صفحات الثقافةهيفاء بيطار

فن الشارع وخيانة المثقفين/ هيفاء بيطار

يمكنني القول ان ثورات «الربيع العربي» لم تكسر سلطة الحاكم فقط، بل كسرت سلطة المثقف الذي فوض نفسه لعقود طويلة كمعبر عن الجماهير. أحدثت تلك الثورات ـ برغم عفويتها وأخطائها وعدم وجود قيادات حقيقية فيها ـ صدمة لدى المثقف العربي الذي وجد نفسه كمن فقد شرعيته أو ُحِب البساط من تحت قدميه، لأن الجماهير المنتفضة وجدت أسلوبها الخاص في التعبير عن ذاتها وفي مطالبتها بحريتها وكرامتها وحقها في العيش الكريم كما تريد هي وليس كما يعبر عنها المثقف.

لقد صار بإمكان كل مواطن ان ينشر رأيه على الملأ على صفحات الفيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي. وبكل نزاهة، اعترف ان شعارات ولافتات قرية صغيرة ومغمورة مثل «كفرنبل» في سوريا تفوق لو جمعت في كتاب ما كتبه أشهر الشعراء ليس السوريون فحسب بل العرب أيضاً، وبأن تلك الشعارات الرائعة عالية الموهبة الإنسانية والإبداعية قد دشنت لغة نثر رائعة تتفوق على قصائد النثر لأهم الشعراء. لقد غاب شعر الشعراء النخبة (كأدونيس مثلاً) لأنه لم يستطع ان يواكب الانتفاضة الجماهيرية، ولأن قصائده التي تعبر عن زمن فقد رصيده وصلاحيته لم تمتلك القدرة على الركض وراء الأحداث المتسارعة وثورة الشباب المتعطش للحرية والكرامة، حتى لغته بدت شاحبة وغريبة عن الغليان الذي يحدث خصوصاً في سوريا. وبرغم تقديري الكبير له كقامة فكرية وشعرية، إلا انه غاب من أذهان ملايين الشبان بعد اندلاع الثورات العربية، وتراجعت إلى حد كبير قراءةُ شعره ومقالاته.

لقد أنتج ثوارُ الشارع فنَّهم الخاص وشعاراتِهم الخاصة وإبداعَهم الخاص، ويحضرني هنا كم لام الناس المبدع العبقري محمود درويش حين اتهموه بأن شعره لم يواكب انتفاضة الحجارة حتى هو نفسه قال: «لقد مضى زمن قصيدة المناسبة». إذا وجد المثقف نفسه على هامش غليان الشارع، وأصبح محبطاً فلا هو سيد ومنظر ومعبر عن الجماهير التي أخذت زمام المبادرة للتعبير عن نفسها، ولا هو مقبول من سلطة قمعية تجبره على ان يكون ولاؤه لها بالترغيب أو الترهيب أو باتخاذ أكثر المواقف جبناً وذلاً: الصمت. وأعتقد ان هناك سبباً بالغ الأهمية لغياب أو خفوت صوت المثقف العربي وقلة إنتاجه في زمن الثورات العربية أو زمن الغليان أو المخاض، وكلها توصيفات لتحول الشعوب العربية من جثة إلى كائن حي يعي ألا معنى للحياة إلا بالحرية والكرامة… والسبب برأيي هو ان المثقف عادة هو حامل مشروع فكري ينطوي على الذاتي والموضوعي، وبأن المثقف اعتقد انه سيعبر عن الحراك الجماهيري المطالب بمبادئ طالما تبناها المثقف وهي الحرية والعدالة وحرية المرأة ونبذ التعصب، لكن سرعان ما تحول هذا الحراك الجماهيري الصاخب إلى صراع مسلح وإلى حرب أهلية في بلدان عربية عدة، وانتعشت الطائفية بأخطر أشكالها أيضاً ونمت طبقة من تجار الحروب تجيش الناس تغويهم وترهبهم ليعطوها ولاءهم، ويتبنوا شعاراتها الأبعد ما تكون عن قيم ثورة الكرامة والحرية… إن سرعة تحول هذا الحراك الجماهيري الذي بدأ نقياً وصادقاً وحقيقياً إلى صراع مسلح تلعب فيه الدول الكبرى دور المحرك والدور الفاعل، جعل المثقف يشعر بأنه مشلول ولا يعرف كيف يمسك طرف الخيط، فالثورة سرقت، والطائفية انتعشت، والعنف الوحشي أخذ أشكالاً وممارسات لا يتوقعها أحد، وأكثر ما يخجل ان من يدعون أنفسهم قادة الثورات العربية مارسوا قمعاً وتعنتاً وتخويناً لكل من تجرأ وخالفهم الرأي او انتقدهم، ولا يمكنني تجاهل الهجوم الشرس الذي تعرض له فنان عبقري كزياد الرحباني فقط بسبب موقفه السياسي، وأعرف مثقفين قاطعوه وألغوا إبداعه الفني وسخروا منه! لا بل كتبوا بلغة سوقية أقرب إلى الشتائم الفاحشة عنه. لقد تبين أن خطورة السلطة القمعية المستبدة التي روعت الناس بسطوة أجهزتها الأمنية لعقود تكمن في أنها ـ وللأسف ـ تنتج مسوخاً يشبهونها ويمارسون ممارساتها، الكل ـ كما أظن ـ تابع السجال بين صادق جلال العظم وأدونيس الذي تكفلت زوجته خالدة سعيد بالرد على العظم. وأنا واحدة من ملايين أصبت بخيبة أمل من هؤلاء الذين نشأنا على كتبهم وتأثرنا بأفكارهم ثم شهدناهم يمارسون قمعية مع سلطة طالما انتقدوها وطالبوا بتغييرها.

اننا في مرحلة طغيان فنون الشارع والأغاني التي أطلقها شباب الثورات والتي فاقت بانتشارها ومصداقيتها كل ما كتبه الشعراء في تلك المرحلة لأنها تعبر عن نبض الشارع.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى