صفحات الرأي

فرنسا ضحية ميزتها وحريتها/ علي حرب

 

 

يطرح تفاقم الظاهرة الإرهابية، على يد التنظيمات الجهادية، أسئلة عديدة ومربكة تمسّ طبيعة الإسلام، بقدر ما تطال أساس الدين وبنيانه. الأسئلة قديمة بقدر ما هي متجددة: هل الدين يبنى على التعصّب والكره أم يحضّ على الاعتدال والتسامح؟ وهل الهجمات الارهابية هي عمل بربري عدمي ام رد على الحرب التي تشنها فرنسا والدول الغربية على المسلمين، كما يذهب الى ذلك بعض المثقفين الفرنسيين؟ بالطبع تختلف الأجوبة باختلاف القراءات للكتب والنصوص او للحوادث والوقائع.

أتوقف بداية عند الجواب الذي يقدّمه، عادة، المؤمنون والملتزمون من أتباع الديانات والطوائف. فالأكثرون يردّدون الرأي القائل بأن ما يجري من عنف أعمى وفاحش، باسم الدين، يتعارض مع تعاليمه وقيمه.

المقصود بالدين، هو الإسلام، في السياق الراهن للمجريات والتطورات، وعلى وقع الهجمات الإرهابية التي استهدفت مدينة باريس، وراح ضحيتها مئات القتلى والجرحى من الناس الآمنين، من رواد المقاهي والملاعب او النوادي والمسارح.

الانتحار سلاحاً والتسامح استثناء

إنها حرب حقيقية تُشَنّ على فرنسا، ومن ورائها العالم الغربي. لكنها حرب من نوع آخر، حرب مفرداتها الله والنص والخليفة والفتوى والكافر والمحاكمة والإعدام. أما استراتيجيتها فهي هذه الخطط الجهنمية التي يعتمدها الجهاديون لإقامة الدولة الدينية. أما أدواتها فجيش من الإرهابيين تجسّده الخلايا النائمة والمجموعات الإنتحارية.

أعتقد ان القراءة التي يقدّمها دُعاة التسامح الديني، والتي يتبنّاها الكثر من المثقفين والساسة في فرنسا والدول الأوروبية، وتقوم على الفصل بين الإسلام المعتدل والإسلام الجهادي، إنما تنطوي على الجهل والتبسيط والخداع، وذلك من غير وجه:

إن تاريخ الحروب الدينية والانشقاقات العقائدية، تشهد بأن العلاقات بين الديانات أو بين الطوائف داخل كل ديانة، قد تحكّم بها منطق التعصّب والعداء أو الإقصاء والاستئصال، مما يجعل الكلام على الاعتدال والتسامح عبارة عن تهويمات مثالية أو آليات دفاعية مآلها طمس الحقائق أو الجهل بالوقائع. ربما مورست قيم التسامح من أفراد أو حكام، في هذا الجانب أو ذاك. لكنها كانت مجرد مواقف استثنائية عابرة، تتعارض مع الاتجاه العام الذي سار فيه تاريخ الديانات، وربما التاريخ البشري برمّته. فالأصل لدى الإنسان، وحتى يثبت العكس، ليس قيم التسامح والتعقل، بل آفات الجهل والتعصب أو الكره والحقد.

من هنا فإن الحرب الأهلية، الجارية والضارية، بين السنّة والشيعة، في غير بلد عربي، إنما هي امتداد للحروب القديمة، وبالشكل الأشرس والأفظع والأخطر، لأن المنخرطين فيها يلجأون إلى نبش الذاكرة الموتورة ويديرون الصراعات بعقلية الثأر والانتقام. هذا ما يحدث اليوم بين المسلمين: لا اعتدال ولا تسامح، بل نزاع واقتتال على السلطة، السياسية والرمزية، وكما كان الأمر في البداية، لكن بمسوّغات وتبريرات دينية وشرعية. من الطبيعي أن يحصل ذلك، ما دام أتباع كل دينٍ أو طائفة يدّعون امتلاك الحقيقة ويعملون بثنائيات الإيمان والكفر لإقصاء كل مخالف. ومن لا يرحم أخاه في الدين، في الداخل، لن يرحم الآخر في الخارج.

التعقل السلبي

ثمة وجه آخر للخداع هو الأهم والأخطر، لأنه يشكل الأساس الذي ينهض عليه البناء الديني، على مستوى الفكر، أعني أن الدعوة إلى التعقل والتسامح أو إلى احترام حرية الآخر وعدم إكراهه على الاخذ بمعتقد أو رأي، وكما نجدها في بعض النصوص الدينية، إنما هي فرع ناتج من الأصل. الأصل في الدين هو الأمر والخضوع والامتثال، وليس العقل أو الحجّة والرأي. نحن إزاء نوع من “العقل السلبي”، كما أسمّيه، هو المأمور به في الدين، لأن مآله هو توظيف التفكر والتعقل لمصلحة الأمر الالهي، أي لتعطيل العقل نفسه.

هكذا، فالمسلم عندما يستخدم عقله أو يحضّ غيره على استخدام عقله، فلأن الله يأمره بذلك. ولكن ثمة أوامر مضادة، ما دامت النصوص تحمل تأويلات متعارضة. عندها اذا تعارض الرأي مع النص، فالنص هو الغالب، اذ لا غالب الاّ الله بحسب الشعار اللاهوتي، والأحرى القول: لا غالب الاّ مَن ينطق باسمه ويحلّ محلّه ويقتل بسيفه أو برشّاشه.

الأمر والمتراس

كذلك الأمر في بقية المسائل، كالمحبة. تقول إحدى المسلمات الفرنسيات تعليقاً على هجمات 13 تشرين الثاني: نحن ندين هذه الاعتداءات، لأن “الإسلام أمرنا” بالاعتدال والتسامح والمحبة، ولم يأمرنا بالتعصّب والتطرّف والقتل.

وهذا ما فعله الجهاديون، ولكن بصورة معاكسة، بارتكابهم المذابح في باريس: لقد نفذوا أمر الله في حق من يعتبرونهم كفّاراً، وكما صرّحوا بعد انتهاء العمليات الانتحارية، بعدما شعروا بنشوة النصر، مستشهدين بالآية: “فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب”.

المسألة، إذاً، هي مسألة صدوع بالأمر وخضوع للنص. هذا الإيمان الأعمى هو الذي يجيز لأحد الأئمة أن يقول في خطبة الجمعة، في أحد مساجد باريس، من غير حرج أو خجل، وعلى سبيل التحذير لجمهور المؤمنين: كل من يأكل لحم الخنزير يتشبّه به ويصبح قذراً مثله. هذا مع ان فضيلة التعقل وقواعد الشراكة وحسن المعاملة، تدعوه إلى الامتناع عن اطلاق مثل هذه الفتوى المشينة التي تتهم اكثرية الفرنسيين بالقذارة. لكن الشيخ أخذ بالنص الذي يحرّم لحم الخنزير.

هكذا، نحن إزاء شواهد فاضحة على أن الأصل لدى المسلم الملتزم، تغليب منطق العبودية والخضوع للنص أو للفتوى على قيم التواصل والعقل والحرية. لنحسن القراءة والتشخيص، حتى لا نموّه المشكلة لكي تزداد تعقيداً واستعصاءً. فأساس الدين هو الأمر، أي ما تنبني به وتمارس كل سلطة، أكانت خلافة أم دولة، سلطنة أم أمبراطورية. الامر قد يبدأ دعوة أو رسالة، لكنه ينتهي بإقامة الحواجز أو نصب المتاريس والخنادق بين الناس. قد يبدأ نصحاً وإرشاداً وينتهي تكفيراً وتطهيراً، كما هو مآل المشاريع الدينية.

الرباعي الإرهابي

انطلاقاً من هذا الفهم للدين أحاول، وكما فعلت في غير مقالة، تشخيص الظاهرة الجهادية بالتركيز على مسألتين: الأولى ممارسة نقد الذات قبل نقد الغير. لقد اتخمنا نقداً للغرب والآخر، لكي نحصد المزيد من التردي الحضاري والتقهقر الوجودي. الثانية هي مقاربة الظاهرة مقاربةً فكرية. فمشكلة الإنسان هي في الدرجة الأولى مع أفكاره، ما دام التفكر هو ميزة الكائن البشري.

قد يكون للأسباب الخارجية، كما للأسباب الإقتصادية والسياسية والنفسية أو سواها، دورها في شحن النفوس وتعبئتها وراء الشعارات والمشاريع، لتأجيج الصراعات واندلاع الحروب. لكنها ليست كافية. إنها عوامل مساعدة. لأن “العلة في العقول لا في الجيوب”، والعطل عند الذات قبل أن يكون لدى الغير، أي في المشروع الإيديولوجي والسياسي للسلفيين والجهاديين: هذا المشروع يجسده أربعة فاعلين على المسرح: لاهوتي يفكّر وينظّر، فقيه يسوّغ ويشرّع، داعية يُفتي ويكفّر، جهادي يقتل وينفذ، لكي يبثّ الرعب بين الناس ويتقن سفك الدماء لكل من لا يفكر على شاكلته أو يعارض رأيه، أكان مسلماً أم غير مسلم. هذه هي النماذج الأربعة التي صنعتها الثقافة السلفية، من أجل أسلمة الحياة، فكانت النتيجة صناعة القتل وإنتاج الكوارث.

حرب الأفكار

يترتّب على هذه المقاربة للأساس الذي ينهض عليه الفكر الديني، وكما تجسّده الحركات السلفية، إعادة النظر في بعض المقولات التي تستخدم في تحليل الدوافع التي تقف وراء العمليات الإرهابية في فرنسا وفي العالم الغربي عموماً، كمقولة صراع الحضارات، أو كره المسلمين والتعاطي معهم بمنطق التمييز العنصري أو الإقصاء الإجتماعي، أو الرد المتأخر من جانب المسلمين على الزمن الكولونيالي، فضلاً عن الذين يقولون بأن حرب المسلمين ضد فرنسا هي ردّ على حربها ضدهم، أو هي ردّ على الإعتداء من الفرنسيين والغربيين على هويتهم وحضارتهم ونمط حياتهم.

هذا ما يذهب إليه في تفسير الحرب التي يشنها الجهاديون على فرنسا، فلاسفة ومختصون بالشأن الإسلامي، كميشال اونفري ومارسيل غوشيه وريجيس دوبريه وأوليفييه روا. هؤلاء لم يغب عن ذهنهم العامل الفكري، بالعكس لقد ركزوا عليه، وكما هو شأن المقاربة الفلسفية، بتأكيدهم أن الحرب هي حرب أفكار ومفاهيم عن الذات والآخر. لكني أخالفهم في قراءة الدلالات واستخلاص النتائج.

ضد الحضارة

لأبدأ بأونفري الذي شدد حقاً على العامل الفكري في معالجته للظاهرة الجهادية، بقوله ليس الجهاديون ذئاباً متوحدة، ولا هم مختلو العقل أو مرضى لا أمل في شفائهم، وإنما هم جماعة يدافعون عن “الأمة الإسلامية”، ولهم لاهوتهم وإيديولوجيتهم كما لهم استراتيجيتهم وخططهم (مجلة لوبوان، 19 تشرين الثاني 2015). لكن هل يعني هذا التشخيص اننا إزاء صراع للحضارات، على ما هي مقولة هنتنغتون التي يتبناها أونفري؟ أنا لست من هذا الرأي، كما عبّرت عن نقدي لهنتنغتون منذ كتابي “حديث النهايات”. فالحضارة الاسلامية قد ولّت ومضى عهدها، شأنها شأن الحضارات القديمة كالصينية والفارسية والمسيحية والبوذية. ما بقي الآن هو شكل من اشكال الثقافة الاسلامية التي تقاوم، ولا تريد الاندماج في العالم الحديث، بل هي تريد إطاحة المكتسبات التي حققتها المجتمعات العربية منذ انخراطها في الحداثة قبل اكثر من قرنين.

اكثر من ذلك: فالجهاديون يريدون تدمير مكتسبات الحضارة الاسلامية ذاتها، ذلك ان هذه الحضارة كانت في عصور ازدهارها، حضارة منفتحة، ديناميكية خلاقة، افادت من الحضارات السابقة أو المعاصرة لها، ثم اضافت عليها من مبتكراتها، في الفلسفة والعلوم، كما في التشريع والقانون، أو حتى في الفنون كالموسيقى والغناء التي يشنّ عليها الدعاة والجهاديون حملة شعواء.

لنتوقف عند الفلسفة التي ازدهرت في العالم الإسلامي، بالرغم من الحملات التكفيرية ضد أهلها من جانب التيارات المحافظة، وكما تجلى ذلك لدى أعلام كالفارابي وابن سينا وابن رشد والشيرازي وابن عربي. لو أخذنا، مثلاً، المعرّي الذي عُدَّ شاعر الفلاسفة، نجد أنه لم يقدّم نفسه بوصفه من اتباع هذا الدين أو ذاك، بل وضعها جميعاً تحت مشرحة الفحص العقلي، وعلى قدم المساواة: الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية. بل هو تجاوز نقدها إلى نقد الانسان نفسه، كما هو شأن النقد الفلسفي الوجودي. مع ذلك لم يتعرض للأذى. من هنا فإن أول ما فعله الجهاديون لدى احتلالهم معرة النعمان هو تحطيم تمثاله. وهذا ليس رداً على اعتداء الغرب على المسلمين، بل هو اعتداء على الحضارة الاسلامية بجانبها الفكري النقدي والتنويري. وناقد نفسه هو أرقى إنسانية من صاحب الإيمان الأعمى واليقين القاطع.

ما يفعله الجهاديون ليس بمستغرب. فالإسلاميون عامةً يعتبرون كل ما يقال أو يعمل، مما يخرج عن الأوامر الشرعية والقوالب العقائدية، هو بمثابة كفر وزندقة أو بدعة وضلالة، أكان قصيدة ام رواية ام فلسفة ام غناء ام فيلماً. من هنا عداؤهم الشديد للابداع في ميادين الثقافة. ما يتقنونه هو العلوم الطبيعية والرياضية، فضلاً عن العلوم الشرعية. أما الأولى فلأن لا علاقة لها بالدين، والأحرى القول لأنهم يوظفونها بعقلهم الخرافي والسحري للدفاع عن ظاهرة الإعجاز القرآني والوحي النبوي كما يفعل مشعوذة المفسرين.

أما الثانية فلإنها تساعدهم على التمييز بين الايمان والكفر أو الحلال والحرام أو الطهر والرجس، وسواها من الثنائيات التي تصنع النماذج التكفيرية الإرهابية. وهذا مآل مَن يعتقد بنقاء عنصره أو صفاء هويته: ممارسة الإستئصال الرمزي والمادي للآخر، باللجوء الى أعمال التطهير “الأخوي”، كما تشهد بصورة صارخة وفاضحة الحروب الدائرة بين المسلمين، الجهاديين والمجاهدين، سواء من جانب أهل الخلافة أو أتباع الولاية.

الدرس المستخلص هو أولاً أن النموذج الديني هو في أساسه وبنيته نموذج عدواني يختزن العنف ويولده، بقدر ما يشتغل أصحابه بلغة التهمة والتكفير والإدانة. وهو ثانياً نموذج معادٍ للإنسانية لأن أصله ومطلوبه العبودية، بما هي خضوع وإمتثال وطاعة. وإذا كان اونفري يؤكد أن الفيلسوف لا يكتفي بما يرى وسط المشهد، بل يهتم بتقصي الأسباب الجذرية للوقائع والظواهر، فقد غاب عن ذهنه أن الجهاديين، الذين يعتبرهم مدافعين عن الأمة الإسلامية، هم معادون للفلسفة وللفكر النقدي الذي يمارسه، كما هم معادون للإنسانية، كما تشهد تعاملاتهم البربرية قتلاً وتشريدا أو سبياً واغتصاباً، مع الطائفة الإيزيدية الآمنة، التي لا تعتدي عليهم بل تحاول أن تتقي شرهم.

العقوبة القصوى

لنتوقف عند مثل آخر تقدّمه عقوبة الإعدام في الشريعة الاسلامية. في الماضي كانت هذه العقوبة تستخدم في الحالات القصوى، وبصورة استثنائية، لأن الحكم الشرعي على شخص بقتله، هو أمر فظيع يمكن وصفه بأنه من أشنع الضرورات، ولذا يحتاج إلى التمحيص والتدقيق، وربما إلى التمهّل والتردّد. أما اليوم فإن الجهاديين يستخدمونه في حده الأقصى، بتحويله إلى عمل روتيني، عادي. لذا سمّوا حكومتهم في الصومال “المحاكم”، مما يعني أنهم أتوا من أجل الثأر والانتقام من كل ما هو حديث أو مخالف لما يعتبرونه الإسلام الصحيح. ومع ذلك فهم ليسوا أئمة التقوى، وكما تشهد تعاملاتهم سواء مع المرأة غير المسلمة، بسبيها واغتصابها، أو باستعبادها وإهدائها؛ أو مع المرأة المسلمة، وكما يشهد “جهاد النكاح”، الذي هو ضرب من العربدة الجنسية. هكذا فهم مع اقصى التشدد في مسألة العقوبة، ومع اقصى التحلّل في مسألة المتعة.

الثقافة العدوانية

أنتقل من ذلك الى سؤال الهوية: هل يدافع الجهاديون عن الأمة ضد اعتداء الغرب وسيطرته؟ هنا أيضاً أنا لست مع هذا الرأي. ما يدافعون عنه ليس الحضارة الإسلامية، ولا حتى الأمة الإسلامية، بل شكل من أشكال الثقافة الإسلامية هو الأكثر انغلاقاً وتطرفاً والاكثر تعصّباً وعدوانية. إنهم يريدون العودة إلى زمن النبي والصحابة الذي يعتبرونه بمثابة الزمن التأسيسي والفردوسي، لشطب ما حصل بعد ذلك من أطوار حضارية أو ابداعات ثقافية أو فتوحات فكرية. الأحرى القول انهم مع الفتوحات العسكرية التي أدت الى سيطرة العرب على البلدان التي فتحوها باسم الإسلام، وكما يتباهى دوماً المسلمون، مع أنهم لا يتوقفون عن نقد الفتوحات الأمبراطورية الإستعمارية التي قام بها الآخرون. مثل هذه الثقافة العدوانية لا تنتج إلا ما يشكو منه العرب والمسلمون. لنتأمل ما حصل بعد صعود رجال الدين على المسرح، شاهرين هويتهم، بشعارهم الإسلام هو الحل والبديل: لقد رجعت المجتمعات العربية الى الوراء لكي تحصد كل هذه المساوئ والمفاسد أو الكوارث والمصائب. ولا عجب: فمن دون تحويل خلاّق وبنّاء، لا شيء يعود كما كان عليه إلا خراباً وفساداً، كما لا شيء يعود الى سابق عهده إلا عنفاً وإرهاباً.

فيتامين أم فيروس؟

من هنا معارضتي للذين استبشروا بعودة الدين على المسرح، أو للذين يقولون بأن الدين هو سقف رمزي ضروري لالتئام الهويات ووحدة المجتمعات. نعم لقد عاد الدين. وقد يكون لفشل المشاريع الحداثية العربية، القومية واليسارية، وحتى الليبيرالية، دور في عودته، كما تمثل ذلك في صعود تيارات الإسلام السياسي. هذه العودة ليست من قبيل الترياق، ولا هي فيتامين للضعفاء كما شخّص الداء الإسلامي ريجيس دوبريه. إنها عودة مرعبة هي بمثابة “فيروس قاتل”، كما نشهد ونعاني، تخلفاً وفساداً، أو تألّهاً وتوحّشاً، أو عبثاً وجنوناً. يا لها من عودة حوّلت المدن العربية إلى شبه معسكرات من فرط تدهور الأمن وفقدان الأمان. مع ذلك لا اقول مع القائلين بأن الاصولية هي “مرض الإسلام”. فالاسلام العقائدي لا يترجم في هذا الزمن الا كعصاب أو آفة أو بعبع.

يقول دوبريه: إني أوافق على من يعتبر المسلم الفرنسي شريكاً في المواطنة، شرط قبوله بإمكان تغيير دينه أو الخروج عليه أو ان يقبل بأن يقتصر الأذان على مرة واحدة في اليوم ومن دون استخدام مكبّر الصوت (مجلة لوبوان، 24 أيلول 2015). ولكن ما يطلبه هو المحال، لأنه يعني أن لا يعود المسلم مسلماً. الدليل تقدّمه تلك المرأة الفرنسية المحجّبة التي تعتبر أن تنفيذ أوامر الله أو فتوى شيخها، هو اولى من التزام أنظمة الدولة الفرنسية وقوانينها، أو من مراعاة آداب المجتمع الفرنسي، متيحةً بذلك الدليل على تقديم الهوية الدينية على الهوية الوطنية، بل على المنظومة الحداثية بكل أركانها: العلمانية والفلسفة والديموقراطية والمجتمع المدني.

بالطبع هناك مسلمون يقبلون ما يقترحه دوبريه، فيتصرفون كمواطنين، سواء في فرنسا أو في البلدان الإسلامية. لكن هؤلاء خارجون على الإسلام الشرعي والعقائدي، بقدر ما هم ثمرة الثقافة الحديثة، وكما يتصرف الكاثوليكي الفرنسي إزاء هويته الدينية التي يتعامل معها، لا كمتراس، بل كذاكرة او تراث لا أكثر. وإذا كان المسلمون الحداثيون لا يزالون يعرّفون بأنفسهم كمسلمين، فذلك بحكم العادة أو المداراة أو النفاق أو الجهل بأصول ديانتهم. وهذا ما يجعلني أؤكد القول: لا مصالحة بين الإسلام والحداثة أو المواطنة، الا بعد هزيمة المؤسسات والسلطات الدينية الإسلامية، وكما حصل في الكنيسة من قبل، بعد هزيمتها امام العالم الحديث.

الإسلامي والراديكالي

هل الفكر الجذري، الراديكالي، دخيل على الإسلام؟ أتوقف عند المقاربة التي يقدمها أوليفييه روا للظاهرة الجهادية. فهو يعتبر أن المسألة ليست “جذرية الإسلام”، بقدر ما هي محاولة الجهاديين “أسلمة الحركات الجذرية” (جريدة لوموند، 25 تشرين الثاني 2015). بذلك ينحو روا إلى نزع الطابع الديني الأصولي عن المشروع الجهادي، بقدر ما ينزع الطابع الجذري عن الدين الإسلامي. هذا المنحى في المقاربة ليس بجديد عنده، كما تشهد آراؤه في غير مسألة، كقوله بأنه “لا توجد طائفة اسلامية في فرنسا”، هذا فيما الجهاديون يشنّون على فرنسا حربهم الدينية الجذرية، مدجّجين بترسانتهم الشرعية ومتاريسهم الأصولية، أقول “الجذرية”، لأن الدين هو بالتعريف فكر أصولي جذري ينتج التعصب والتطرف والعنف. وإذا كان الدين بوصفه إيماناً بالحقيقة المطلقة يختزن عنفاً، فإنه لا يمكن أن يترجم في هذا الزمن إلا على نحو عدمي أو بربري، يفاجئ المسلمين قبل أن يفاجئ الغربيين.

هل هي ثورة عدمية هذه التي يقوم بها الجهاديون، كما يقول أوليفييه روت؟ أنا لا أميل الى توصيف الثورة بالعدمية.

قد يصحّ تحليل روا على الفرنسيين المرتدّين الذين وجدوا في الإسلام الجهادي لافتة لتمرّدهم وثورتهم. لكنه لا يصحّ على الفرنسي المسلم المنخرط في المشروع الأصولي، سواء أكان داعية يعتدي على قيم الفرنسيين، أم جهادياً يقتل الناس في الساحات والشوارع أو في الحانات والملاعب. لكن المرتدّ الفرنسي والمسلم الجهادي الفرنسي، وعلى الرغم من الفارق بينهما من حيث النشأة، كلاهما مرتدّ، ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى الحضاري للكلمة. كلاهما يريد العودة عن نمط الحياة الحديث والمعاصر، بعدما انخرط فيه وأفاد منه.

لنستفق من سباتنا. ما يقوم به الجهاديون لم يأت من خارج الإسلام، ولا هو من بنات أفكارهم. فمشروعهم يقوم على الأطروحة الأصولية التي تقضي بالعودة الى ما قرره السلف بصورة قاطعة ومسبقة في مختلف وجوه الحياة، كما تقضي باعتبار المجتمعات العربية كافرة، مرتدّة، جاهلية، ينبغي ردّها الى حظيرة الإيمان والإسلام. لذا، ما يقوم به الجهاديون هو ترجمة لفكر الدعاة الذين أسسوا حركات الإسلام السياسي، ونظّروا لها، في مطلع القرن العشرين. لكن الجهاديين لا يعيشون خارج زمنهم، فإذا كانت أفكارهم قديمة أو بائدة، فإنهم يستخدمون لغة العصر وأدواته وأسلحته وشبكاته الإعلامية وعولمته المالية، من أجل تنفيذ مشروعهم الجهنمي واستراتيجيتهم القاتلة.

من هو المرتدّ؟

هذا هو مشروعهم الإرتدادي الجذري: إنه يجمع أسوأ ما في القديم وأسوأ ما في الحديث، بوجوهه الاربعة، فكراً ومسلكاً، نموذجاً ونظاماً.

المعتقد الاصولي بأوامره المطلقة وأحكامه التكفيرية وأساليبه الاستئصالية.

المنزع الايديولوجي الطوباوي الذي يعد الناس بالخلاص لإقامة الفردوس الذي يتحول على يدهم إلى جحيم.

النظام الشمولي الذي ينتج قطعاناً بشرية تنفّذ بصورة عمياء أوامر هذا القائد المرشد أو ذلك الداعية المشعوذ أو ذلك الأمير الجهادي المعربد.

لا أنسى العقلية المافيوية كما تشهد تعاملاتهم وتعهداتهم ومقاولاتهم التجارية والمالية والنفطية على ارض الدولة الإسلامية المزعومة، حيث يلجأ تنظيم “داعش” إلى انتهاك كل المبادئ والقيم التي يدّعي الدفاع عنها في مواجهة الغرب “الكافر”.

الغزو المضاد

هل الجهاديون يردون الإعتداء على الهوية الإسلامية؟

لا نكن سذّجاً. فالسلفيون المعاصرون، لم يعد يقتصر مطلبهم على التحرّر والاستقلال من هيمنة الدول الغربية، كما كان الأمر في النصف الأول من القرن العشرين، ولا هم يعيشون في عزلة عن العالم كالقبائل البدائية، أو كما كانت تعيش الطوائف الدينية، في غيتوات منعزلة بعضها عن بعض، وكما كانت الحال قبل الانخراط في الازمنة الحديثة.

لقد تغير الواقع العالمي، في عصر تتعولم فيه المشكلات والهويات والمكتسبات، بقدر ما تتداخل المصائر والمصالح على المساحة الكونية، كما تشهد المشكلات الأمنية والبيئية والمالية، وكما تشهد مشكلة الهجرة نحو الدول الغربية، بسبب الجور والفقر. هذه المشكلة تتعاظم اليوم بفعل حروب الأهل المدمرة. هكذا ففي داخل كل مجتمع غربي تعيش اليوم جالية اسلامية تصرّ على ممارسة خصوصيتها الثقافية، بعقائدها وقيمها وطقوسها، عبر مؤسساتها وجمعياتها ومساجدها، كأنها لا تزال في بلدانها الأصلية. واين؟ في مجتمعات علمانية خرج اكثر اهلها على دياناتهم. لنحسن قراءة هذا المعطى الديموغرافي بمفاعيله وتداعياته. فالجهاديون يعيشون في قلب العالم الغربي، مما جعلهم يتعدون مرحلة الرد على الغزو الإستعماري، لغزو الدول الغربية، لإقامة مشروعهم القاضي بأسلمة الحياة، لإنقاذ الأمة والبشرية جمعاء، على ما يزعمون.

هذا الغزو البربري نجد تنظيراً له، لدى فلاسفة عرب، قرأوا الصحوة الإسلامية، بوصفها بداية انهيار الحضارة الغربية التي استمرّت قرابة سبعة قرون، لكي تأخذ مكانها الحضارة الإسلامية لسبعة قرون آتية. ويا لها من صحوة حوّلها الجهاديون إلى عتمة حالكة، بنسف كل مساعي المجتمعات العربية نحو النهوض والتنوير والتقدم!

نحن إزاء هجوم مدروس ومبرمج يستهدف الحضارة الغربية، لزعزعة ثقة الغرب بنفسه وفكره، بدولته ومؤسساته، بنمط وجوده وأسلوب حياته. ليس لتقديم نموذج بديل، بل لفرض نظام للحياة، هو أصولي عنصري، بقدر ما هو شمولي فاشي، يدير اصحابه الشؤون بعقلية المافيات والعصابات. انه نظام يوظف المخيال الجهنّمي، الإلهي أو النبوي، الذي تتحدث عنه الآيات لمعاقبة الناس بالذبح والحرق واستخدام العبوات المفخخة والاحزمة الناسفة.

الجهادي والمسيحي

من هنا، انا لست مع المقارنة التي يجريها مارسيل غوشيه، ويؤكد فيها أن الجهاديين “يشبهون” مسيحيي العصور الوسطى، قبل انخراطهم في العصر الحديث. من حيث مفهومهم للدين وتصورهم للعالم (مجلة الأكسبرس، 18 تشرين الثاني 2015). لكن المسيحيين لم يكونوا يومئذٍ مرتدّين، بل عاشوا زمنهم بأفكاره ومفاهيمه وقيمه. اما الجهاديون فهم مرتدّون بفكرهم بأكثر من معنى؛ مرتدّون عن الحضارة والثقافة أو عن الزمن والحداثة. فعدا كونهم يريدون شطب اكثر من قرنين من مساعي التحديث في المجتمعات العربية والاسلامية، يجمعون كل شرور المجتمعات البشرية، السابقة والمعاصرة، الدينية وغير الدينية. إنهم لا يدافعون عن هوية أو نمط حضاري أو نموذج إنساني، بل يعمدون إلى تخريب كل النماذج والانماط، ليمارسوا العدمية والبربرية، بالإرتداد على الإنسانيات بمختلف أنماطها، الإسلامية والغربية، العربية والجاهلية. العدمية بما تعنيه من دوسهم على كل ما يدّعونه من قيم، والبربرية بلجوئهم إلى استئصال كل معارض، ولو كان في الخط أو التنظيم أو الفصيل نفسه، كما تشهد الصراعات الدموية والإعدامات اليومية على الجبهة بين تنظيمات “القاعدة” و”النصرة” و”داعش”.

من هنا السؤال: مَن يكره مَن؟ ومَن يهدد مَن؟ ومَن يعتدي على مَن؟ هل الفرنسي الخائف على قيمه الليبيرالية ونمط حياته الحديث أم المسلم الذي يصرّ على إشهار هويته في الفضاء العمومي أو الشيخ الذي يسفّه الفرنسيين في خطب الجمعة؟

ليست المسألة، اذاً، مسألة ثأر من الزمن الكولونيالي ولا هي مجرد ردّ على محاولات الإقصاء والتهميش. او ردّ على اعتداء العرب على دينهم وحضارتهم واسلوبهم في الحياة. ربما العكس هو الذي يصحّ. فالجهاديون يعتدون ليس فقط على الغرب بل على الناس والمجتمع في البلدان الإسلامية، بتضييقهم الحياة وسجنها وتحويلها إلى جحيم قبل اليوم الموعود.

في كل حال، إن فلاسفة فرنسا ومثقفيها، ممن ينتقدون دولتهم ومجتمعهم وثقافتهم، انما يقدمون الدليل على أننا ازاء نمطين وجوديين، الفجوة بينهما هي واسعة باتساع الفرق بين العمل الحضاري الذي يفيد منه كل الناس، وبين القتل الهمجي الذي يجعلنا نترحّم على بربرية العصور السالفة. من هنا لا تصح المساواة بين من يقوم نموذجه على نقد الذات وعلى الإعتراف بحق الآخر وحريته، ومن يقوم نموذجه على تكفير الآخر أو كرهه أو احتقاره أو إلغائه.

نحن والمثقف الفرنسي

هل أنا أدافع عن فرنسا أكثر مما يفعل مثقفوها؟

جوابي أن المطلوب ان ننتقد ذواتنا، كما يفعل الغربيون والفرنسيون، بحيث نشكل الوجه الآخر للعملة النقدية التنويرية. وانا اذ أخالف المثقفين الفرنسيين في بعض وجوه تحليلهم للاعتداءات الإرهابية، وأوافقهم في وجوه ومسائل أخرى، فإني أسدي لهم التحية على الدور التنويري الذي يمارسونه، بالتوجّه نحو نقد الذات، للكشف عن أوجه الخلل والقصور أو العجز، إن لم أقل التواطؤ، في ما يخصّ رصد الظاهرة الإرهابية أو فهمها أو مواجهتها ومعالجتها. وهذا شأن المجتمع الحيوي والديموقراطي. إنه يملك عيناً نقدية على نفسه، تجعله لا يكفّ عن طرح الأسئلة على نفسه على سبيل المراجعة والمحاسبة. لذا فبعد التظاهرة الوطنية والعالمية الحاشدة في باريس، على إثر مجزرة “شارلي إيبدو”، في كانون الثاني المنصرم، وُجد من ينتقدها ويشكك في جدواها. اليوم، وبعد الهجمات على باريس، تثار الأسئلة المربكة والصادمة حول مسؤولية الجميع عما حدث (الدولة والمجتمع والساسة والمثقفون والإعلاميون)، كما تزدهر المناقشات والتحليلات حول الطرق والوسائل التي تمكّن فرنسا من تجاوز الصدمة والخروج من هذه الأزمة الكيانية التي وضعتها أمام تحدٍّ مصيري.

وهذا ما ينتظر أن يقوم به المثقفون العرب. فنقد الفرنسي والغربي لمجتمعه لا يعطيهم الصدقية، لكي يتخذوا منه ذريعة لإلقاء الملامة على الغرب ودوله، وللتهرّب من حمل المسؤولية للقيام بالمهمة المنوطة بهم: تشخيص الواقع لا التعامي عنه، تفكيك المشكلات لا الإلتفاف عليها. فما وصلنا اليه من العجز والشلل أو الاضطراب والتردي، تُسأل عنه في الدرجة الأولى أنظمتنا وسياساتنا، مجتمعاتنا وثقافاتنا، الا اذا كنا نحكم على أنفسنا بأننا غير أهل لمعالجة أزماتنا المتناسلة.

نقد الذات هو الذي جعلني أقول في مكان آخر، بأن فرنسا قد تراخت كثيراً في معالجتها لمشكلة الطائفة الإسلامية، حتى تفاقمت هذه المشكلة وتحوّلت إلى لغم داخل المجتمع الفرنسي. من هنا عندما أقدم الرئيس الفرنسي، في السنة الفائتة، على محاربة التنظيمات الإرهابية في مالي، قلت كيف يفعل ذلك، وفي بلده طائفة اسلامية تعدّ بالملايين، قد يكون فيها آلاف الارهابيين أو مئات الانتحاريين، مما يكفي لتخريب مدينة كوسموبوليتية كباريس، أو لزرع الرعب في كل اوروبا؟

مع ذلك، إذا كانت فرنسا تحمل بعض المسؤولية عن تفاقم الظاهرة الإرهابية، نتيجة لعجزها أو تراخيها، أو لافلاسها في معالجة أزماتها وتجديد عقدها الاجتماعي ونموذجها للعيش، فلن أقول بأن فرنسا هي ضحية تاريخها الكولونيالي، أو كرهها للمسلمين أو اعتدائها على ثقافتهم. وإنما اقول، كلبناني تجمعه بعاصمة التنوير صلات الثقافة والمعرفة، إن فرنسا هي ضحية ميزتها كمساحة للحرية استغلّها الاسلاميون والجهاديون لشنّ حربهم الدينية وهجماتهم البربرية. تماماً كما أن لبنان لم يكن ضحية نظامه السيئ، بل ضحية ميزته كبلد مفتوح، ليبيرالي، تعدّدي، استغله اصحاب الشعارات الثورية والمشاريع التقدمية.

واذا كانت فرنسا تتخبّط اليوم، شأنها شأن سائر اللاعبين على المسرح العربي والعالمي، فما يُنتظر منها هو أن تبقى وفيّة لمبادئها. صحيح ان لها مصالحها الاقتصادية وادوارها الاستراتيجية، لكن ذلك لا يعني أن تدافع عن قيمها في الداخل وتتنازل عنها في الخارج. بذلك لا تفعل سوى ان تتواطأ مع اعدائها، وكما هي الحال اليوم، لدى معظم الدول الفاعلة، التي تتخبط وتتورّط في تعاملها مع المشكلات العربية والعالمية.

إنسان جديد

بذلك أصل الى أساس المشكلة: الانسان الذي لا يحسن سوى انتهاك مبادئه، بقدر ما يشهد على عجزه وهشاشته. فهو يعلن الحرب على الإرهاب لكي يزداد شراسة وانتشاراً، وينتفض على كل ما يسيء الى حقوق الإنسان، فتكون النتيجة أن هذه الحقوق هي اليوم في الحضيض الأسفل، وكما تشهد البربرية المزدهرة في المشرق العربي، تحت نظر العالم وسمعه، أو بسبب تدخله وتواطئه.

من هنا الحاجة إلى اصلاح بنيوي على المستوى الإنساني. فالبشرية تعاني في عصر تتشابك فيه المصائر من داء مثلث الرأس: (1) البربرية كما تشهد العلاقات الوحشية بين النظائر؛ (2) العدمية كما تتجسد في كون القيم لا ينتهكها إلا دعاتها، وفي كون الفاعلين لا يصنعون إلا النماذج التي يدّعون محاربتها.(3) الكارثة كما تتجسم في العلاقة التخريبية مع البيئة والمجال الحيوي، تلويثاً وتصحيراً وتبديداً أو ارتفاعاً مفزعاً في حرارة الأرض اذا ما تُرك يتزايد فسوف يشكل خطرا على الحياة والحضارة. كل ذلك بسبب مشاريع الإنسان وصنائعه التي يحركها الجشع والتكالب وانعدام المسؤولية.

وإذا كانت مجابهة التنظيمات الإرهابية قد فشلت بعد عقود من إعلان الحرب عليها، فإن معالجة السياسات البيئية قد فشلت هي الأخرى، بعد ربع قرن من عقد المؤتمرات والقمم في شأنها. فهل تنجح القمة المنعقدة الآن في باريس في اتخاذ قرارات حاسمة لوضع حدّ للتغيير المناخي؟ الأمر يحتاج الى سياسات وقوانين وإجراءات جديدة وفعالة، بقدر ما يحتاج الى كسر النرجسية البشرية للإنسان الذي يعتبر نفسه سيد الكائنات (ديكارت)، أو يعتقد بأن كل ما خلق هو مسخّر له (النص القرآني).

الإصلاح من اجل إعادة البناء، يتم سواء على مستوى المؤسسة أو على مستوى المفهوم. أقصد بالمؤسسة هيئة الامم المتحدة بوصفها تهتم بكل ما يسيء إلى حقوق الانسان ويشكل خطراً على حياته، فرداً أكان ام جماعة. ما افكر فيه وأقترحه في هذا الخصوص يتعلق بمسألتين: الأولى توسيع مجلس الامن الدولي، بحيث يدخل اليه اعضاء جدد من الدول الفاعلة. اما الثانية فهي الغاء حق الفيتو، لأن مثل هذا الحق يعطل عمل الامم المتحدة في معالجة القضايا والمشكلات. مرة أخرى لنحسن قراءة ما يحدث. ما عاد يصلح أن ندير الشأن العالمي بالعودة الى الثنائية القطبية بين أميركا وروسيا ومن يتحالف معهما من الدول الأخرى.

الأمر يحتاج الى تغيير طريقة إدارة الشأن العالمي والكوكبي بتغيير نظرة الانسان الى نفسه والى مكانته في العالم، وذلك يدعو الى فتح ملف انسانيتنا التي هي أصل المشكلة، كما تصنعنا بصورها ونماذجها وقيمها. فإذا كنا مع تغيير واقع العالم ونظامه، فلن يتمّ ذلك على يد الانسان الحالي، بل بالعمل على ولادة انسان جديد بنمطه ونموذجه وأساليبه، إنسان يتحرّر من كل ما يصنع هذه الفضائح والمساوئ والكوارث من العقائد الاصولية والانظمة الفاشية والعقليات النرجسية والتهويمات الطوباوية والتشبيحات الإنسانية على بقية الكائنات. ماذا نسمّي هذا الانسان؟ هل أعود الى مصطلحاتي حول الإنسان الأدنى، إنسان التقى الفكري والتواضع الوجودي؟ لذلك حديث آخر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى