرى عادت لتنشط في أروقة المسرح السوري، فشاركت في العديد من الأعمال مع المخرج السوري الكبير مانويل جيجي، وأبرزها: “غني وثلاثة فقراء” و”بيت الدمى”، ومونودراما “صوت ماريا”؛ ولكنها لم تتمكّن طيلة تلك الأعوام من ترك بصمة فنية كبيرة تجعلها تكتسب صفة النجومية، وبقيت على الهامش الثقافي الفني، وانحصرت شهرتها على روّاد المسارح. وفي السينما، لم تشارك سليمان سوى بثلاثة أفلام سورية على مدار تجربتها الفنية، وهي: “نسيم الروح” و”حكاية كل يوم” و”خارج التغطية”.

وكانت الثورة السورية التي اندلعت سنة 2011، بمثابة نقطة تحوّل في مسيرة الفنانة السورية، التي عاشت مرحلة خمول في العقد الأوّل من الألفية الثالثة، فعادت إلى الأضواء بسبب نشاطها الثوري في المرحلة الأولى من عمر الثورة، واكتسبت صفة النجومية؛ فكانت فدوى سليمان من أوّل المشاركين في المظاهرات التي عمت مدينة حمص سنة 2011، وكانت تعمل على إقناع سكان المدن ذات الغالبية العلوية بالانضمام إلى الحراك الثوري؛ وأصبحت من رموز الثورة السورية حين كشفت عن وجهها في إحدى مظاهرات مدينة حمص، وتناقلت الفيديو محطات التلفزيون العربية، ودعت إلى عدم تحوّل الاحتجاجات إلى حرب مذهبية بين الغالبية السنة والطائفة العلوية التي ينتمي إليها هرم السلطة.

وعاشت سليمان بعد ذلك متوارية عن أنظار السلطات بين دمشق وحمص، ثم عبرت الحدود سيرًا على الأقدام إلى الأردن قبل أن تستقّر في محطتها الأخيرة في فرنسا؛ وفي الأعوام الأخيرة عادت لنشاطها الفني، فشاركت بمسلسل “أمل” الذي عُرض على الإنترنت، وسلسلة “بسمة صباح” الإذاعية، التي أذاعتها إذاعة “روزنة”، كما قامت بتأليف مسرحية بعنوان “العبور”، ومجموعتين شعريتين “كلما بلغ القمر” و”في العتمة المبهرة”، وترجمت جميع هذه الأعمال إلى اللغة الفرنسية.

جيل

فدوى سليمان.. فنانة سورية ثارت ضد الإذلال  

فدوى سليمان، فنانة سورية،  كانت من أوائل المشاركين في المظاهرات المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد، معترضة على “الإذلال الثقافي والإقصاء الإنساني والفكري” الذي تعيشه سوريا.

المولد والنشأة

الفنانة فدوى سليمان من مواليد حلب في 17 مايو/أيار 1970، وتنتمي للطائفة العلوية التي ينحدر منها بشار الأسد.

الدراسة والتكوين

تخرجت فدوى سليمان في المعهد العالي للفنون المسرحية.

التجربة الفنية والسياسة

قبل بداية الثورة السورية اشتهرت فدوى بأدوارها في التلفزيون والإذاعة والسينما والمسرح. ومثلت دور مدرسة تربية فنية في دار أيتام بمسلسل “قلوب صغيرة”، وهو مسلسل زاد التوعية بالاتجار في الأعضاء البشرية وعرضته عدة قنوات تلفزيونية عربية.

وشاركت فدوى سليمان في عرض بمسرح القباني في دمشق مأخوذ عن مسرحية الكاتب النرويجي هنريك إبسن “بيت الدمية”.

وحين اندلعت الثورة، أضحت فدوى -وهي في الثلاثينيات من عمرها- أكثر نشاطا مع احتشاد جانب من النخبة المثقفة لدعم الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالديمقراطية، كما عملت في تأليف عدد من الأعمال الفنية المختلفة.

وهكذا عرفت فدوى سليمان بانضمامها إلى صفوف المعارضة حيث شاركت في المظاهرات السلمية، وتصدرت المنصات وإطلاق الهتافات حين كانت المظاهرات السلمية تسود عموم المدن الثائرة بوجه الأسد، خاصة حمص.

قصت شعرها مثل الرجال وباتت تتنقل من منزل إلى آخر لتفادي اعتقالها، وأضحت واحدة من وجوه الثورة.

وتقول فدوى إنها دخلت المسرح على أساس أنه يقود للتغيير، “فالثقافة هي حرية التعبير والتفكير”، وعن فترة دراستها في المعهد، تشير إلى أنها “اكتشفت عدم وجود حرية تفكير أو تغيير أو مسرح، هذا البلد يريد أن يفرغنا من محتوانا، وكل المؤسسات تحت يد الأمن”.

تضيف “كنت معترضة على أسلوب العمل والإذلال الثقافي والسرقة والإقصاء الإنساني والفكري، فكل مكان تذهب له تخشى على نفسك، وكأنك داخل في فرع أمن، حتى وأنت ذاهب إلى شركة فنية”.

وألقت فدوى مونولوغات تلهب الحماسة أمام عدسات الكاميرا تدعو لاستمرار المظاهرات السلمية في أرجاء سوريا حتى يرحل الأسد.

وفي إحدى الرسائل المصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 ذكرت أن قوات الأمن السورية تمشط أحياء حمص بحثا عنها، وتضرب المواطنين لإرغامهم على الكشف عن مخبئها.

عبرت الحدود سيرا على الأقدام إلى الأردن قبل أن تستقر في فرنسا، وعانت في سنواتها الأخيرة من مرض السرطان، وقال الممثل  السوري فارس الحلو المقيم أيضا في فرنسا لوكالة الأنباء الفرنسية إن الفنانة السورية ظلت محافظة على نشاطها المعارض حتى النهاية، من خلال المشاركة في مظاهرات ثقافية.

الوفاة

فارقت الفنانة المعارضة فدوى سليمان الحياة يوم الخميس 17 أغسطس/آب 2017 بعد صراع مع المرض في فرنسا.

وقد نعى الائتلاف السوري المعارض في بيان الفنانة السورية ووصفها بـ”الفنانة الثائرة الحرة”، وأنها “رمز من رموز الثورة، ووردة انضمت إلى مظاهرات السوريين واعتصاماتهم مع أول هتافات الحرية”.

وأضاف أن الفنانة وافتها المنية “بعد صراع مع المرض بعيدا عن ثرى سوريا الذي شهد مواجهتها لاستبداد الأسد وجرائمه، قبل أن تُرغم على العيش في المنفى”.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

وفاة الممثلة السورية فدوى سليمان في فرنسا

أعلن أصدقاء الممثلة السورية فدوى سليمان، صباح اليوم، وفاتها في مدينة باريس بفرنسا، بعد صراع مع مرض السرطان.

وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي خبر وفاتها، واعتبرها كثيرون خسارة للثورة السورية، حيث كانت اسماً لامعاً في إشعال المظاهرات في مدينة حمص لوقت طويل، واضطرت للفرار بعدما أصبحت ملاحقة من قبل النظام والمسلحين في الوقت نفسه.

وغادرت إلى فرنسا حيث عانت من مرض السرطان، وظهرت في عدة صور وهي حليقة الرأس.

وكان آخر ما نشرته سليمان على صفحتها على “فيسبوك” قبل أكثر من شهر خبراً عن ديوانها الشعري “في العتمة المبهرة”.

وشاركت الممثلة التي تخرجت من معهد الفنون المسرحية في دمشق، بالعديد من الأعمال المسرحية والإذاعية، ودوبلاج برامج الأطفال، وكذلك المسلسلات التلفزيونية مثل الشقيقات، يوميات أبوعنتر، آخر أوراق العيد، هوى بحري، طيبون جداً، الطويبي، الحصاد، صرخة في ليل طويل، أنشودة المطر، نساء صغيرات، الليل، رمح النار، أمل.

ونعاها المسرحي والممثل أحمد ملص قائلاً “وداعاً فدوى سليمان، ستبقى الذاكرة تنضح بصوتك، رحمك الله..”.

سوريون وفنانون ينعون فدوى سليمان: وداعاً أيتها الحرّة

نعى السوريون الفنانة السورية فدوى سليمان، صباح اليوم الخميس، بعد وفاتها في العاصمة الفرنسية باريس، إثر معاناتها من مرض عضال.

واستذكر السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي مواقف سليمان المناصرة للثورة السورية، ووقوفها في وجه الظلم الذي تعرض له السوريون وتعبيرها عن معارضتها للنظام السوري، وهو ما لم يجرؤ غيرها من الفنانين السوريين على فعله.

ونعاها الفنان السوري فارس الحلو قائلاً “الزميلة والصديقة والبطلة فدوى سليمان. ننعى إليكم الفنانة السورية التي أجبرت العالم على رؤية الحقيقة إثر مرض عضال. الرحمة والسلام لروحها الثائرة”.

وكتب الفنان السوري عبد الكريم قطيفان “البقيه بحياتك يا وطن. لا يعرفها أمراء الحرب.. ولا الطائفيُّون، ولا من تسيدوا ثورة السوريين العظيمة… فقط كان يعرفها من كان يترنم ويشمخ بتردّد صرختها العظيمه مع الساروت: (سورية بدها.. حريّة) فدوى سليمان وداعاً… وسنبقى نفخر بك”.

وشارك آخرون صوراً وفيديوهات أشعلت فيها فدوى مظاهرات مطالبة بإسقاط النظام ورحيل الأسد في بداية الثورة السورية.

بدوره، اعتبر عمر “كل موت لسوري قبل رحيل بشار حزنه مضاعف، كل موت لسوري خارج سورية حزنه مضاعف، العالم كله يعرف أين السرطان لكن لا يريد علاجه، وداعاً فدوى سليمان”.

وكتب فاروق “فدوى خان سليمان وداعا، رحلت قبل أن تكتمل زوايا الطموح، الله يرحمك”.

أما أمل فكتبت “فدوى سليمان المرأة السورية القوية بحريتها وإرادتها الحرة… التي لطالما وقفت أمام السوريين والسوريات بصرختها وسلميتها لحرية وطنها. فدوى ستبقين في ذاكرتنا كما أردت أن تكوني، ولن تغادر ذاكرتي صورتك وصوتك مع صور النساء الشابات وأصواتهن المبدعة الذي صدح في سوق مدحت باشا المغلق في بداية الثورة، عندما غنينا مجتمعات أغنية موطني وأغنية لمارسيل خليفة وختمناها بالنشيد السوري أمام المارة بالسوق ونحن نمشي تقربيا لمنتصفه، لنقول لهم نحن سوريات نريد لسورية أن تكون حرة بصرختنا وكلمتنا وكلنا يد واحدة، سورية سلمية للسوريين والسوريات هكذا نريدها، لكن هجوم شرطة ساروجة علينا جعلنا نهرب ونتفرق آنذاك”.

وقال محمد “التقيت فدوى سليمان مرة واحدة في باريس، شعرتُ حينها أنها لم تكن بخير، حالها كحال الثورة، مريض، مُنهك. لروحك الرحمة”. وكتب حافظ “فدوى سليمان.. عشتِ حرة بكبرياء الذين آمنوا بالحق.. وبروح أصبحت أكثر حرية بعيدا عن هذا العالم الذي تهدمت فيه القيم.. وداعا لمن كافحت لتزرع (الأمل) في قلوب السوريين.. لروحك الرحمة.. ستذكرك سورية الحرة كثيرا”.

فدوى سليمان… نور الثورة في «العتمة المبهرة»/ رنا نجار

أغمضت الممثلة السورية فدوى سليمان عينينها الحزينتين في مدينة الحرية والنور باريس حيث عاشت فيها خمس سنوات من العذاب المضاعف. عذاب مرض السرطان الذي ظلّت تقاومه حتى الرمق الأخير مستمّرة في نضالها ونشاطها السياسي المعارض حتى النهاية، من خلال المشاركة في تظاهرات ثقافية. وعذاب النفي عن أرضها بعيداً من حمص مدينتها المدمّرة الآن، وبعيداً من دمشق التي حاربت سلمياً لتحريرها من نظام بائد. فهي رحلت فعلاً في «العتمة المبهرة» وهو عنوان اختارته لديوانها الشعري الذي أصدرته منذ شهر تقريباً.

لكن التاريخ سيذكر هذه المرأة القوية الثورية التي كانت من أوائل المشاركين في التظاهرات المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد والتي ملأت شوارع حمص بصوتها العالي مطالبة بالكرامة للشعب السوري قبل كل شيء. وكانت تعمل على إقناع سكان المدن ذات الغالبية العلويّة في اللاذقية وطرطوس بالانضمام إلى الحركة الاحتجاجية. ووظّفت فدوى سليمان شهرتها كممثلة مسرحية وتلفزيونية في دعم الاحتجاجات، وعاشت متوارية عن أنظار السلطات بين دمشق وحمص. ثم عبرت الحدود سيراً على الأقدام إلى الأردن قبل أن تستقر في فرنسا، وهناك أجرت مقابلة مع وكالة فرانس برس عبرت فيها عن مراراتها من «تحوّل ثورة سلمية إلى حرب أهلية».

فدوى سليمان حيّة في ذاكرة الأحرار وخصوصاً السوريين الذين لن ينسوا كيف نزلت الى الشارع في حمص وكشفت عن وجهها ومشت يداً بيد مع مغني الثورة وحارسها عبد الباسط الساروت يغنيان «جنة يا وطنا» مع مئات المتظاهرين… فشكلا معاً رمز الثورة المدنية السلمية التي قاتلت فدوى سليمان لأجلها قبل أن تترك بلادها أو قبل أن تترُكها البلاد في 2012 وتتجه الى فرنسا هاربة من بطش النظام السوري.

هي ممثلة قديرة تعرف كيف تؤدي دورها بمهنية عالية وتعيشه حتى النهاية. فقد تخرجت من معهد الفنون المسرحية في دمشق، وشاركت بالعديد من الأعمال المسرحية والإذاعية، ودوبلاج برامج الأطفال، وكذلك المسلسلات التلفزيونية مثل الشقيقات، يوميات أبوعنتر، آخر أوراق العيد، هوى بحري، طيبون جداً، الطويبي، الحصاد، صرخة في ليل طويل، أنشودة المطر، نساء صغيرات، الليل، رمح النار، أمل. أخذتها الثورة من الأضواء ووهبت فنها وحياتها للحرية. لكن أصعب دور أدّته في الحياة هو العيش فيها وتحمّل مرارة المنفى ورؤية أصدقائها وأبناء وطنها يموتون ويُقتلون ويُخطفون ويُعدمون على مدى سنوات. إلا أنها لم تفقد الأمل بالغد الأفضل والأمل بالكرامة الإنسانية.

وقد نعاها أصدقاء وثوار وفنانون كثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقالت المخرجة السورية هالة محمد: «رحلت احدى أيقونات ثورتنا السلمية الديموقراطية… رحلت من صرخت في ساحات حمص ودمشق… «سورية بدها حرية» رحلت من هتفت «واحد واحد واحد الشعب السوري واحد». رحلت من نادت «لا سلفية ولا اخوان بدنا دولة مدنية» في منفاها الفرنسي سقطت زهرة الرمان الفنانة الحرة فدوى سليمان رحلت في سرطان القهر على سورية.

لا عزاء لثورتنا السلمية النبيلة، لا عزاء لسورية، لا عزاء لنا، لا عزاء للأحرار في هذا الكون رفاقنا على هذا الطريق السلمي الطويل إلا بسقوط ومحاكمة الطغاة القَتَلةْ». فيما كتبت الممثلة مي سكاف: «راحت البطلة… سابقة بكل شيء كنت… ثائرة بحياتك وثائرة برحيلك يا فدوى… يا وجعنا».

رحلت سليمان حزينة على بلادها الجريحة ولم تترك مناسبة إلا وأكدت فيها الوحدة الوطنية والابتعاد عن الطائفية والمناطقية. وفي إحدى مقابلاتها مع قناة العربية في 2011 رداً على سؤال يشير إلى طائفية أحداث سورية وأنها تنتمي إلى الطائفة العلوية، قالت إنها «لا تنتمي إلى أي طائفة وإنها تنتمي فقط إلى الشعب السوري وإلى سورية وإن السوريين لا ينتمون لأي طائفة وإن الشعب السوري ليس طائفياً بل إن النظام هو الطائفي وإن الديكتاتورية لا دين لها ولا طائفة». وشددت سليمان على أن الشعب السوري هو «وريث المدنية والحضارة، وأن ثورته ستنجح على رغم تآمر الساسة عليه»

لكن الجنة التي نادت بها ابنة حمص تحولت رماداً اليوم، والتآمر الذي تحدثت عنه في مجالسها وفي مقابلاتها الإعلامية كبر حتى صار بحجم دول كبرى ، فهل يُنبئ خبر وفاة فدوى سليمان بموت الثورة السورية؟

الحياة

فدوى سليمان الشاعرة والممثلة وأيقونة الثورة ترحل في باريس

تمكنت الثورة السورية منذ بدايتها أن تكشف الوجه الحقيقي للكثير من الفنانين والمثقفين والعاملين في الفضاء العام، إذ تعددت المواقف من الثورة، والتي كان أغلبها منكرا للقتل الممارس ضد الشعب السوري، لكن مواقف أخرى جعلت الكثير من الرموز الفنيّة في سوريا تفقد بريقها، إلى جانب أنها كشفت عن وعي سياسي وإيمان عميق لدى الكثرين بالفعل الثوري، إذ لم يكتفوا بالكلام، بل وقفوا إلى جانب الشعب السوري في الساحات، وهتفوا جميعا ضد النظام القمعي مطالبين بالحرية والمساواة والعدالة.

 

قوية كفراشة هشة كجبل

باريس – فارقت الحياة في باريس، الخميس، الفنانة والممثلة السورية فدوى سليمان، وذلك بعد صراع طويل مع مرض عضال.

الفنانة فدوى سليمان، من مواليد عام 1970، وهي خريجة المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق قسم التمثيل، ظهرت في أعمال درامية كثيرة ومتنوعة، نذكر منها مسلسل “أمل” و”الشقيقات” و”هوى بحري” و”نساء صغيرات” و”الطويبي” و”طيبون جداً”. كما كان لها ظهور في فيلم “نسيم الروح”، إضافة إلى أعمالها التلفزيونيّة السوريّة والمدبلجة. وشاركت الفنانة في مسرحيات كثيرة حيث عملت في العديد من الإنتاجات المسرحية، إلى جانب مشاركتها في العديد من المهرجانات المسرحيّة الفرنسية والعربيّة.

إضافة إلى التمثيل اشتهرت سليمان بكتاباتها الأدبية المميزة، إذ ألفت في الشعر والمسرح عددا هاما من النصوص، فصدر لها في المسرح نص “العبور” الذي ترجم إلى الفرنسيّة، كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “كلما بلغ القمر” عن دار الغاوون، إلى جانب أعمال أخرى من المفترض أن تنشر بالفرنسيّة.

الفن للشعب

انضمت فدوى سليمان مع بداية الثورة السورية إلى صفوف المتظاهرين في مدينة حمص المحاصرة، هاتفة ضد النظام وضد الفتنة الطائفية التي كان ومازال النظام يحاول زرعها بين أفراد الشعب السوري، فسليمان وقفت إلى جانب الشهير عبدالباسط الساروت ليهتفا بالشعارات والأناشيد التي حركت قلوب السوريين، وشحنت مشاعر الكثيرين، سواء من المتظاهرين حينها أو من المتفرجين في بيوتهم.

الفنانة الراحلة آمنت بدور الفن في الثورة السوريّة، وكيف كان للنشاط الفني الدور الكبير في إيصال أصوات السوريين

ورغم أن الفنانة تنحدر من طائفة رئيس النظام السوري، فإن ذلك لم يثنها عن الوقوف إلى جانب شعبها، فقد كانت تؤكد مرارا على أنها لا تنتمي إلى أي طائفة، وأنها تنتمي فقط إلى الشعب السوري وريث المدنية والحضارة، وأن ثورته ستنجح رغم تآمر الساسة عليه؛ إذ كشفت في تصريحات كثيرة، آلية عمل النظام في سوريا، والتي تعتمد على “تقسيم المجتمع السوري طائفياً” حسب ما صرّحت به مرارا، لوسائل إعلام مختلفة.

للفنانة الراحلة مواقف سياسية وفكرية وصفت بالجريئة والجوهرية، نظراً إلى ما تتضمنه من تسمية للأشياء بمسمياتها الحقيقية، حيث دأبت على الإشارة إلى “طائفية” نظام الأسد.

وعلى عكس الكثيرين ممن اختاروا الصمت أو أخذ مسافة من الثورة السورية، حضرت الفنانة بين الجموع لتهتف وتندد بممارسات النظام، تحت تهديد القتل والاعتقال الدائمين، إذ وصل الحد بالنظام السوري إلى إشاعة خبر موتها عام 2012 على يد “إرهابيين”، لتنفي بعدها سليمان ذلك، وإثر التضييق الدائم عليها رحلت إلى باريس لتستقر هناك حتى وفاتها.

في باريس لم تتوقف سليمان عن نشاطها في سبيل الثورة السورية ونصرة الشعب السوري، فبالرغم من تصريحاتها الأخيرة حول الإجراءات البيروقراطية التي تواجهها في العاصمة الفرنسيّة باريس، عملت سليمان بالتعاون مع الكثير من الشعراء الفرنسيين على نشر الوعي بالثورة السوريّة والنشاط السلميّ عبر جولات مختلفة في المدارس لتعريف الطلاب بالقضية السوريّة وفتح مجال النقاش معهم في سبيل نشر الوعي بحقيقة ما تمر به سوريا. كما نُظمت لها محاضرة في جامعة السوربون بعنوان “الفن في مواجهة السلاح”، وفيها تتحدث عن دور الفن في الثورة السوريّة، وكيف كان للنشاط الفنيّ دور كبير في إيصال أصوات السوريين، إلى جانب دور الثورة في إعادة تعريف الفن السوري وتطوير لغته وتقنيات التعبير المرتبطة بما تمر به سوريا، وخصوصاً أن حدثا هائلا بحجم الثورة لا يمكن تجاهله، إذ كان سبباً في كسر احتكار النظام للمؤسسة الفنية، ما سمح للكثيرين من المهمشين أو المبعدين عن الساحة الرسمية بالعمل والإنتاج وتقديم تجارب تحاول التأسيس لثقافة سوريّة تتجاوز سياسات النظام وهيمنته.

على عكس من اختاروا الصمت أو أخذ مسافة من الثورة السورية، حضرت الفنانة بين الجموع لتهتف وتندد بممارسات النظام

قوة الفراشة

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات الرثاء والنعي إثر رحيل سليمان، فالأخيرة رمز من رموز الثورة السوريّة، وأيقونة رأى فيها الكثيرون تعبيراً عن النضال السلميّ وموقفاً للفنان المؤمن بقضيته وقضية شعبه.

وتداول الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي خبر وفاتها، معتبرينه خسارة للفن وللثورة السورية، حيث كانت اسما لامعا وخيّرت أن تكون فنانة الشعب بوقوفها إلى جانبه في محنته التي مازال يمر بها.

ونشر الفنان السوري فارس الحلو، الذي يقطن في باريس، نعيًا لسليمان في صفحته على “فيسبوك”، كتب فيه “الزميلة والصديقة والبطلة فدوى سليمان.. ننعى إليكم وفاة الفنانة السورية التي أجبرت العالم على رؤية الحقيقة إثر مرض عضال”.

نقرأ من ديوان سليمان وصفاً لنفسها من نص شعري لها كتبته في باريس:

لِي قُوَّةُ الفَرَاشَهْ/ وَضعْفُ ثَورْ/ وَلِي هَشَاشَةُ الجِبَالْ/ وَصَلابَةُ خَيْطِ العَنكَبُوتْ/ وَلِي ضَجِيْجُ أَرْجُلِ النَّمْلَهْ/ وَصَمْتُ البَحْر/ وَلِي مَوتُ الحَياةِ في الشَّرْنَقَهْ/ وَحَيَاةُ المَوتِ فِي السَّائِرِينْ/

وَخُضْرَةُ أَوْرَاقِ الخَرِيفِ/ وَاصْفِرَارُ العُشْبِ فِي آذَارْ/ وَلِي تَـمُّوزُ/ لَنْ يَعُودَ بِتَمُّوزْ/ وَلِي مِنَ الأيَّامِ لَحْظَهْ/ حِيْنَ يَأخُذُ القَلْبُ اسْتِرَاحَتَهُ الأبَدِيّه/

يَنْتَهِيَ كُلُّ شَيءْ/ لِيَكُونَ لِي/ مَا لَـمْ يَبْدَأْ بَعْدْ/ أَو بَدَأ”.

العرب

ماتت أيقونة الثورة السورية/ عدنان عبدالرزاق

كست ألوان الوجع اليوم، جل صفحات التواصل الاجتماعي على رحيل من يسميها السوريون “أيقونة ثورتهم” فدوى سليمان، لتعج الأسئلة ثانية بالرؤوس، حول مصير الثورة التي يحاول من ادعى صداقة السوريين قتلها، قبل من أعلن عليها وعليهم العداوة، فساهم بالتسليح وقاد حرف الثورة إلى غياهب المجهول، ليروّج اليوم بأن لا بديل عن الأسد وإن لأجل مسمى “مرحلة انتقالية، قد تطول ريثما يبلغ حافظ الأسد الثاني، سن تسلم الحكم، أو يعدّلوا له الدستور كما بشار، إذ “من شابه أباه فما ظلم”. هل فعلاً دخلت ثورة السوريين بمنعطف الطائفية التي اشتغل عليه بشار الأسد، بكل ما أوتي هو وحلفاؤه بطهران، من مكر و”تحريض”؟

إن كان الجواب نعم، فمن يبرر حزن السوريين اليوم، وبكل مكوناتهم، على الثائرة فدوى سليمان، ابنة صافيتا السورية. وكانت أول من تظاهرت و تنبأت واشتغلت على إبعاد الثوار عن الطائفية والسلاح. وأعلنت غير مرة أنهما، أي الطائفية والسلاح، مقتلة الثورة التي يسعى الأسد لتوريط السوريين بها. وهذا، وبشهادة فدوى، ما دفعها لتترك ساحات التظاهر بدمشق في برزة وتسرع لحمص، مهد الثورة السورية، وتحذر من مخطط الأسد بعسكرة وتطييف الثورة.

أوليس بحزن السوريين على “ضفة” وليس صفة الثورة والمعارضة اليوم، دليل قاطع على فشل نظام الأسد، بفزاعة “الأسلمة وسنية الثورة”، والتي استمال عبرها، جل من حوله حتى اليوم؟

وأيضاً، أليس ما حدث اليوم من نهاية لفصل ثائرة، هو تتمة لمقدمات، قام بها ثوار حمص، يوم استشعروا الخطر على فدوى، ومن أطراف عدة، فآثروا إخراجها من اغتيال محتمل، ليحافظوا على نقاء ثورتهم وصوفيتها، وإن بالحدود المقدور عليها.

تروي فدوى فيما تروي، كيف كان ثوار حي الخالدية بحمص، ينقلونها من بيت لآخر، ومن مخبأ لثان، لئلا يطاولها شرر الحقد أو رصاصات الغدر، من نظام أوجعه خروج فدوى وتقدمها المظاهرات، فأبطلت مقولاته الطائفية، ومن “متأسلمين” رأوا بخروج فدوى، ربما خروجاً عن تعاليم دينهم، البعيد عن الإسلام، وفق ما أكدت الأحداث وبرهنت الدلائل.

قصارى القول: فدوى سليمان التي توفاها الله صبيحة اليوم، في ضواحي العاصمة الفرنسية، بعد معاناة صامتة مع سرطان الرئة، من قلة من استشعرت، نوايا الأسد بحرف ثورة السوريين، فخاطرت بحياتها لتنبيه الثوار وكشف خطط الأسد. وفدوى ذاتها من أول من استشعر مخاطر استمرار الثورة بفخ التسليح، بل ورأت أبعد مما يراها غيرها.

ففدوى من نادى لمحاربة السلاح عبر الفن. وآثرت وعبر طرائق ومحاولات كثيرة، تكريس سلمية الثورة، ومواجهة سلاح الأسد، عبر أسلحة الثورة الأولى، من فن وتظاهر ورسوم وهتافات، ولعل في آخر إطلالة علنية لها قبل عامين، تأكيدا على فهم فدوى ربما إلى أبعد مما رمى إليه الأسد، إن لتقسيم سورية، أو أخذها لمتاهات المجهول عن الطائفية، ونبش كل ما يدعيه نكوصيو الأسد وشركاؤه بطهران.

فقدمت فدوى سليمان، من إحدى قاعات جامعة “السوربون بانتيون” في فرنسا محاضرة بعنوان “الفن في مواجهة السلاح”، بدعوة من مجلة “روكين” وجمعية العالم العربي، وتجمع “شمس”، وبحضور طلاب جامعة السوربون بانتيون في باريس، وعدد من الشخصيات الثقافية، وأعضاء جمعيات مدنية مختلفة.

أجابت خلال المحاضرة على أسئلة، ربما فيها ملامح الخلاص، من قبيل، هل يمكن للفن أن يغير الواقع؟ ما التغيير الذي أحدثه الفن في سورية الثورة؟ وقد بدأت بالفن الشعبي أولاً الذي أسهم في صناعة الثورة، لا بل أشعلها وأوقد نارها.

واستحضرت أمثلة من زمن “صوفية الثورة” عبر بعض الفيديوهات المصورة التي عبرت عن الوجع السوري، وشحذت الهمم وشجعت على الوقوف بوجه الظلم، والذي بدأ مع أهالي درعا عندما أطلقوا شعار “سورية لينا وماهي لبيت الأسد” بغناء على إيقاع ولحن “الجوفية” الشعبي وأغنية الفنان سميح شقير، وما تلاها من تضامن شعبي كبير مع أهالي حوران.

لتدلل فدوى، بالآن نفسه، على ما فعلت تلك الفنون بآلة الأسد السياسية والعسكرية، معرجة على فن الرسم والكتابة على الجدران “الغرافيتي” وأثره الأمضى من الرصاص، الذي للأسف، تم جر السوريين له، ليدافع عن نفسه قبل أن تأخذ الثورة مسارات، ربما كان لها الدور الأهم، بتشويهها وركوب “الغرباء” عليها.

نهاية القول: ثمة رسائل أطلقها السوريون المعارضون لاستبداد الأسد اليوم، لعل في مقدمتها، نحن لسنا طائفيين كما تدعي، وهذه الفدوى التي فدت ثورتنا، نحن منها وهي منّا، وليست منك.

وليؤكد السوريون من ضمن رسائلهم اليوم، ثورتنا باقية وستعود، وها نحن من خلال الحسرة على فدوى التي قهرها سرطان الأسد، والحسرة على زمانها، وزمن ثورتنا الجميلة، نقول للعالم ولمن يهمه الأمر، سنعاود الكرّة بعد تنظيف ثورتنا مما ركبها من شوائب، لنصل وحلم السوريين، لدولة ديمقراطية، خالية من القهر والاستبداد… تشبه فدوى سليمان وجيلها.

العربي الجديد

الصحافة الفرنسية ترثي فدوى سليمان: رحلت أيقونة الثورة السلمية

باريس ــ أحمد عيساوي

فور شيوع خبر وفاة سليمان بسبب مرض السرطان في منفاها الباريسي، أمس، رثاها مئات الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، واستعاد بعضهم مقاطع مصورة من المظاهرات الأولى في حي البياضة في مدينة حمص.

فقد شاركت الراحلة مع عبدالباسط الساروت متحدية وحشية النظام السوري وتهديداته المتكررة بـ “سحقها”، كما ذكرت في وثائقي “دولة الرعب، سورية السجن الكبير” الذي بثته قناة France Culture على أربعة أجزاء، العام الماضي.

صحيفة “ليبراسيون” اليسارية نعت الممثلة السورية واصفة إياها بـ “أيقونة الثورة السورية”، وركزت على مشاركتها في الانتفاضة الشعبية منذ يومها الأول “متحدية رجال وأسلحة طاغية دمشق” و”مجاهدة في سبيل تجنب التعبئة الطائفية في مظاهرات حمص التي حاول البعض صبغها بلون سنّي معادٍ لنظام علوي”.

ونشرت “ليبراسيون” مقطعاً للممثلة السورية الراحلة خاطبت فيه المتظاهرين قائلة إنها “ليست علوية، بل سنية مثلهم، لأنها سورية بالدرجة الأولى، شأنها شأن الملايين الذين يعانون من بطش النظام”.

وأضافت: “في محاضرتها في جامعة أفينيون فور وصولها إلى باريس عام 2012، حمّلت أوباما (الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما) ورؤساء الدول الكبرى المسؤولية الكاملة عن استمرار المقتلة بحق السوريين.

وأشارت إلى “خبث غربي في عدم دعم النواة الأولى للمنشقين عن النظام وترك الأمور تسير إلى حرب أهلية غذاها جهاديو الأرض من أقصاها إلى أقصاها”.

وختمت الصحيفة تقريرها قائلة: “رفضت فدوى سليمان اختزال الشعب السوري بسنة وعلويين، وسخّرت أعوامها الستة الأخيرة لإقناع العالم أنّ هنالك شعباً انتفض ضد الظلم وطالب بكرامته وحريته. انطفأت في المنفى، وهذا حزن مزدوج، قبل أن ترى سقوط بشار الأسد”.

صحيفة “لوموند” استعادت مقالة نشرها الصحافي كريستوف عياد في ربيع عام 2012، وتعرف الفرنسيون عبرها على “التي قالت لا لبشار الأسد، ليست وحدها، لكنها الأبرز والأكثر جرأة في معارضتها للنظام”.

في شهادتها مع كريستوف عياد، رفضت سليمان وصفها بـ”الناشطة العلوية”، معتبرة أن “الطائفية كانت لعبة النظام الأساسية في حمص لسحق الانتفاضة”.

بدورها، كتبت صحيفة “صوت الشمال” La Voix du Nord عن الممثلة الراحلة.

وتطرقت “لو فيغارو” إلى مواهب سليمان في المسرح والتلفزيون، وكتابتها الشعر، ومواكبتها الفعاليات الأدبية في فرنسا، وكتبت: “أصدرت فدوى سليمان ديوانها (اكتمال القمر) العام الماضي، والتقينا بها في حفل التوقيع وسألناها عن سورية، فقالت إنّ أملها بوطنها وشعبها لا ينتهي. سورية اليوم ليست جغرافيا، بل فكرة، ثورة بيضاء، ثورة الروح التي ستتجاوز المكان والزمان”.

فدوى سليمان… من قلب الانتفاضة إلى منفى العالم

حكاية ما انحكت

لم تكن الفنانة والناشطة السورية فدوى سليمان تتوقع أن ينتهي بها المطاف في باريس حزينة ومتألمة منتظرة حرية بلدها، ترنو إليه وهو ينزلق لكل ما حذرت منه سابقا، وهي التي كانت منخرطة في كافة الفعاليات منذ بدء الانتفاضة حتى الآن.

حين بدأ ” الربيع العربي” يرن أجراس الحرية كانت فدوى كغيرها من أفراد الشعب السوري المنتظر حرية طال انتظارها، حرية عُتقت في دنان الانتظار، ليتخذ الربيع السوري صيغة تظاهرات متضامنة مع ربيع الشعوب الأخرى أمام سفارات تونس ومصر وليبيا، حيث حاول السوريون تغليف تظاهرهم ضد نظامهم تحت شعار التضامن مع الشعوب الثائرة، مع رفع شعار” خاين يلي بيقتل شعبو” في تلميح مبطن إلى النظام السوري.

وقتها كانت فدوى تقرأ وجوه الناس باحثة عن التغيير الذي تنتظره، و رغم أنها لم تشارك في تلك الاعتصامات إذ قالت لموقعنا: “لم أشارك في اعتصامات السفارات، وإنما عندما بدأ الربيع العربي في تونس تمنيت لو أن الشرارة تمتد إلى سوريا، وبدأت أبحث في الشوارع وفي وجوه الناس عمن يشاركنا حلم التغيير”.

وما إن انطلقت صرخة حرية في سماء الشام في الخامس عشر من آذار (2011) حتى بدأت فدوى ورفاقها تشعر أن الحلم اقترب، فبدأت تعمل على أن تكون جزءا من ثورة شعبها لا مجرد ” كومبارس” مستغلة بذلك صوتها كفنانة للتأثير على الرأي العام السوري من جهة، ولتكون صوت الانتفاضة المدني للخارج أيضا،” وعندما خرجت أول مظاهرة في 15 آذار بدأت ألتقي ببعض الناشطين،  الذين يريدون القيام بمظاهرات في دمشق وتفعيل الحراك السلمي بتنظيم مظاهرة معهم في قلب العاصمة دمشق“، لتبدأ حكاية فدوى مع الانتفاضة، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مراحل طبعت تاريخ نضالها، وهي:

مرحلة دمشق:

شاركت فدوى في هذه المرحلة الممتدة من الخامس عشر من آذار وحتى بواكير شهر تشرين الثاني من سنة 2011، في أغلب التظاهرات التي انطلقت في العاصمة السورية، حيث كانت من المنظمين لعدد منها في أحياء دمشق، بدءا من تظاهرات واعتصامات عرنوس إلى مدحت باشا والحريقة، مصرة على سلمية الثورة ومدنيتها، مدققة في اختيار شعاراتها التي كانت تختار بعناية فائقة.

تقول فدوى “أول مظاهرة نسائية في عرنوس صامتة وكانت الشعارات: “فكوا الحصار عن درعا- سوريا وطن يتسع للجميع- لسنا سلفيات ولا مندسات- نحن نساء ننتمي لسوريا وسوريا فقط – ولوغو مع شعار (لا للقتل ، ولا للعنف)”، كما شاركت في تظاهرة أخرى في عرنوس شارك بها حوالي 250 شاب وفتاة، تم خلالها رفع شعارات “فكوا الحصار عن المدن”، و” الحوار الوطني هو الحل”، و “سوريون لن تفرقنا الطائفية”، و “نريد وطنا جميلا ونظيفا” و “شهداؤنا نوصيكم بهم” و “حماة الديار اوقفوا إطلاق النار”، و ” نحو مجتمع مدني حر”، وهو ما يعكس الوجه المدني الحر والمستقل للشباب السوري في بداية الحراك.

وقامت إلى جانب عدد من الصبايا والشباب بتصوير  أول الاعتصامات المنزلية النسائية، والتي كانت تحمل نفس الشعارات الداعية للسلمية ووقف العنف، كما شاركت في كل العزاءات التي أقيمت لشهداء الانتفاضة  في برزة والقابون و زملكا ودوما، حيث أصرت ورفاقها على تأدية واجب العزاء ضد إرادة الأجهزة الأمنية التي كانت تحاول منع السوريين من الالتقاء ببعضهم البعض، خاصة إن كانوا من منابت طائفية متعددة، لذا أصرت فدوى على كسر الحواجز بين السوريين، محولة العزاء إلى تظاهرة بصوتها الهادر والداعي للوحدة الوطنية، ودون أن تتنازل عن حريتها في وجه الاستبداد وفي وجه العادات والتقاليد التي كانت تحكم بيئات العزاء هذه، ففي إحدى المرات حين وصلوا إلى أحد العزاءات رحبت بهم أخت الشهيد، وقالت: هل أجلب لكم حجابات ( أغطية الرأس)؟ فردت فدوى: “لا نحن جئنا من كل سوريا ونريد أن نتضامن معكم كما نحن لنثبت للجميع أن سوريا واحدة بجميع أبنائها”، فما كان من المرأة إلا أن رحبت بفدوى ورفيقاتها بحرارة.

هنا كانت فدوى تعمل على العقل والوعي لتكسير التقاليد بدءا من العقائد وليس انتهاءا بالأفكار الخاطئة عن الآخر، إذ طلبت ذات مرة من الرجال المتواجدين  في فناء الجامع ببرزة أن يبدأووا بالصلاة معاً من أجل حمص، كي لا يجرها النظام إلى بركان طائفي، وقد وقفوا جميعاً نساءا ورجالا وبدؤوا بالدعاء لحمص، وهذا يُعد كسرا للعادات والتقاليد الدينية، التي تمنع وقوف الرجل إلى جانب المرأة في الصلاة.

في هذه المرحلة ظهر أول شريط لفدوى سليمان على صفحات التواصل الاجتماعي، وهي تقوم بالغناء في أحد عزاءات الشهداء في القابون، حيث أنها كانت مدعوة للمشاركة في مظاهرة نسائية في القابون، متزامنة مع مظاهرة للرجال، فقامت بالتواصل أيضاً مع ناشطين لكي تكون المظاهرة عبارة عن زراعة أشجار زيتون من الساحل السوري في القابون من أجل أرواح شهداء سوريا والقابون،  حيث تقصدت أن يكون أغلب النشطاء من الأقليات الدينية لإثبات كذب النظام، لتتحول المظاهرة في 17/7/2011 إلى عرس وطني حقيقي، وتنضم النساء إلى الرجال في مظاهرة واحدة، وتكرر الأمر في اليوم التالي/7/2011 في برزة في جنازة الطفل يزن الريس وزراعة زيتون الساحل السوري لأرواح الشهداء فيها.هنا بدأت شهرة فدوى تظهر للعلن، ولتكون بذلك من أول الفنانين الذين أعلنوا رفضهم المطلق للاستبداد، وبشكل علني وصريح.

وشاركت فدوى في هذه المرحلة أيضا في التوقيع على البيان الذي عرف باسم “بيان الحليب” الذي كتبته السيناريست ريما فليحان للتضامن مع أطفال وأهالي درعا، ردا على حملات النظام التعسفية، حيث قام النظام وشبيحته بتهديد الفنانين الذين وقعوا على هذا البيان. وأطلقت ما سمته ثورة الحب والمسامحة، كي يعيش السوريون جنبا إلى جنب، وذلك في رسالة سجلت خصيصا لأجل محاضرة عن دور المرأة في الثورة السورية، برعاية مؤسسة المرأة في إطار البحر المتوسط وجمعية سورية حرية لدعم ثورة الشعب السوري. وأثناء تواجدها في دمشق، لم تكتفي فدوى بذلك، بل كانت تقوم بالذهاب إلى مدينة درعا و وريفها (المسيفرة والحراك والطيبة)، حيث نقلت نشاط زراعة زيتون الساحل السوري إلى درعا لتشارك في زراعة الزيتون والتظاهرات التي كانت تنتهي بالقسم الذي يثبت إيمان ابنة الساحل السوري بسوريا وشعب سوريا.

المرحلة الثانية: فدوى في عاصمة الثورة:

بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة بدأت أساليب النظام تؤتي ثمارها في دفع قطاعات من الانتفاضة نحو الطائفية والعنف، الأمر الذي دفعها للنزول إلى حمص لمواجهة الطائفية وعنف النظام والسلاح عبر التأكيد على سلمية الانتفاضة ومدنيتها بوجه محاولات حرفها نحو مناخات إسلامية أو تحويلها لثورة مسلحة، حيث بدأت فدوى لقاءات موسعة مع ناشطي مدينة حمص لوضع خطة لتفعيل الحراك السلمي والتظاهر ومنع الانزلاق للعنف والطائفية، وانطلقت في حملة توعية للأهالي والمتظاهرين، تؤكد من خلالها أن النظام يدفعنا نحو التسلح ليحقق أجندته وكذلك القوى الخارجية، فبدأت تقود التظاهرات في البياضة والخالدية وتتواصل مع الإعلام باسمها الصريح لنقل صوت المنتفضين ومطالبهم، رغم كل ما في ذلك من خطر واضح على حياتها، حيث كان النظام بدأ القيام بتصفيات ميدانية للناشطين السلميين.

ولم تكتف فدوى بذلك بل بدأت التواصل مع الناس على الأرض والمشاركة في أحزانهم وغنائهم، حيث زارت العائلات المنكوبة وغنت مع العجائز والشباب وشاركت في تشييع الشهداء عدا عن المشاركة على قنوات الجزيرة والعربية وغيرها لنقل صوت الثورة للخارج، إضافة إلى المشاركة في المؤتمرات من قلب حمص الثائرة عبر سكايب، لنقل صوت المنتفضين و تشجيعهم على المضي في انتفاضتهم حتى النهاية ولمنع انجراف الناس نحو السلاح، وهو الأمر الذي لم تتمكن فدوى من إيقافه رغم كل محاولاتها، حيث بقيت في المدينة قرابة الشهر تلتقي مع الجميع وتحاور الجميع، إلى أن أصبح حجم العنف أكبر من أن يحتوى، فخرجت من حمص وهي تبكي، رغم أن تجربتها في المدينة هي التي حولتها إلى أيقونة لكل السوريين، لأنها كانت تحارب على جبهات عدة: النظام من جهة، و دعاة السلاح من جهة أخرى، والطائفيون من جهة ثالثة.

المرحلة الثالثة: المنفى الباريسي:

بعد أن اشتد عنف النظام وبدأت بعض قوى الانتفاضة بالتسلح أصبح الخطر قائما على حياة الناشطين السلميين ومنهم فدوى سليمان، فخرجت من حمص إلى دمشق سعيا منها لإعادة تفعيل حراك المدنية وتنشيطه أكثر إلا أن حجم العنف والوضع الأمني الصعب والملاحقات المستمرة لها منعتها من ذلك، لتقرر الذهاب إلى الأردن فباريس، حيث كان ناشطو المنفى بانتظارها، ولتواصل بعدها دورها الإعلامي في فضح مجالس المعارضة التي لم ترقى ( من وجهة نظرها) لما يقدمه المنتفضون على الأرض السورية.

الآن تجلس فدوى في المنفى الباريسي حزينة لحجم العنف الذي يضرب أرض السوريين، ومع ذلك لا تكف عن الأمل، وكأنها تحمل في دمها نبوءة أستاذها الراحل المسرحي الكبير سعد الله ونوس حين قال: “إننا محكومون بالأمل!

هذه المادة نشرها موقع “حكاية ما انحكت” في 7 شباط/فبراير 2013، وتعيد “كلنا شركاء” نشرها في يوم رحيلها

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى