صفحات الثقافة

فرانتس كافكا: في الذكرى السنوية العاشرة لوفاته

 

فالتر بنيامين

بوتمكِن: يُروى أن بوتمكِن كان يعاني من حالات اكتئاب تصيبه تقريباً على نحو منتظم. في مثل تلك الحالات لم يكن يُسمح لأحد بالاقتراب منه، وعندئذ يصبح الدخول إلى غرفته ممنوعاً بشكل صارم. لكن هذا الداء لم يكن يُشار إليه داخل البلاط، حيث كان معروفاً أن أدنى تلميح له يُعرض صاحبه لأن يصبح موضع ازدراء الإمبراطورة كاثرين.

وحدث أن استمرت إحدى حالات الاكتئاب التي تصيب رئيس الوزراء وقتاً طويلاً جداً، فأحدثت تعقيدات خطيرة؛ حيث تكدست المكاتب بالوثائق التي تتطلب توقيع بوتمكِن، وكانت الإمبراطورة تضغط من أجل إنجاز هذه الأعمال، في حين أعيت الحيلة كبار المسؤولين في البلاط لحل هذه المشكلة.

وفي أحد الأيام تصادف مرور أحد الكتبة صغيري الشأن، ويُدعى شوفالكين، بحجرة الانتظار في قصر رئيس الوزراء، وكان مستشارو الدولة مجتمعين هناك، مسترسلين كعادتهم في الأنين والتأوه. سألهم شوفالكين، بطبيعته الكريمة الميالة لتقديم المساعدة: ‘ترى ما هي المشكلة يا أصحاب السعادة؟’

شرح له المستشارون المشكلة مستبعدين إمكانية أن يكون في استطاعته مد يد العون لهم. لكن شوفالكين قال: ‘إذا كان هذا هو كل ما في الأمر، فإني التمس منكم إعطائي هذه الأوراق’. ولما لم يكن لدى مستشاري الدولة ما يخسرونه أكثر من ذلك، فقد أقنعوا أنفسهم بأن يسمحوا لشوفالكين بالمحاولة.

محملاً بحزمة الوثائق تحت ذراعه، شرع شوفالكين في رحلة لغرفة نوم بوتمكِن عبر ممرات وأروقة القصر، ودون أن يتوقف أو يكلف نفسه عناء طرق الباب، أدار مقبض باب الغرفة التي لم تكن مغلقة. كان بوتمكِن يقضم أظافره وهو جالس على سريره مرتدياً قميص نوم طويلا رثا في الغرفة شبه المظلمة.

اندفع شوفالكين من فوره إلى منضدة الكتابة، وغمس القلم في الحبر، ودن أن ينبس بكلمة دفع القلم إلى يد بوتمكِن ووضع إحدى الوثائق على ركبته. حدق بوتمكِن بنظرة فارغة خالية من التعبير في هذا المتطفل الذي دخل عليه عنوة، ثم، وكأنه في سبات، شرع في توقيع الورقة الأولى، فالثانية، وأتم أخيراً توقيع جميع الوثائق. وبعد أن وضع التوقيع الأخير، أخذ شوفالكين الأوراق تحت ذراعه وغادر الغرفة دون أي جلبة، كما دخلها.

دخل شوفالكين إلى قاعة الانتظار وهو يلوح بالأوراق منتصراً، فأسرع إليه مستشارو الدولة وانتزعوا الأوراق من بين يديه، وانكبوا عليها في لهفة، لكن أحداً منهم لم ينطق بكلمة، وبدوا جميعاً كما لو أنهم قد أصيبوا بالشلل. اقترب شوفالكين منهم وسأل بإلحاح عن سبب استياء السادة المستشارين، وفي هذه الأثناء انتبه لأول مرة للتوقيعات. كانت الوثائق، الواحدة تلو الأخرى، ممهورة بتوقيع: شوفالكين.. شوفالكين.. شوفالكين..

تلوح لنا هذه القصة وكأنها بشارة تعدو بسرعة لتقطع مائتي عام تفصلها عن أعمال كافكا، فجو الغموض الذي يغلفها هو جو كافكا، وعالم المكاتب والسجلات، والغرف المعتمة الرثة العتيقة هو عالم كافكا، وشوفالكين بطبيعته الميالة لتقديم العون، الذي يستهين بكل شيء والذي يُترك في النهاية خالي الوفاض، هو ك لدى كافكا، وبوتمكِن الذي يحيا ناعساً في خمول وبلادة، أشعث مهمل الهيئة، في غرفة معزولة نائية يتعذر بلوغها هو سلف لأصحاب السلطة في أعمال كافكا؛ الذين يحيون في العليّات كالقضاة، أو في القلعة كالسكرتيرين، والذين مهما تكن مكانتهم عالية، إلا أنهم دائماً متهدمين خربين منحلين، حتى وإن لاح أن أقلهم شأناً وأكثرهم رثاثة؛ كالبوابين والعجزة من الموظفين، يبدون على نحو فظ ومدهش في كامل قوتهم.

لماذا هم خاملون بلداء؟ أيمكن أن يكونوا منحدرين من سلالة الجبار أطلس الذي يسند العالم بكتفيه؟ ربما لهذا السبب كانت أعناق أصحاب السلطة عند كافكا مغروسة عميقاً في صدورهم حتى أن المرء بالكاد يستطيع رؤية أعينهم، كما الحال في صورة آمر القلعة، أو كلِم عندما يكون وحده. ولكن العالم ليس هو ما يحملونه، إن الأمر ببساطة هو أنه حتى أكثر الأشياء اعتيادية وابتذالاً لها وطأتها وثقلها الخاص. ‘إن إعياءه يشبه أن يكون إعياء مصارع روماني بعد المعركة؛ وظيفته هي طلاء ركن غرفة المكتب بالكلس!’

قال جورج لوكاش ذات مرة أن صنع منضدة لائقة في الوقت الراهن يتطلب من المرء أن تكون لديه العبقرية المعمارية لمايكل أنجلو. وإذا كان لوكاش يفكر بلغة العصور، فإن كافكا يفكر بلغة العهود الكونية، والرجل الذي يطلو ركن المكتب بالكلس أمامه دورات كونية حتى يتحرك، أقل حركة ضئيلة. في مناسبات عديدة ولأسباب كثيراً ما كانت غريبة تصفق شخصيات كافكا بيديها، وفي إحدى المرات يذكر هذه الملاحظة العرضية بأن هذه الأيدي هي: ‘مطارق بخارية حقاً’.

نحن نلتقي بأصحاب السلطة هؤلاء في حركاتهم النظامية المطردة البطيئة سواء في صعودهم أو سقوطهم، ولكنهم في أبشع حالاتهم عندما يُبعثون من أعماق الوهن؛ من أعماق الآباء. يهدئ الابن روع الأب الخرف شبه الميت، والذي آواه للتو في الفراش: ‘ ‘اطمئن، فالبطانية تكسوك بالكامل’. ‘لا’، صرخ الأب، ومقاطعاً الإجابة المحتملة للابن، ألقى البطانية عنه بقوة تجلت وانفجرت فجأة، ووقف على السرير، وقد أمسكت إحدى يديه بالسقف بوهن حتى يثبت في وقفته. ‘أنت أردت أن تغطيني، أنا أعرف ذلك، يا وغدي الصغير، ولكنني لم أختف تماماً بعد. وحتى لو كانت هذه هي كل القوة التي بقيت لدي، فهي كافية بالنسبة لك، بل أكثر من كافية … شكراً للسماء أن الأب ليس في حاجة إلى تلقينه كيف يرى ما بداخل ابنه’. وظل واقفاً بلا أي دعم وشرع يرفس بساقيه. وتلقى أشارة أضاءت بصيرته … ‘حسناً والآن أنت تعرف ماذا يوجد هناك في العالم بخلافك أنت، حتى الآن لم تكن تعرف شيئاً إلا عن نفسك فقط! صحيح أنك كنت طفلاً بريئاً، لكن الصحيح أكثر أنك كنت شخصاً شيطانياً’.

عندما يقذف الأب بثقل البطانية عنه، يبدو كما لو أنه قد قذف أيضاً بثقل كوني، كما لو أنه يتوجب عليه أن يحرك العصور الكونية السحيقة في سبيل أن يُحوّل العلاقة الأبدية بين الأب والابن إلى شيء ما حي ومترابط. ولكن يا للنتائج التي ترتبت على ذلك! إنه يحكم على ابنه بالموت غرقاً. الأب هنا هو من يُعاقِب؛ والشعور بالإثم يفتنه كما يفتن موظفي المحكمة.

هناك الكثير الذي يشير إلى أن عالم الموظفين الرسميين لدى كافكا هو نفسه عالم الآباء. هذا التشابه لا يُعزز رصيد هذا العالم؛ الذي يتشكل من الفتور، والوهن، والقذارة. إن الزي الرسمي للأب ملطخ بالبقع في كل مكان، وملابسه الداخلية متسخة. إن القذارة هي المحيط والمجال الذي يتحرك خلاله الموظفون الرسميون. ‘لم تستطع أن تفهم في المقام الأول لماذا خصصت ساعات عمل في المكاتب للجمهور. ‘من أجل أن يوسخوا السلالم الأمامية ببعض القذارة’. هكذا أجاب ذات مرة على سؤالها أحد الموظفين، والذي كان على الأرجح منزعجاً، ولكن الإجابة بدت لها مقنعة للغاية’.

القذارة هي الصفة اللصيقة جداً بالموظفين لدرجة أن المرء يكاد يراهم كطفيليات هائلة الحجم. هذا، بالطبع، لا يشير إلى السياق الاقتصادي، ولكن إلى القوى التي تكوّن عقلية وطبيعة هذه الزمرة والتي تكسب معيشتها بناءً عليها. وهو ما يشبه الطريقة التي يحيا بها الآباء على حساب أبنائهم في عائلات كافكا الغريبة، الآباء الذين يعتلون رؤوس أبناءهم كطفيليات عملاقة. فهم لا ينهبون قوتهم فقط، ولكنهم ينخرون أيضاً في حق الأبناء في الوجود. الآباء يُعاقِبون، وهم في الوقت ذاته من يوجهون الاتهام، والتهمة التي يتهمون بها أبنائهم تبدو وكأنها نوع من الخطيئة الأولى. والتعريف الذي أعطاه كافكا لها ينطبق على الأبناء أكثر مما ينطبق على غيرهم: ‘الخطيئة الأولى، الظلم الغابر الذي اقترفه الإنسان، يكمن في تشكي الإنسان بشكل متواصل بأنه كان ضحية لظلم ما، بأنه كان ضحية للخطيئة الأولى’.

ولكن من هو المتهَم باقتراف هذه الخطيئة الموروثة ـ خطيئة القيام بإنتاج وريث- إذا لم يكن الأب نفسه في نظر ابنه؟ وعلى هذا سيكون الابن هو الوغد الشرير.

ولكن لا ينبغي على المرء أن يستنتج من تعريف كافكا أن الاتهام نفسه شرير لمجرد أنه زائف. فالحقيقة أنه لا يوجد مكان يذكر فيه كافكا أن هذا الاتهام يُوجَه ظلماً وعدواناً. وهنا تتجلى في هذا الموضع العملية التي لا تتوقف أبداً والتي لا نهاية لها، ولا يمكن لأي دعوى أن تبدو في مظهر أكثر سوءًا من تلك التي يحاول فيها الأب استخدام هؤلاء الموظفين ومكاتب المحكمة لنصرة قضيته ومد يد العون له. وأسوأ صفات هؤلاء الموظفين هنا ليست قابليتهم اللا نهائية للرشوة والفساد، لأن جوهرهم الذي هو على هذا النحو من القابلية للفساد هو الأمل الوحيد الباقي الذي يلوح للروح البشرية التي تواجههم.

حقاً إن المحكمة لديها كتب قانون تحت تصرفها، ولكن الناس لا يُسمح لهم بالاطلاع عليها. ‘إنها إحدى خصائص هذا النظام القانوني، يحزر ك، إن الحكم لا يصدر على الشخص فقط بخصوص برائته لكن بخصوص جهله أيضاً’. القوانين والقواعد الواضحة المحددة تظل شفهية غير مدونة في عالم ما قبل التاريخ، وقد ينتهكها الإنسان دون أن يرتاب في الأمر فيصبح عندئذ عرضة لأن يُطالب بالتكفير عن خطاياه.

ومهما كانت قوة الصدمة بالنسبة لذلك الإنسان الذي لم يشك بأنه قد أثم، فإن ارتكاب الإثم في عرف القانون ليس مصادفة ولكنه محتوم، إنه القدر الذي يتجلى هنا بكل غموضه. في تقصي خاطف لفكرة القدر في العصور القديمة وصل هرمان كووِن إلى ‘نتيجة لا مفر منها’ تقول: ‘تبدو أحكام القدر هي نفسها مَن تُسبب وتُحدث الانفصال عنه، تُحدث الردة’. الأمر نفسه يحدث مع السلطات القضائية التي توجه دعواها القضائية إلى ك. إنها ترجع بنا للوراء بعيداً إلى عالم ما قبل التاريخ، قبل منح ألواح القانون الإثني عشر، وقبل أن تتحقق أولى الانتصارات المسجلة على العالم بتدوين القانون. القانون المدون عند كافكا يتم احتواءه في كتب، لكن الكتب تظل سرية؛ ولكون القانون مؤسساً على هذا النحو السري فإن عالم ما قبل التاريخ يمارس قانونه على نحو قاس إلى أبعد الحدود.

هناك العديد من نقاط الاتصال بين الأحوال في المكاتب عند كافكا والأحوال في العائلات. في القرية على سفح التل المشرف عليه القصر يستخدم الأهالي قولاً مأثوراً. ‘لدينا هنا قولاً مأثوراً قد يكون مألوفاً لديك: إن القرارات الرسمية خجولة مثل الفتيات الصغيرات. قال ك: ‘هذه ملاحظة دقيقة، حتى أن القرارات الرسمية يمكن أن تكون لها صفات أخرى أيضاً من تلك التي تتصف بها الفتيات’. وأكثر اللافت للنظر في هذه الصفات هي الرغبة في أن تستسلم لأي شيء، مثل الفتيات الخجولات التي يقابلهن ك في ‘القصر’ وفي ‘المحاكمة’، فتيات ينغمسن في أفعال غير عفيفة وهن في قلب عائلاتهن كما لو كن في الفراش. إنه يصادفهن في كل ركن؛ أما البقية فإنهن يستسلمن له في غير كثير من العناء كما حدث عند إخضاعه لنادلة الحانة. ‘عانق كل منهما الآخر، وكان جسدها الصغير يحترق بين يدي ك؛ وفي حالة من اللاوعي والتي حاول ك أن يقهرها باستمرار دون جدوى، تدحرجا مسافة، واصطدما بباب غرفة كلِم صدمة مكتومة، ثم رقدا على بُريكة صغيرة من البيرة المسفوحة وغيرها من النفايات الملقاة على الأرض.

مرت الساعات … خامر ك خلالها الشعور المستمر بأنه يفقد طريقه أو بأنه قد طاف بأبعد مما قدّر لغيره أن يصل من قبل، فوصل لمكان طعم هوائه يختلف حتى عن طعم الهواء الذي اعتاده، مكان يمكن أن تخنق غرابته الشديدة البعض، ومع ذلك فإنه فاتن على نحو جنوني حتى أن المرء لا يملك إلا أن يواصل وأن يفقد نفسه أبعد وأبعد’.

ينبغي علينا أن نقول أكثر بخصوص هذا المكان الذي يصفه كافكا.

الشيء الجدير بالملاحظة أن أشباه البغايا هؤلاء لا يظهرن أبداً جميلات عنده. على العكس، يظهر الجمال في عالم كافكا فقط في أكثر المواضع قتامة؛ على سبيل المثال، بين الأشخاص المتهَمين. ‘هذه ظاهرة غريبة بلا ريب، قانون طبيعي، إذا جاز التعبير … لا يمكن أن يكون الشعور بالذنب هو ما يكسبهم فتنة … ولا العقاب العادل الذي سينزل بهم هو ما يكسبهم هذه الفتنة سلفاً … وهكذا فلابد وأن مصدر هذه الفتنة هو مجرد التهم المرفوعة ضدهم والتي تظهر عليهم بشكل ما’.

يمكننا أن نتيقن من ‘المحاكمة’ أن هذه الدعاوى القضائية عادة ما تكون بالنسبة للمتهَم حالة ميؤوس منها؛ حالة ميؤوس منها حتى وإن راودت المتهَم الآمال بكونه بريئاً. يمكن أن تكون حالة الاستحالة اليائسة هذه هي ما تُظهر جمالهم؛ وهكذا تكون هذه هي المخلوقات الوحيدة التي تحظى بمحاباة كافكا.

على الأقل هذا يتوافق كثيرا مع المحادثة التي رواها ماكس برود. يكتب ماكس برود: ‘أتذكر حديثاً مع كافكا كان قد بدأ بشؤون أوروبا الحالية وبانحدار الجنس البشري. قال كافكا: ‘إننا أفكار عدمية، أفكار انتحارية خطرت على بال الرب’. ذكرني ذلك في البداية بالرؤية الغنوصية للحياة: الرب بوصفه القوة الشريرة الخالقة للكون المادي، والعالم بوصفه تجلياً لهذا الشر. لكن كافكا قال: ‘أوه لا، إن عالمنا هو مجرد نوبة مزاج سيء للرب، إنه واحد من تلك الأيام المزعجة التي تمر به’. قلت له: إذن هناك أمل خارج كل تجليات هذا العالم المعروف لنا. فابتسم وقال: ‘هناك وفرة من الأمل، مقدار لا يُحصى ولا ينضب من الأمل، ولكن ليس بالنسبة لنا’.

تقدم هذه الكلمات جسراً لفهم بعض شخصيات كافكا المفرطة في الغرابة، أولئك الذين نجحوا في الإفلات من دائرة الأسرة والذين بالنسبة لهم يمكن أن يوجد أمل. ولا ينطبق ذلك على الحيوانات، ولا حتى على تلك الهجين أو المخلوقات التخيلية كالقطة- الحَمَل أو أودرادِك، فأولئك مازالوا يحيون تحت سلطان العائلة. وليس من قبيل المصادفة أن يستيقظ جريجور سامسا من النوم فيجد نفسه حشرة في منزل أبويه وليس في مكان آخر, وأن ذلك الحيوان الفريد الذي هو نصف هرة، ونصف حَمَل، هو ميراث من الأب؛ وعلى نحو مماثل فإن أودرادِك هو شأن خاص برب العائلة. لكن من ناحية أخرى فإن ‘المساعدين’ هما خارج نطاق هذه الدائرة.

هاذان المساعدان ينتميان لطائفة من الشخصيات تتكرر في كل أعمال كافكا. هذه القبيلة تضم المحتال الذي يتم فضحه في ‘تأمل’؛ والطالب جار كارل روسمان الذي يظهر في الشرفة ليلاً؛ والحمقى الذين يعيشون في تلك القرية الجنوبية والذين لا يصيبهم التعب مطلقاً. الشفق الذي توجد فيه هذه الشخصيات يُذكّر بالضوء الملتبس الذي تظهر فيه شخصيات النصوص النثرية القصيرة لروبرت والسر (مؤلف رواية ‘المساعد’، والتي كان كافكا مغرماً بها جداً). توجد في الأساطير الهندية ما يُسمى بالمخلوقات السماوية، كائنات في حالة ناقصة ومبتَسَرة. و’مساعدا’ كافكا من هذه النوعية: فمن ناحية هما لا ينتميان لأي من المجموعات التصنيفية للشخصيات الأخرى، ومن ناحية أخرى هما ليسا غريبين عن بقية تلك المجموعات، إنهما في الحقيقة رسولان من إحدى تلك المجموعات إلى المجموعة الأخرى. ويخبرنا كافكا بأنهما يشبهان بارناباس الساعي. إنهما لم يتم تحريرهما بالكامل بعد من رحم الطبيعة، وهذا هو سبب أنهما ‘لطيا في ركن من أركان الحجرة على الأرض جالسين على تنورتين قديمتين … وكان طموحهما … أن يستعملا أقل قدر ممكن من المساحة. ولتحقيق هذا الهدف كانا يقومان بتجارب، فيطوقان بعضهما البعض بلف أذرعهما وسيقانهما، ويجثم أحدهما على الآخر؛ حتى أن المرء لم يكن يرى في ظلام الركن الذي يلطيان فيه إلا كرة كبيرة الحجم’. بالنسبة لهاذين ومن هم في نوعيتهما، أولئك المبتَسرَين والخرقاء، يوجد هناك أمل.

ما يمكن أن يتكشف لنا، وبشكل خبيث ومبتذل، في أنشطة هؤلاء السعاة هو القانون في شكل استبدادي وكئيب لكل هذه المجموعة من الكائنات. لا يوجد لأحد مكان راسخ في هذا العالم، ولا شيء لا تتحول حيازته من شخص إلى آخر. الجميع في حالة إما صعود أو سقوط، ولا يوجد أحد لا يقايض سجاياه مع الآخر سواء كان عدواً أو جاراً، ولا يوجد أحد لم ينفد ما هو متاح له من وقت، ومع ذلك يظل الجميع غير مستعدين بعد، ولا يوجد أحد لم يصبه الإجهاد الشديد، ومع ذلك يظل كل منهم في بداية المرحلة الطويلة لوجوده. ويستحيل الحديث هنا عن أي نظام أو تراتبية، حتى عالم الأسطورة الذي نفكر فيه في هذا السياق يبدو بما لا يُضاهى أصغر سناً من عالم كافكا. ولكن إن صح لنا أن نكون متأكدين من شيء ما، فهذا الشيء هو: إن كافكا لم يستسلم لإغواء عالم الأسطورة. يترك عوليس العصري السَّيرانات (كائنات أسطورية لها رؤوس نسوة وأجساد طيور-المترجم) تمر بجانب ‘نظرته الثابتة التي كانت تحدق في البُعد، فاختفت السَّيرانات بعد هذا التصميم من حيث جاءت، وفي اللحظة التي كان أقرب ما يكون فيها إليهن، لم يكن قد أصبح واعيا بهن’. من ضمن أسلاف كافكا في العالم القديم -ومن ضمنهم أيضاً اليهود والصينيون، واللذين ينبغي علينا التعرض لهما لاحقاً- ، لا ينبغي علينا أن نغفل هذا اليوناني. فبرغم كل شيء، يقف عوليس على الخط الفاصل بين الأسطورة وحكايات الجن. فكلاً من الحجة والبراعة هنا قد أدخلت الحيلة إلى عالم الأساطير؛ وكفت قوى كلاهما عن أن تعمل في الخفاء.

حكايات الجن هي القصص التقليدية التي تروي الانتصار على هذه القوى، وتمثل حكايات الجن بالنسبة للدياليكتيكيين ما كتبه كافكا عندما شرع في العمل على الأساطير. أدخل بعض الخدع إليها، ثم استخدمهم كدليل على أن ‘التدابير غير الملائمة، بل والصبيانية أيضاً، من الممكن أن تعمل لخدمة المرء’. بهذه الكلمات كان قد بدأ قصته عن ‘صمت السَّيرانات’. وبالنسبة لكافكا السَّيرانات هي صامتة؛ فهن ‘يملكن سلاحاً أكثر بشاعة من أغنيتهن … إنه صمتهن’. وهو ما استعملنه مع عوليس، والذي يخبرنا كافكا بأنه: ‘كان مليئاً بالمكر، ثعلباً كبيراً لا يمكن حتى لآلهة القدر أن تخترق درعه. وربما كان قد لاحظ حقاً، بالرغم من أن الذكاء البشري هنا هو خارج حدوده، أن السَّيرانات كانت صامتة، فقارن بين التظاهر المزعوم المذكور آنفاً للسَّيرانات والأرباب كنوع من الوفاء ليس إلا’.

سَّيرانات كافكا صامتة. ربما لأن الموسيقى والغناء بالنسبة لكافكا هي تعبير أو على الأقل رمز للهروب، رمز للأمل الذي يأتينا من ذلك العالم الوسيط الذي هو في وقت واحد ناقص ومبتذل، مريح وساذج، والذي يشعر فيه المساعدان أنهما في منزلهما. يشبه كافكا الغلام الذي بدأ رحلة ليتعلم ما هو كنه الخوف. فوصل إلى قصر بوتمكِن، وأخيراً وفي عمق قبوه، صادف جوزفين، الفأرة المغنية، والتي وصف لحنها بأنه: ‘شيء ما من سقم وابتسار طفولتنا يكمن فيه، شيء ما من السعادة المفقودة التي لن يتم أبداً استعادتها مجدداً، ولكن هناك شيء ما أيضاً من حياتنا العملية الراهنة، بمسراتها الصغيرة، شيء غير قابل للتعليل ومع ذلك حقيقي ولا تنطفئ جذوته’.

* هذه ترجمة للجزء الأول لما كتبه بنيامين عن كافكا فيJ’dische Rundschau في عام 1934 ، والذي تُرجم للإنكليزية ضمن مجموعة مقالات له تحت عنوان ILLUMINATIONS قدمته حنة أرندت وصدرت طبعته الأولى عام 1968.

ترجمة: محمد الفقي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى