جولان حاجيصفحات الثقافة

فكرتكٍ تزحف كمرساة تجرُّ غريقاً


جولان حاجي()

[غيبوبة

لسنا نُعاةً لنهجوَ الموتَ في الأمسيات.

تفرّقتِ الجرّافات كنُكاتِ المراهقين عند النواصي.

نامتِ الشوارع.

لعلّنا الصامتون في هواءِ الفجر

عطرهُ الخفيّ

حين نصادفُ المرضى على العتبات

مؤرَّقين مثلنا، معصوبي الجباه

يحتسون شاياً خفيفاً

ويشتمون الجرحَ الذي يؤلمهم إذا ضحكوا.

لكن، مَنْ هذا اللصُّ، شبيهُنا،

الشفّافُ كصمتِ الماء في متاهةِ الجذور،

يستجدي المتسوّلين

ويرى في لحاءٍ تقشّرَ مخطوطاً ثميناً؟

[مساء في حديقة الجاحظ

(إلى دانه العمري)

الضوءُ الشحيح آلمَ عينيكِ فأغمضتِهما.

انبعثَ لحنٌ من لوحةِ الراقصة سمعتهِ وحدك.

الكتابُ حلّقَ بغفوتكِ إلى المسرح

حيث غفوتِ وأكملَ منامُكِ المسرحية

وهمستِ المنسيّاتُ أسماءَهُنّ في آذانِ الممثّلين.

كنتِ مستلقيةً تحدّقين بأظافرك

وجسدُكِ أفقٌ لا ترينه.

اقتربَ السقفُ من صدرك.

ارتفعَ القبو إلى عينيكِ فرأيتِ أوروبا.

بما تبقّى من الشمس

أتلفَ عسسُ المبنى شريطَ الصُّوَر:

ظلُّكِ يحبو

فتطيرُ حمامةٌ لتحطَّ على كشكٍ أحمر

وتشتعلُ القناديلُ بغتةً في الممشى.

الشراغيفُ تشقُّ وحلَ النافورة بعلاماتِ تعجُّب.

فكرتُكِ تزحفُ كمرساةٍ تجرُّ غريقاً

وتتركُ على الرمل، تحت الأرجوحة، احمراراً خفيفاً.

عند المغيب كنتِ تتعلمين المشيَ والحبَّ والصمت

كأنّ قدمكِ ستتعثّرُ بحبلٍ من الأجراسِ.

الفتى الذي صُفِعَ عند إشارةِ المرور

فباعَ ساعةَ يده واشترى مسدساً انتحرَ به

جاءَ ورافقَكِ

ليسقيَ النبتةَ التي أينعتْ بالكحول،

قميصهُ محلولُ الأزرار،

ضحكتهُ تصلُ قبلكما.

رفعتِ عن الممسحةِ رسالةً

طوابعُها سجاجيدُ صغيرة:

كانت صورةً قديمة لكما

دون قبلةٍ أو توقيع أو أيِّ كلمة.

[ الساعة

(إلى أسامة محمد)

الزمن،

حصانُ العربة، الهرِمُ الضرير،

أدْمَتْهُ السِّياط.

كجَملٍ مربوطٍ إلى بئرِ القدماء

تدورُ العربة بجناحين ذاويين

يروزُهما الموتُ بيديه،

محمَّلةً بالمحتضرين تُكمِلُ الوشم:

بَدْراً أعمى في بياضِ الحدقة،

فلساً مثقوباً تحت عجلةٍ مكسورة،

دائرةَ طباشير على جذعٍ مبتور.

تحصدُ الهواءَ وتطحنُ العظام

فتقشعرُّ غصونٌ في خلوِّ النوافذ

وتسقطُ أمام المرآة ورقةٌ يابسة

وما مِنْ ريح.

ارتفعَ الغبارُ واختفى.

تجعّدت جلودُ الجرحى

بصريرِ البطء وصريفِ الأسنان.

هذا الصباح،

متعرّقاً تحت الشمس

قُيّدَ الحصانُ إلى تمثالِ حصانٍ آخر

ينتصبُ كمسلّةٍ عملاقة في فراغِ خاتم،

والعربةُ تزحفُ كالذين دهسَتْهم

خنافسَ إذا لُمِسَتْ تكوَّرتْ

وتدحرجَتْ برمادِها في هباءِ الظهيرة.

استدار الأفقُ

سواراً في يدٍ مقطوعة سمُّوهُ طريقاً

ثم أسرجوا الحصان

وانطلقتِ العربة تحرثُ الخزف

مرةً واحدة، نصفَ يومٍ فقط.

الألمُ يجلدُ الزمن فيخطو بطيئاً

كالمُساقِ إلى حتفه.

كلُّ خطوةٍ بين رقمين كانت عامَاً

دِيسَتْ فيه البتلاتُ والألسنة.

الخطوةُ الثانية عشرة،

الوثبةُ الأخيرة،

ستهشِّمُ الكمال

فتجرحُ شظاياهُ

أعيُنَ الشاخصاتِ وأيدي الكنّاسين.

ستكفُّ الساعةُ عن الدوران

حين يُعَلَّقُ إلى ثقّالتها-

حيث يتأرجحُ آلافُ الموتى-

ميتٌ أخيرٌ، أخير.

()شاعر سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى