صفحات الثقافة

فلسطين السورية


    روجيه عوطة

كانت القذائف البعثية تتساقط على مخيم اليرموك، عندما اقترب أحد الفنانين من جدار العزل العنصري الملاصق لقرية نعلين في فلسطين المحتلة، ورسم علم الثورة السورية معانقاً علم فلسطين على الجدار الإسمنتي الضخم. أشار الفنان برسمه إلى تلازم المصيرين الفلسطيني والسوري في قضية التحرر من النظامين، الأسدي والصهيوني، الأكثر فاشية وإجراماً في الشرق الأوسط. وقد تعانق العلمان قبل أيام قليلة من تصريح المسؤول في وزارة الخارجية البعثية جهاد المقدسي، أن الفلسطينيين “ضيوف بلا أدب”.

ما يجمع فلسطين بالثورة السورية، يمكن تعيينه في اللغة الجديدة التي تقارب قضية فلسطين من قلب سوريا المحتلة أسدياً. لغة جدلية تنطوي على تفاعل رمزي وعملي في الجوانب الخطابية والميدانية بين الفلسطينيين، أكانوا في الداخل الفلسطيني أم في الداخل السوري، وبين السوريين الذين يتعرضون لأقسى حملة عنفية ضدهم. على لافتة مرفوعة في حمص: “يا فلسطين، نحن لم ننسك، لكننا مشغولون بدمائنا”. تردّ عليها لافتة أخرى من رام الله تطالب بـ”عدم استخدام فلسطين لقتل إخوتنا في سوريا”، وتدعم السوريين في مقاومتهم الأسد وميليشياته العسكرية والأمنية. هذا التناص العفوي بين اللافتات، يُخرج القضية الفلسطينية من حيّز التداول البعثي كـ”بوصلة” تحدد مصالح النظام في بلدان متعددة، وكورقة سياسية إقليمية ودولية لا يخسرها نتيجة الإيديولوجيا المقاومتية المتسلح بها، التي لشدتها أطلق تسمية “فرع فلسطين” على أخطر السجون البعثية.

عادت فلسطين إلى الشعب الفلسطيني لتكون قضيته الحرة، بعدما كانت قضية الأنظمة التي وظّفتها لمآربها الخاصة. كما تحوّلت الثورة السورية إلى قضية فلسطينية. في هذا التحوّل السياسي، نجد أن الثورة ليست وليدة سياق واحد مختصر في العلاقة بين المؤسسة الحاكمة والمحكوم، بل نشأت من تلاقي السياقات التي عمل نظام البعث على ضبطها لصالحه. فالسياق الفلسطيني المتمثل في سياسة الألم في الأراضي المحتلة وفي المخيمات، ما عاد يتحمل الحياد السلبي حيال ما يجري في بلدان الربيع الثوري. ثم إن الرمزية الفلسطينية حاضرة في كل ثورة من الثورات الشرق أوسطية. صورة الشاب الذي يقف في وجه الدبابة البعثية، تكاد تتطابق مع صورة الشاب الفلسطيني الواقف في وجه الدبابة الإسرائيلية متحدياً إياها بالحجار أو بالصدر العاري. نبض الإنتفاضات الشعبية الفلسطينية حاضر في سوريا. لا حدود بين المخيم وباقي الجغرافيا الإجتماعية. فالثورة بالنسبة الى أهل المخيمات هي قضيتهم الفلسطينية، وفلسطين بالنسبة الى السوريين هي سؤالهم الإنساني.

التناص ذاكرة مغموسة بالدماء. فالقصف على مخيم اليرموك ذكّر الفلسطينيين بمذبحة تل الزعتر التي لم تغب عن زمن الثورة السورية. ففي ذكراها، وجّه الناشطون في حمص تحية إلى المخيم المدمر. شبح تلك المذبحة يلاحق النظام البعثي، والذين مشوا في اليرموك الدمشقي هم أحفاد أحمد الزعتر. ولا مناص من سقوط “ممانعة” البعث و”مقاومته” في المخيمات التي تشهد شرخاً بين الرأي الشعبي والآراء الحزبية، وقادتها المتحالفين مع الأسد والمجاهرين بنيتهم الدفاع عنه بالسلاح. فقد ارتأى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، أحمد جبريل، القتال ضد أي عدوان خارجي على “سوريا الأسد”. لكنما الفلسطينيون لم ينكفئوا عن مساعدة السوريين على إثر هذا الصدع. فالتنسيقيات التي تأسست في المخيمات ساهمت في إغاثة الأهالي الذين تهجّروا من مدنهم، فاستقبلتهم البيوت الفلسطينية، وأعانتهم في علاج الجرحى وتشييع الضحايا. كثيرة هي المخيمات التي دأبت على الإنخراط في الثورة والإندماج في الفضاء الإجتماعي الجديد الذي يتشكل بين المكوّنات الهوياتية في المجتمع السوري. “مخيم الرمل” في اللاذقية تعرّض للإقتحام والسحق. “مخيم درعا” نزح سكانه إلى خارجه. “مخيّم العائدين” في حمص دمِّر، وضربت القوات الأسدية حصاراً عسكرياً حوله. على رغم ذلك، ظلت البيانات تصدر من اللجان والتنسيقيات الفلسطينية المحلية وتدعو إلى دعم الثورة وتنظيم التظاهرات والإضرابات احتجاجاً على الجريمة البعثية المستمرة في حق السوريين والفلسطينيين.

في فلسطين المحتلة، نُظِّمت تظاهرات داعمة للثورة في سوريا، أُطلقت خلالها شعارات “الشعب الفلسطيني المجروح يتضامن مع الشعب السوري المذبوح”، و”فلسطين لن يحررها الطغاة”، و”فلسطين لن تكون سكيناً يذبح فيها أطفال سوريا”، إلخ. امتلكت فلسطين لغة خاصة بها، وتظاهرت دعماً لقضية تشبه قضيتها إلى حد بعيد، وتنديداً بالوحشية التي تُرتكب ضد شعب يتحدى المعاناة نفسها التي واجهتها على مدى عقود من الخطب والمؤتمرات والحروب. لم تعد فلسطين جسماً مريضاً، لا لسان له، كما صوّرته إيديولوجيات السلطات الديكتاتورية. فلسطين مجتمع فعّال، لا يقتصر دوره على تحويل الألم شعاراً تطرحه الأنظمة في المداولات السياسية الإقليمية، أو على الإنتظام في تشكلات سياسية انشق الشارع الفلسطيني عنها، نتيجة مواقفها بين تأييد النظام والحياد السلبي. الهوية الفلسطينية التي زُجّ بها في الصراعات الخارجية والداخلية، أرهقها خطف صوتها، وأتعبتها مصادرة اختلافها. لقد احتلت مرتين على الأقل، مرة من الصهاينة، ومرة من الأنظمة وإيديولوجياتها. في هذا المعنى، الثورة السورية ستقضي على واحد من محتلي فلسطين الأكثر عنفاً، وستتحرر منه، بلغة دلالاتها على مقاس الأحلام التحررية.

يرتكز الخطاب الجديد على التاريخ النضالي المشترك بين الشعبين. هو لا ينسى التضحيات التي بذلها الشعب السوري دفاعاً عن القضية الفلسطينية، ولا يغضّ الطرف عن الأوضاع الفلسطينية الصعبة في المخيمات. تحمّل الإثنان المشقات والمآسي نفسها. الإحتمال الذي يشتركان به، يرسخ العلاقة الرمزية والعملية بينهما. فلا تختلف كثيراً رسالة لاجئ فلسطيني عن رسالة شاب يعيش في أحد أحياء حمص: الظروف والأوضاع التعيسة نفسها. أما الشأن الهوياتي فقد أزالته آلة القمع الأسدي، ولم تلتفت إلى انتزاعها الهويات سوى لاستخدامها في سياقها الطائفي. يستند المحو الهوياتي إلى إبعاد المكوّنات الهوياتية عن الصراع ضد النظام، وتشجيعها على الإنشقاق عنه كعنصر إنساني له قدرة الإنفصال عن النظام في عيشه ولغته. هذا ما جرى بالنسبة الى أهالي المخيمات الذين انفكّوا عن سلطة البعث المتمثلة في التنظيمات السياسية الداخلية المشاركة في قمع المتظاهرين والتصدي لتحركاتهم. لا سبيل للتفرقة بين الرصاص الذي أطلقته هذه التشكلات المخيّماتية وذلك الخارج من أسلحة البعث، مهما كانت الحجج التي يسوقها الطرف السياسي لإحتواء ثورة المخيّمات ضد بشار الأسد.

جوّف البعث دلالة القضية الفلسطينية وجوّف معناها، بحيث تهدل الدال على جسم المدلول، واختفى الإعتباط الدلالي بينهما تاركاً مجاله للحذق البعثي العنيف. غير أن الثورة قلبت هذه المعايير الألسنية السياسية، وأعادت كل مركّب خطابي إلى حجمه، فأصبح المدلول شارعياً، والدال يناسبه في معاركه ضد الخطاب الأسدي. خلقت فلسطين معناها السوري، ودفعت ثمن دلالتها الجديدة ضحايا وجرحى ومعتقلين. وصنعت الثورة رمزيتها الفلسطينية، وقررت عدم الإنفصال عن الحلم الفلسطيني التاريخي المتمثل في مواجهة الإحتلال والتحرر منه. لغة التناص بين الحلمين، تركت للشعبين حرية تبادل الهويات، من دون أي خوف من الإختلافات بينها: فلسطين أصبحت سورية، كما في إحدى اللافتات الإدلبية، “يا فلسطين، نتحرر لنحررك!”، وسوريا أضحت فلسطينية، مثلما صرخ أهالي رام الله: “يا سوريا، فلسطين معاكي للموت”. زمن الشعب السوري التحرري شبيه بزمن الشعب الفلسطيني الهوياتي، تختصره تسمية الجمعة بـ”فلسطيني سوري واحد”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى