سمير العيطةصفحات سورية

فكِّر محليّاً واعمل كليّاً وعالميّاً/ سمير العيطة

 

 

أضحت الهجرة الكثيفة للسوريين إلى دول الجوار، ومن ثمّ إلى أوروبا، أحد المعطيات الأساسيةّ لجهود حلّ الصراع في سوريا. لكن لا شيء يدلّ على أنّ هذا الحلّ سيترافق مع إمكانيّات ماديّة ستمكّن أيّ «جسم حكم انتقالي»، مهما كانت صيغته، من القيام بالحدّ الأدنى الضروريّ كي لا تؤدّي الهجرة والنزوح المعاكس يوم السلام الموعود بسرعة، إلى انفجارٍ جديد على خلفيّات اجتماعيّة.

وبالرغم من كلّ العناوين البرّاقة للمؤتمرات العالميّة حول إعادة إعمار سوريا، ينحصر عمل هذه المؤتمرات على تأمين تمويل احتياجات مؤسّسات الأمم المتحدة المعنيّة باللاجئين والنازحين والمنظّمات الإغاثيّة الأخرى. وكذلك على ضمان وفاء الدول المانحة لالتزاماتها بهذا الخصوص، خاصّة تلك التي تنتقد الأمم المتحدة صراحةً لعدم وفائها بذلك. أي أنّ العمل يجري على محاولة احتواء الوضع الراهن فحسب. ولا تُعطي توقّعات صندوق النقد حول النموّ العالميّ وحول الأوضاع الاقتصاديّة لدول الخليج في ظلّ انخفاض يبدو مستداماً لأسعار النفط، آمالاً كبيرة في تحسّن هذا المناخ قريباً.

لا يخصّ هذا الأمر سوريا وأبناءها اللاجئين أو النازحين وحدهم. بل أيضاً الدول المجاورة وأبناء المناطق التي تمركزت فيها أعداد كبيرة من اللاجئين. صحيحٌ أنّ هذه الدول قد استفادت من اللاجئين، وشكّلت أموال الإغاثة مورداً مهمّاً لها، كما استفادت من بيع السوريين لمدّخراتهم وكذلك استثماراتهم الاقتصادية، كما في تركيا، حيث أضحى السوريّون في طليعة المستثمرين. إلاّ أنّ هذه الدول، تحمّلت عبئاً استثنائيّاً بكلّ المعايير، بحيث يطرح نفاد مدّخرات السوريين وعدم استدامة تمويل الإغاثة إشكاليّة حقيقيّة على بعضها، خاصّة لبنان والأردن، وعلى المجتمعات المُضيفة فيها. أي على مجتمعات المناطق الحدوديّة المحاذية لسوريا التي كانت التنمية أصلاً غائبةً عنها إلى حدٍّ كبير.

بمواجهة ذلك، تطالب المؤسّسات الدوليّة دول الجوار بإدماج اللاجئين السوريين اقتصادياً، في ظلّ حساسيّة سياسيّة كبيرة لهذا الموضوع في كثيرٍ من الدول. وبالتوازي مع صلافة السياسات الحكوميّة في مواجهة واقع اللاجئين السوريين كما المجتمعات المضيفة.

لا يُمكن الخروج من هذه الإشكاليّة سوى عبر نظرة بعيدة المدى، والعمل منذ الآن، على خلق أفق إيجابيّ لما بعد الحرب السوريّة المدمّرة… إقليميّاً.

بداية، لا يُمكن تصوّر إعادة إعمار سوريا في سوريا وحدها، بل كمشروعٍ مشترك تعاونيّ إقليميّ بين سوريّة ولبنان والأردن. فهذان البلدان الأخيران كانا الأكثر تضرّراً اقتصاديّاً، حتّى قبل وصول اللاجئين إليهما. ومؤسّساتهما الإنتاجيّة ستستفيد بحكم الواقع من السلام المنشود.

هذا المشروع المشرقيّ المشترك يتطلّب رؤية، تحدّد دوراً اقتصادياً لهذا المشرق، بين التكتّلات الاقتصادية المحاذية: تركيا وإيران والخليج. وتضمن الدول العظمى أن يؤمّن هذا المشروع مصالح الدول الإقليميّة مشتركة، وليس مصالح طرفٍ على حساب طرف. فلتمرّ كلّ الأنابيب وكلّ طرق التجارة عبره دون استثناء.

لكنّ الانطلاقة تبدأ من المصداقيّة «الإقليميّة» على الأرض، بالمعنى الآخر للإقليم، أي على مستوى المناطق المحاذية لسورية. فالأفق الإيجابيّ يبدأ من التفاوض على تنمية هذه المناطق منذ اليوم، من خلال بنى تحتيّة وصحّة وتعليم وحوافز استثماريّة، في بعلبك والهرمل والبقاع وعكّار وطرابلس كما في إربد والمفرق وعجلون وجرش والزرقاء.

التنمية كانت غائبة في تلك المناطق قبل الحرب، ومجتمعاتها تحمّلت قبل مؤسسات دولها آثار الصراع والهجرة بشكلٍ لا مثيل له عالميّاً. بالتالي سينطلق الأمل بالمستقبل فيها قبل غيرها. إذ ينبغي أن تحتفظ بنهضتها بعد عودة اللاجئين. وتحفّز نهضتها نهضة مناطق سوريا المحاذية للجوار. كي لا تبقى التجارة غير النظاميّة إلى ما لا نهاية عماد اقتصاد هذه المناطق على الطرفين.

كما أنّ الانطلاقة تبدأ بالعمل على تثبيت الكفاءات السوريّة داخل سوريا وفي دول الجوار، إذ إنّ رحيل هذه الكفاءات عبر القوارب وغيرها إلى أوروبا سيأتي بالكارثة على المشرق برمّته. ولا يجوز ألاّ يستطيع أطباء سورية خدمة أبناء بلدهم اللاجئين، ولا معلّمو سورية تعليم أطفالهم، ولا ناشطو سوريّة الاقتصاديون المساهمة في نشاط جيرانهم. إنّ الأمر يتعلّق بخلق منشآت صحيّة وتعليميّة مؤقتة يُمكن نقلها إلى سوريا متى حلّ السلام. علماً أنّ أسس التحفيز على العودة يُمكن أن تُخلق منذ اليوم.

هذا الأفق هو بالتأكيد ذو بعدٍ سياسيّ يتطلّب نظرة أبعد من الصراعات المذهبيّة المدمّرة للمشرق قبل غيره. فهو الذي قام تاريخيّاً على إرث التعدديّة والتنوّع. ويتطلّب تطلّعاً أبعد من المصالح الضيّقة للقائمين على كلّ دولة فيه أو أولئك الذين يسعون للوصول إلى السلطة مكانهم.

الأمل في النهوض يكمُن من الانطلاق من قلب مفهومٍ سائدٍ «فكّر كليّاً وعالميّاً واعمل محليّاً»، في الوقت الذي يفكّر الجميع عالميّاً ولا أحد يعمل محليّاً بحيث يضحى «فكّر محليّاً واعمل عالميّاً وكليّاً Think locally, act globally». كي تنطلق الأمور من المجتمعات المحليّة وأولويّاتها، ووضعها كمسؤوليّة أمام مؤسسّات دولها وكأساس لتعاونٍ مشرقيّ وكحجرة بناء في مشروع نهوضٍ أمام الأمم ومن أجل مشرقٍ جديد لمصلحة جميع أبنائه.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى