روزا ياسين حسنصفحات الثقافة

فردانية الثقافة السورية…خياراً قسرياً

 


روزا ياسين حسن

سوريا الخمسينيات، جملة أشبه بحلم لم أره، لكني طالما سمعت أبي ورفاقه يتغنّون به، ويتحسّرون على تبدده. وذلك الحلم يظهر سوريا الحراك السياسي والمشهد الديمقراطي الذي يعجّ بالأحزاب ذات الرؤى المختلفة، التي تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مروراً بأحزاب الوسط، وتجمعات المجتمع المدني والأهلي الفاعل وما إلى ذلك من مكونات الحلم الوردي. لا أعرف إن كان في ذلك الحلم قليل من المبالغة، لكن سوريا الملونة والحرة تلك لم أعرفها، كما لم يعرفها جيل السبعينيات، الذي أنتمي إليه، ولا الأجيال التي تلته، ولم يكن لي أن أتخيّلها كما لم يكن للشباب السوري عامة أن يتخيّلها قبل أشهر قليلة من الآن.

على الرغم من ذلك إلا أن الكثير من الشباب السوري يرى إلى السلطات وقد عملت بشكل منظّم، منذ ما يقرب الأربعين عاماً، على إفراغ العمل السياسي في سوريا من معناه وتجفيف الحراك، وقسّم ذلك العمل، بناء على نهجها، بين جبهة سياسية تابعة للسلطة أضحت مع الزمن أشبه بجبهة للدمى، وجبهة أخرى لم تلحق بسابقتها ودخلت في متاهات العمل السري، الذي كان خياراً للكثير من الأحزاب المعارضة والذي لا يمت في جوهره بأشياء كثيرة للعمل السياسي. وعلى الرغم من أن الأجيال الشابة اللاحقة كانت ترى حقيقة الأمر تلك إلا أنه لم يكن في اليد حيلة، فالأثمان التي دفعها آباؤهم (سواء أكانوا آباءً معنويين أم آباءً حقيقيين) لم تكن بقليلة، أثمان بدأت بالاعتقالات والتعذيب ولم تنتهِ بالسجون والمنافي، هذا ما جعل هوة الخوف تفصل بين عموم الشباب والعمل السياسي المعارض، بالإضافة إلى هوة أخرى تتمثل في رؤية نقدية رافضة لأداء الكثير من تلك التيارات والأحزاب المعارضة التي لم تستطع أن تنشئ قاعدة جماهيرية واسعة. هذا ما دفع إلى حصول انفصال شبه تام بين الأحزاب السياسية والشارع، الذي من المفترض أن تعمل منه ولأجله، وخصوصاً الكوادر الشابة منه، وتم تفريغ الساحة السورية من المشاريع السياسية كما أضحت المسافة ضوئية بين العمل المدني المستقل عن مؤسسات الدولة وبين الشباب، وبما أنه لم يكن ثمة خيارات بديلة بالعموم فقد أجبر جيلي والأجيال التالية، بشكل أو بآخر، على الالتفات إلى الإنجاز الفردي بعيداً عن أي عمل جماعي، سياسياً كان أم مدنياً. وإن كان الاتجاه إلى الفردانية أمراً أساسياً ومبرراً، بل وضرورياً برأيي، ولكنه كان في النهاية خياراً قسرياً وليس خياراً ناتجاً عن حصيلة تجارب متنوعة أوصلت الشباب إلى ذلك.

يبدو واضحاً اليوم أن الحراك الثوري في سوريا ينتعش بجهود الشباب والشابات وبطرق مختلفة وفاعليات مختلفة، ولكن ما يمكن تلمسه هو ضحالة تجارب هؤلاء الشباب فيما يخصّ حرّاكات مشابهة، فالحراك في سوريا أتى مباغتاً، ولو أنه لم يكن مباغتاً على صعيد البنية الداخلية فهو يتراكم منذ عقود وخصوصاً في داخل الأجيال الشابة التي تتوق للفاعلية وللعمل الجماعي (وليس الجمعي) على الأرض وللمشاركة في تغيير شيء ما من حياتها، أي أن تكون فاعلة في خلق شيء جديد يشبه الحرية، خصوصاً وأن الانفتاح على تجارب العالم أجمع والاطلاع على أدق التفاصيل المتعلقة بنشاط الشباب وفاعليته في أماكن أخرى كان بإمكان الشاب والشابة السوريين متابعته ببساطة.

يتعلم الشباب السوري في خضم الحراك اليوم ثلاثة أشياء جديدة دفعة واحدة، وباعتقادي أن الأمر ينسحب على عموم الشارع أيضاً. أولى هذه الأشياء أنه يتعلم ماذا تعني كلمة ثورة، وكيف يقوم الإنسان بخوض ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من فاعلية، وهذا يبدو في التطور السريع لآليات عمل الشباب ابتداء بالاعتصامات والمظاهرات وليس انتهاء بالتنسيق والتشبيك والتواصل والتوثيق لكل ما يحدث وسيحدث. ويتعرف الشباب ثانياً على بعضه البعض، بل يختبر بعضه البعض، في مختلف المناطق والجغرافيات السورية، وبالتالي يتعلم كيفية العمل الجماعي، الأمر الذي كان يجهله تماماً كما قلت آنفاً، ويتعلم الأهم وهو أن يفهم الاختلافات ويتفاعل معها لا أن يلغيها. ويتعلم ثالثاً ماذا تعني كلمة سياسة، بمعناها الإجرائي في الواقع وليس تنظيرياً على الورق فحسب. على الرغم من أنه نشأ في مناخات عامة كانت تلغي السياسة بتنوعاتها وتستبدلها برؤية واحدة وانتماء واحد وحزب واحد وما على ذلك من الأحاديات، وهذا ما جعل السياسة وتجلياتها وسيناريوهاتها المفترضة والممكنة والآراء المختلفة وما إلى ذلك هي المهيمنة على جلسات الشباب اليوم وهي الحاضرة في لقاءاتهم أينما كان وأياً كانت مواقفهم واتجاهاتهم.

ليس مستغرباً اليوم أن أسأل أياً من الشباب كيف العمل؟ فيجيبني إنه لم يفعل شيئاً منذ شهر ونصف، ألّهم إلا الجلوس أمام الكومبيوتر ليتصفح النت، قبل أن تتوالى انقطاعاته، أو أمام التلفاز يتابع الأخبار بين الفضائيات المختلفة، أو في التجمعات الشبابية يخوض تلك النقاشات السياسية التي أضحت محتدمة. وهذا ما لن يستغربه ربما من لم يطّلع على المشهد الشبابي في سوريا في العقدين الماضيين على الأقل، ولكن للذي يعرف الشباب السوري بالعموم سيكون مشهداً غريباً عليه، وخصوصاً من الأجيال السابقة التي ما فتئت تنظر إلى الشباب السوري باعتباره مفرغاً من القيم والطموحات والرؤى والثقافة وربما في بعض الآراء المتطرفة: الأخلاق. يطالعك أحد الشباب اليوم بأنه يحلم بسوريا الخمسينيات التي لم يسمع عنها يوماً، أو يفاجئك حين تتلمس لديه رغبة حقيقية في معرفة باقي أطياف ومكونات مجتمعه السوري، الأثنية والطائفية والثقافية، والتي كان يجهلها قبلاً وبالتالي يتحاشاها وربما يخافها، وكان يكرر قبل شهور قليلة الكليشيهات التي كان يرددها أهله عنها.

ليس لي بالتأكيد أن أعرف ما الذي سيحدث في الغد بالنسبة إلى مستقبل سوريا، وكل ما يمكن أن يقال هو مجرد تكهنات وقراءات متعددة تحكمها بالتأكيد الحركة على الأرض، ولكن ما لا يمكن أن نغفله أن الأمور لن تعود إلى الوراء، وأن هناك حالة من تسييس الشباب السوري لم يعشها جيلي ولا الأجيال التي تلته ولكنه يعيشها اليوم. وتسييس الشباب اليوم كما عودة الحراك الشعبي يعود بالدرجة الأولى إلى حركة الثورة في سوريا والتي هي جزء من حركة الثورات العربية التي عمّت وتعم المنطقة بأسرها.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى