مراجعات كتب

فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر المسلم، 1973 – 2016/ منتصر حمادة

 

 

هذا عمل أشبه بتمرين نظري يروم إلى تقييم المناهج البحثية التي تشتغل على الظاهرة الإسلامية الحركية في المنطقة، وبالتحديد المناهج المُعتمدة في المجال التداولي الأوروبي [الفرنسي بالتحديد].

خاصة أن مؤلفه، الباحث فرانسوا بورغا ينتمي إلى نواة بحثية تفرغت للاشتغال على الظاهرة منذ عقود مضت، كما كرّس أعماله لدراسة المتغيرات السياسية والتيارات السياسية الإسلامية في المنطقة العربية، إلى جانب لائحة عريضة من الباحثين، منهم أوليفيه روا وجيل كيبل وبرونو إيتيان وغيرهم من الأسماء.

نحن في ضيافة كتاب “فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر المسلم، 1973- 2016″[1]، لمؤلفه فرانسوا بورغا [François Burgat]، مدير الأبحاث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي [IREMAM] في جامعة “إيكس أون بروفانس” (جنوب فرنسا).

جاء العمل في 310 صفحة من الحجم المتوسط، موزعاً على بابين، موزعة بدورها على أربعة عشر فصلاً، نذكر منها: “في اكتشاف العالم الإسلامي”؛ “مصر، حُب العربية ومعنى الاختلافات”؛ “اليمن: التحديث بلا استعمار”؛ “فلسطين، تحت إسرائيل”؛ “سوريا وبلاد الشام”، بينما خُصصت الفصول الأخرى للخوض في الظاهرة الإسلامية الحركية، في شقيها السياسي [“الإسلام السياسي”] والقتالي أو قل “الجهادي”.

جاءت المُقدمة عبارة عن مذكرات الكاتب مع البحث العلمي والمرتبط أساساً بالاشتغال على واقع الوطن العربي الظاهرة الإسلامية الحركية، وهو الذي اشتهر في المجال التداولي الإقليمي بكتابه الذي يحمل عنوان: “الإسلام السياسي في المغرب العربي: صوت الجنوب”[2] وبعض الأبحاث لاحقاً، قد يكون أهمها كتابه “الإسلاموية في زمن تنظيم “القاعدة”[3].

وعموماً، سواء تعلق الأمر في المقدمة المطولة، أو في عدة فصول من العمل، يمكن تصنيف العمل في خان السيرة الذاتية، لأن المؤلف يتوقف عند عديد ذكريات وتجارب في مساره البحثي طيلة العقود الثلاثة الماضية، وما عاينه على أرض الواقع في عدة بلدان عربية، خاصة في اليمن ومصر وسوريا. ومن هذه البوابة، يتوقف في عدة محطات أيضاً من الكتاب مع بعض الاختلافات والمقاربات في تناول الظاهرة الإسلامية الحركية، مقارنة مع تلك الصادرة عن أهم الباحثين المنافسين للمؤلف في الاشتغال على الظاهرة، ونخص بالذكر أوليفيه روا [Olivier Roy] وجيل كيبل [Gilles Kepel]، كما نعاين ذلك بشكل صريح في الفصل الثالث عشر، وعنوانه: “في مواجهة أبحاث الآخرين: جيل كيبل، أوليفيه روا والإسلاموية”، حيث نعثر على باب “اشتباك بحثي” بين الأسماء الثلاثة، وهذا متوقع بمقتضى إغراءات “الرأسمال الرمزي”[4] المرتبط بتفسير الظاهرة الإسلامية الحركية التي تؤرق مراكز الدراسات وصناع القرار والرأي العام.

نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار سيادة الغلبة الكمية على حساب التواضع النوعي في مقاربة الظاهرة، سواء تعلق الأمر بالباحثين الأوروبيين (الفرنسيين على الخصوص)، أو الباحثين المسلمين الذين يقيمون في الغرب الأوروبي، ولو أنه بدأنا نعاين في الآونة الأخيرة، بزوغ لائحة من الباحثين المسلمين المتمكنين من الظاهرة، ونزعم أن ما يصدر عنهم يكاد يضاهي أو يتجاوز الأفق المعرفي [ومعه النموذج التفسيري] لما يصدر عن الباحثين الأوروبيين. ولا نتحدث عن أقلام مسلمة تكرر نفس الصور النمطية حول الظاهرة، كما تصدر عن الباحثين الغربيين، وإنما عن فئة بحثية نوعية، تأتي بالجديد في التفسير والتفكيك، نذكر منها الباحث الفرنسي من أصل جزائري حواص صنيقر [Haoues Seniguer] والباحث الفرنسي من أصل مغربي محمد لويزي [Mohamed Louizi]، وكتابه الذي صنع الحدث البحثي خلال العام الماضي، بعنوان: “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟”[5].

وميزة أعمال صنقير ولويزي، أنها تتجاوز الثنائية البحثية السائدة في الساحة الفرنسية بخصوص التعامل مع قضايا الوطن العربي، ومن ذلك الظاهرة الإسلاموية، أي ثنائية “التبجيل” كما هو الحال مع فرانسوا بورغا و”التقزيم”، كما هو الحال مع محمد الصيفاوي وبدرجة أقل جيل كيبل، من منطلق أن المقاربة المعتمدة في هذه الثنائية، تنتصر للمرجعية الإيديولوجية أساساً، على حساب مقتضى المقاربة المعرفية، حتى لو زعمت خلاف ذلك. بمعنى حتى لو زعم هذا الباحث أو الكاتب الانتصار للمرجعية العلمية عوض المرجعية الإيديولوجية في تناول الظاهرة، فإنه غالباً ما تكون الخلاصات تصب في صالح توجهه الإيديولوجي.

كما أصبحنا نعاين خلال السنين الأخيرة ولوج عدة حقول علمية لمساعدة الرأي العام وصناع القرار على قراءة الإسلاموية، ومنها تسليط ضوء علم النفس، كما هو الحال مع أحدث أعمال الباحث التونسي فتحي بنسلامة[6]، والذي يصف المتديّن المسلم المتشدد بـ”المسلم الأعلى” أو “المسلم الفائق”، في إحالة على أطروحة “الإنسان الفائق” النيتشوية.

الأزمة السورية المُركبة

في الفصل المخصص للمشهد السوري، وأيام الإقامة البحثية للمؤلف في “سوريا وبلاد الشام” [عنوان الفصل السابع]، يُقر بداية أن هذه الإقامة التي استمرت طيلة أربع سنوات، ابتداءً من العام 2008، كانت درامية في مشوار أعماله البحثية، لأسباب عدة، منها شعوره بنوع من الامتياز الفخري الذي حظي به أثناء الإقامة باعتباره مقيماً أجنبياً، مشيراً أيضاً إلى أن الأشهر الأخيرة لإقامته، جعلته يتوقع أن جهنم السوداء الأكثر قتامة، قادمة لا محال في سوريا بالتحديد، بُعَيد أحداث “الربيع العربي”، وأن الأمر لا يُترجم توقعاً بمآل الأحداث الدموية ولا حتى بالانقلابات في المواقف السياسية والاستراتيجية التي طالت مجموعة “أصدقاء سوريا” بين تأييد الحراك بدايةً، وأخذ مسافة منه لاحقاً (ص 150).

ويورد بورغا واقعة جرت له في غضون سبتمبر/ أيلول 2009، في طريقه إلى مطار دمشق، رفقة زميل من الخارجية الفرنسية، جاء في سياق مشروع بحثي. اذ وقعت حادثة إرهابية أمام قاعدة عسكرية، تورط فيها فاعلون “جهاديون”، وكانت واقعة صادمة، ومنذ حينها، يضيف المؤلف، أصبحت مثل هذه الاعتداءات مُعممة في مرحلة ما بعد الحراك السوري، لتختلط الأوراق حول تبني المسؤوليات، بين المؤسسة الأمنية والجماعات “الجهادية”، وهي فتنة حقيقة سيتم تغذيتها بتباينات عرقية وطائفية كانت حاضرة من قبل، ولم تكشف عن وجها السلبي والأسود إلا بعد اندلاع الحراك في المنطقة، وذلك بخلاف ما جرى في أحداث الحراك التونسي والليبي من جهة، وأيضاً، أحداث الحراك المصري، والذي رغم الحضور القبطي [حوالي 10 في المائة من الساكنة]، إلا أنه لم يطرق باب الفتنة الطائفية والعرقية في سوريا، بسبب تحكم السلطوية المصرية، وهو تحكم، له وجه سلبي ووجه إيجابي، ومنه عدم ولوج مقام القلاقل اللبنانية والعراقية قبل 2011، بلْه القلاقل السورية لاحقاً (ص 155).

“لا مكان للربيع السوري”، عنوان فرعي يُلخص تزكية المؤلف ما صدر عن عديد باحثين ومراقبين على هامش قراءة التطورات الدموية التي طالت سوريا منذ 2011، وهي قراءات تلخصها باقتدار الجملة التالية: “الأزمة السورية مُركبة بشكل رهيب”، ومن نتائج هذا التأزم، رهان العديد من القراءات على خيار الحدث الأدنى من التأزم، ويقتضي صرف النظر عن تأييد المشاريع التي استهدفت الإطاحة بالنظام السوري، لأن القادم أسوأ بكثير كما كشفت عنه لاحقاً التلاعبات الاستراتيجية بالظاهرة “الداعشية” والملف الكردي في آن، وهي تلاعبات صرفت النظر عن النزعة السلطوية لدى النظام السوري، وهي النزعة التي انتقدها بشدة المؤلف منذ 2011، معتبراً أنها المسؤول الأول عن الأزمة (ص 161)، مضيفاً أنه إذا كانت فضائية “الجزيرة” لعبت أدواراً معينة في الدفاع عن الحراك السوري، عبر استلهام التجربة التونسية والمصرية والانخراط في حملات الحشد الإعلامي والدعائي، فإنه في المقابل، يتم صرف النظر عن دلالة صدور احتجاجات سورية محلية [home made] لا علاقة لها بأي حراك إقليمي، كما أنها تميزت بالسلمية والتعددية وأخذ مسافة واضحة من النزعة الطائفية. ولكن المنعطف الرئيس الذي انتقلنا بعده من السلمية إلى المشاهد الدموية الراهنة، جاء مع مُحددين اثنين: أولهما محلي، ومرتبط بالتفاعل الأمني غير المسؤول لصناع القرار في دمشق؛ والثاني دخول قوى أجنبية وازنة، فكانت النتيجة، تسليح هذه القوى للحراك، وفقدان هذا الأخير للعذرية السلمية، والتحول نحو الجبهات الدموية المستمرة حتى تاريخ صدور الكتاب وبعده.

هذا التحول المفصلي يُحيلنا على الميزة الثانية اللصيقة بالحراك السوري، وهي مسألة تدويل الحراك، وهو التدويل الذي تم بشكل سريع من جهة، موازاة مع انتقال الحراك من الخلاف السياسي والدبلوماسي نحو الخلاف العسكري والأمني، خلافاً لما جرى في الحراك التونسي والمصري.

كما انتقد المؤلف لائحة من الباحثين اليساريين في المنطقة وفي أوروبا من الذين وقفوا مع النظام السوري، معتبراً أن هذا التضامن مرده الحسابات الإيديولوجية، ضداً في الموقف الأمريكي الإمبريالي، ومن ذلك تأييدهم التحول الذي طال الموقف الروسي الذي كان فاعلاً في عدم تطور الأوضاع إلى مزيد تأزم، واعتبر بورغا في هذا السياق أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سعى إلى التصدي لخيار التوسع الغربي في قضايا المنطقة، وخاصة في الملف الليبي، ومواجهة الأطماع الغربية في أوكرانيا فكانت الساحة السورية، أشبه بورقة لإعادة التوزان لميزان الصراع الغربي ـ الروسي.

وبالنسبة للظاهرة “الداعشية” وتوظيفاتها من طرف العديد من الفاعلين الإقليميين في المنطقة، بقي المؤلف وفياً لمقاربته للظاهرة الإسلامية الحركية بشكل عام، أي إلقاء اللوم على دول المنطقة، ومعها القوى الغربية، معتبراً مثلاً في الحالة السورية، أن انخراط “الجهاديين” في الحراك، أفضى إلى التطبيع مع الجرائم والاعتداءات الإرهابية، موازاة مع تشتت الولاءات العرقية والطائفية على الداخل والخارج.

بالنتيجة، يتضح أنه سواء تعلق الأمر بموقف صناع القرار في دمشق أو المعارضة المشتتة على ولاءات وصراعات، اتضح أن الأزمة السورية غذت بشكل كبير التقوقع الطائفي في المسرح السياسي الغربي كما هي نظيره الشرقي (ص 174).

ومن نتائج الأزمة في الساحة الأوروبية، وبالتحديد الساحة الفرنسية التي يشتغل عليها المؤلف أكثر، أننا سنعاين توظيف الأزمة السورية في الصراعات الحزبية والسياسية، خاصة بعد تسليط وسائل الإعلام الفرنسية الضوء على ظاهرة “الفرنسيين الجهاديين” الذين شدوا الرحال إلى العراق وسوريا قصد الانضمام إلى الحركات الإسلامية “القتالية”، بكل تبعات الظاهرة على واقع الإسلام والمسلمين في فرنسا. وهنا ينتقد المؤلف بشدة مواقف أغلب النخب السياسية والإعلامية في الساحة معتبراً أن كل خطاب هؤلاء حول العلمانية والعالمية قد تعرض للتقويض.

التكلفة السياسية للخلافات البحثية

في الفصل المُخصص للتوقف عند “التكلفة السياسية للخلافات البحثية”، نعاين مرة وقفات مع السيرة البحثية الذاتية للمؤلف، على غرار ما نعاين في مقدمة العمل وبعض مضامين فصول أخرى، حيث لا يتردد المؤلف في توجيه النقد اللاذع لأغلب الأسماء البحثية والإعلامية التي مارست عليه الحصار أو انتقدته بسبب تعاطفه مع الحركات الإسلامية في المنطقة، وفي مقدمتها التيار الإخواني، أو بسبب مشاركته في لقاءات[7] تنظمها هذه الأحزاب والحركات في المنطقة.

كما اعتبر بورغا أن علاقته الوطيدة مع الباحث طارق رمضان، تسببت له في صدور انتقادات سلبية عديدة من باحثين وإعلاميين فرنسيين، ويعزو ذلك لإشادته بالدور الذي يقوم به رمضان في عدة جبهات بحثية وإعلامية في أوروبا والخليج العربي، وفي مقدمتها الدور الذي يقوم به في إدارة “مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق” بالدوحة (ص 239). وهنا يصَنّف ما يقوم به المركز في خانة “تجديد الخطاب الديني” رافضاً الانتقادات الصادرة عن عدد من الباحثين حول السياقات السياسية والإيديولوجية لهذا المشروع أو غيره في المنطقة، معتبراً أنها انتقادات تنهل من عقلية المؤامرة. وفي مثل هذه التفاصيل الثانوية في العمل، كان الخطاب الذاتي حاضراً بقوة على لغة الكتاب، عوض الخطاب المعرفي، لذلك اعتبرنا أن كتاب “فهم الإسلام السياسي”، يكاد يُصنف في خانة السيرة الذاتية، على الأقل حينها، لا يمكن مؤاخذته بحثياً، ما دامت الذات تتحدث بشكل صريح وواضح، على غرار ما نعاين في السائد مع السير الذاتية التي تنشر هنا أو هناك.

لقد ظل المؤلف واضحاً في الدفاع عن نموذجه التفسيري الخاص بقراءة الظاهرة الإسلامية، سواء السياسية أو القتالية [“الجهادية”]، حيث غالباً ما يُلخص أهم أسباب الظاهرة في السياسات الاستعمارية من جهة، وفي فشل مشروع الدولة الوطنية العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، ومعه مُحدد المواقف والتوجهات العَلمانية المعادية للهوية العربية الإسلامية، وهو دائم التصدي للنموذج التفسيري الأكثر شيوعاً للظاهرة الإسلامية في نسختها “الجهادية”، أي النموذج الذي يرى أننا إزاء “متطرفين”، أو “متعصّبين”، لأنه يؤمن بأن هذا الحُكم يغطي على المتلقي التعامل مع الظاهرة على أساس أنها أيضاً ظاهرة سياسية، لأن الإسلاموية من جهة، لا تجسد قطيعة مع الحركات السياسية المعارضة التي عرفتها المنطقة العربية من قبيل التيارات العلمانية أو القومية، ولأنها على صعيد آخر، خارجية هذه المرة، ذات صلة بعلاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب، بما يتطلب الاشتغال على الظروف [الخارجية] التي أنتجت الإسلاموية.

ليس هذا وحسب، بل لا يتردد المؤلف في وصف الحكام العرب بأنهم “بينوشيون” [نسبة إلى أوغستو بينوشي]، (ص 244)، في تزكية لما يصدر عن الخطاب السياسي المعارض في المنطقة، اليساري خلال حقبة ما حرب الخليج الثانية [1991] وما قبل منعطف نيويورك وواشنطن [2001]، أو الإسلامي الحركي في مرحلة الما بعد.

وربما نعاين أولى تجليات هذا النموذج التفسيري في أولى العناوين الفرعية التي تضمنتها مقدمة الكتاب، حيث جاء العنوان كالتالي: من تنظيم “القاعدة” إلى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” [“داعش”]: هل نحن أمام “ثورات إسلاموية أم تفاقم الفشل الغربي؟ معتبراً في هذا الصدد أن العنف الإسلامي الحركي ليس مصدره الإسلام، ولكنه نتاج التاريخ المعاصر للدول الإسلامية، تاريخ مُحرر من قبل عدة أيادي، بمساعدة الأيادي الغربية. هنا يستشهد بورغا ببعض مضامين كتابه” الإسلام السياسي في المغرب العربي: صوت الجنوب” الذي جعله ضمن الزمرة البحثية الفرنسية الأولى المعنية بالمتابعة البحثية للظاهرة الإسلامية الحركية، بالرغم من صدور 30 سنة على صدور الكتاب، ومن الأمثلة على ذلك مثلا ًفكرته حول أن الشمال المتوسطي، المنتج الكبير والمستكشف الواسع، مُطالبٌ بأن يأخذ بعين الاعتبار منذ سنين بثقل منافس، قادم من الجنوب [المتوسطي] يُشكك في يقينيات ذلك الشمال. هذا المنافس يتحدث العربية في مواجهة الفرنسية، يراهن على النزعة الروحية في واجهة النزعة المادية، ينتصر لهاجس الأمة، كما يُفضل الشورى على الديمقراطية.

خُصص الفصل الأخير من العمل للتوقف عند واقعة اعتداء “شارلي إيبدو”، وجاء عنوانه دالاً ومنسجماً مع النموذج التفسيري للمؤلف: “أحداث شارلي: فشل الإسلام، فشل المسلمين أم فشل السياسة؟”، حيث يسحب البساط عن أي مسؤولية ذاتية لأي خطاب إسلامي حركي في فرنسا، مقابل تسليط الضوء على مسؤولية الحكومات الفرنسية وراء تفاقم الأزمات التي طالت الأقليات المسلمة. بمعنى آخر، لا فائدة من تسليط الضوء على تأثير الخطاب الإسلامي المتشدد على المجال التداولي الفرنسي، ومن ذلك، صرف النظر عن تبعات ترجمة موسوعة “المقاومة الإسلامية العالمية” التي حررها عمر عبد الحكيم [أبو مصعب السوري] إلى اللغة الفرنسية ابتداء من العام 2005، وهي الترجمة التي كانت لها نتائج سلبية على تديّن العديد من أتباع التديّن السلفي في الساحة الفرنسية بتعبير جيل كيبل في كتابه الأخير[8]، ولهذا دحض فرانسوا بورغا هذا المعطى، وتعامل معه بتقزيم جلي، (ص 276 – ص 279)، مُختتماً عمله بأن المُحدد السياسي هو مفتاح التعامل مع الظاهرة الإسلامية الحركية، في نسختها السياسية و”الجهادية” (ص 290).

المواجهات البحثية المفتوحة حول الإسلاموية

نأتي للفصل الأكثر إشكالية في العمل، والحديث عن الفصل الثالث عشر وعنوانه: “في مواجهة أبحاث الآخرين: جيل كيبل، أوليفيه روا والإسلاموية”، وهو فصل أشبه برسائل بحثية يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، موجهة إلى باحثين من أهم الباحثين في المجال التداولي الفرنسي، ويُصنفان في مقدمة الباحثين المشتغلين على “الإسلاموية”، حيث يُفرق بداية المؤلف بين طبيعة مقاربته لتناول الظاهرة مقارنة مع تناول جيل كيبل مثلاً: إذ بقي الأخير، يشتغل على الظاهرة من خلال تفكيك النصوص المؤسسة لها، كما فعل مع أغلب إسلاميي المنطقة، في حين أن بورغا، يراهن على لقاء الفاعلين في الميدان، والمقاربة هنا مختلفة منهجياً بشكل صريح (ص 256).

واضح أنه لا يمكن الحسم في طبيعة المقاربة الأشمل والأهم، وواضح أيضاً أن تبني مقاربة منهجية وحيدة دون سواها، يصُب بشكل أو بآخر في الانتصار لنموذج تفسيري أحادي إن لم يكن نموذجاً اختزالياً، ومن هنا أهمية المقاربات متعددة المداخل، لأنه سواء تعلق الأمر بمقاربة كيبل أو بورغا، فإن لكل مقاربة أوجه إيجابية مقابل أوجه سلبية، وهذه تفاصيل نقدية لا يتوقف عندها المؤلف بالمرة، بل يعتبر أن مقاربته تبقى الأكثر نجاعة.

النموذج التفسيري الذي يُروجه بورغا في أعماله حول الظاهرة الإسلامية، مفاده أن الغرب لا يرغب في التخلي عن الماضي الإمبريالي ولذلك ترك نخبة حاكمة وظيفية، في حقول سياسية وفكرية وإعلامية، تكرس التبعية. مع ذلك فان هذا النموذج يسقط فيه خطاب المؤلف نفسه، ذلك أن بورغا لا يأخذ بعين الاعتبار أن هذا التحيز في التفسير لم يجد تعاطفاً جامعاً في المنطقة، وبالكاد يحظى بالقبول والتفاعل من طرف المشاريع الإسلامية الحركية، بمقتضى انتصاره لتحيز بحثي/ إيديولوجي صريح.

أما بخصوص تقييم المؤلف لقراءات الباحث أوليفيه روا، نجد أن بورغا يُنوه نسبياً بأعمال روا فقط في الشق الخاص بقراءة الظاهرة الإسلامية “الجهادية”، خاصة أن روا يدافع عن موقف وسط بين بورغا وكيبل، مفاده أن “الجهاديين”، متعصبون لفترة زمنية قصيرة، مقارنةً بإطلاق تهمة التعصب لمدة أطول عند كيبل ــ وبسبب ذلك اشتهر أوليفيه روا بأطروحة “أسلمة التطرف” [islamisation de la radicalité] وليس “التطرف الإسلامي”.

مع ذلك، يأبى بورغا إلا أن يتعامل مع اجتهادات أوليفيه روا أنها ثانوية الأهمية في تفسير الظاهرة، مؤكداً أن الأصل، من وجهة نظره، يبقى ثقل الفجوة الكبيرة الآخذة في الاتساع بين الغرب والعالم الإسلامي. ولذلك لا يتوانى عن تسفيه أعمال صاحب “الجهل المقدس”[9] [La Sainte Ignorance]، والذي يُحسب له تقديم مفاتيح مفاهيمية أكثر جدة ورصانة في الساحة الفرنسية والأوروبية مقارنةً مع أغلب الباحثين المشتغلين على الظاهرة الإسلاموية؛ اذ أن تصفح خلاصات كتاب “الجهل المقدس”، تبين لنا القصور المعرفي للنموذج التفسيري الذي يشتغل به فرانسوا بورغا، وهذا القصور يحول دون توصله إلى لائحة عريضة من الخلاصات الهامة التي توصل إليها روا في معرض اشتغاله على ثنائية “العولمة” و”الإسلاموية”.

فمثلاً يرى روا أن العولمة قد أسست سوقاً عالمياً للديني، وهو ما بات يعني أننا أمام “مستهلكين” أي أناس لديهم طلب تتعين تلبيته بصدد الحاجات الروحية، ويجدون أمامهم تشكيلة من المنتجات متنوعة وسهلة المنال. كما أن هذه السوق قد أتاحت الفرصة لانفصال المعالم الدينية عن المعالم الثقافية، مما أتاح بوجه خاص لإمكانية استهلاك منتج ديني من دون حاجة إلى معرفة الثقافة التي أنتجته.

وبالتالي إذا استحضرنا هذه القراءات/ الخلاصات التأملية الرصينة التي خلُصَ إليها أوليفيه روا، مقارنة مع اجتهادات جيل كيبل وفرانسوا بورغا، نستوعب أن الأفق المعرفي لروا، مرتفع عن نظيره لدى كيبل وبورغا، ويمكن تزكية هذه الخلاصة من عدة أوجه، نظرية وعملية، ونتوقف عند إشارة عملية دالة في هذا الصدد، فليس صدفة، أن نجد الأقلام البحثية اليسارية أو “العَلمانية” في مجالنا التداولي، تشتغل على التعريف بأعمال جيل كيبل أكثر بكثير مقارنة مع التعريف، بأعمال فرانسوا بورغا[10]؛ وفي المقابل، ليس صدفة أيضاً أن تنخرط الأقلام الإسلامية الحركية في التعريف بأعمال فرانسوا بورغا أكثر بكثير من أعمال جيل كيبل[11].

لهذه الأسباب، كانت أعمال أوليفيه روا في قراءة الظاهرة الإسلامية الحركية، أقرب إلى النموذج التفسيري المُركب، مقارنة من الأسماء سالفة الذكر[12]، وقد يكون ذلك مرتبطاً بتأثير التربية الدينية لروا، حيث مرّ في طفولته من تربية مسيحية ملتزمة، قبل الانعطاف على تحولات فكرية لاحقاً جعلت منه اليوم، قلماً مرجعياً في تناول القضايا الدينية، ومن ذلك تعامله مع ثنائية الدين والتديّن، اذ يؤسس تناوله هذا على الحذر المعرفي والابتعاد عن تمرير أحكام القيمة، بخلاف  أغلب الباحثين القدامى والجدد، في أوروبا وأمريكا، مع بعض الاستثناءات الهامة التي نلمسها تحديداً لدى تيار عريض من الباحثين الألمان على الخصوص.

المراجع

[1]  François Burgat, Comprendre l’islam politique, édition: La Découverte, octobre 2016, 310 pages.

[2]  François Burgat, L’islamisme au Maghreb : La voix du Sud, édition Payot, septembre 2008, 410 pages.

[3]  François Burgat, L’islamisme à l’heure d’Al-Qaida, La Découverte, octobre 2010, 238 pages.

[4]  مفهوم “الرأسمال الرمزي” [Capitale symbolique] مصطلح في علم الاجتماع [“سوسيولوجي”] أطلقه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، قصد به لائحة من المصادر الثقافية التي ينهل منها الإنسان أو مجموعة من المؤهلات الفكرية التي يُنتجها محيط هذا الإنسان، وتساعده على السيطرة والتحكم في الدائرة المجتمعية الضيقة أو الواسعة.

[5]  Mohamed Louizi, Pourquoi j’ai quitté les Frères musulmans? Editeur: Michalon, Paris, janvier 2016.

[6]  Fethi Benslama, un furieux désir de sacrifice le surmusulman, Editeur : Le Seuil, mai 2016, 160 pages.

[7]  جاءت آخر مساهمات فرانسوا بورغا في لقاءات من هذه الطينة الإسلامية الحركية، في عام  2016، مع مساهمته في أشغال ندوة “الهوية والانتماء المزدوج”، التي نظمها منتدى يضم أتباع حزب “العدالة التنمية” الإسلامي المغربي [“لجنة المغاربة المقيمين بالخارج لحزب العدالة والتنمية”] بمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين والكائن بمدينة العرفان، الرباط، بمشاركة باحثين من المجرة الإسلامية الحركية، في نسختها الإخوانية، ويتعلق الأمر بالباحث خالد الصمدي (وزير حالي في الحكومة المغربية، باسم حزب العدالة والتنمية)، الباحث سمير بودينار والباحث محمد مصباح.

[8]  الإحالة على كتاب كيبل الذي يحمل العنوان: “الكسر” [أو “الفجوة”]. أنظر:

Gilles Kepel, La Fracture : Chroniques 2015-2016, Gallimard, Paris, 4 novembre 2016, 288 pages.

سبق أن سلطنا الضوء على أهم مضامين العمل، ونشر في موقع معهد العالم للدراسات [alaalam.org]، بعنوان: “جيل كيبل مفككاً “الثورة الثقافية” للجيل الثالث من الجهاديين”، بتاريخ 21 نيسان/أبريل 2017، انظر الرابط.

[9]  صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب الهام عن دار الساقي. أنظر: أوليفيه روا، الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة، ترجمه صالح الأشمر، لندن، ط 1، 2012، وجاء في 341 صفحة من الحجم الكبير.

يتطرق المؤلف لتفاعل الديانات التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، ومعها العقائد الوضعية، مع ثنائية العولمة والأصولية.

[10]  في هذا السياق، نقرأ خلفية نشر صحيفة “الاتحاد الاشتراكي” المغربية، ترجمات العديد من أعمال فرانسوا بورغا، في الملاحق الرمضانية أو الصيفية.

[11]  في هذا السياق، سوف نُعاين أن التعريف بأعمال فرانسوا بورغا، نعاينه على الخصوص في منابر إعلامية إسلامية حركية أو محسوبة على هذه المرجعية.

[12]  والأمر سيان مع السائد في باقي المجالات التداولية الأوروبية والأمريكية.

تحميل المادة بصيغة PDF: الرابط (64 تنزيلات)

0 تعليق 1245 قراءة كلمات مفتاحية : التيارات السياسية الإسلامية أوليفيه روا فرانسوا بورغا الظاهرة الإسلامية المعارضة المشتتة التقوقع الطائفي الإسلاموية

منتصر حمادة

باحث في الشأن الديني. منسق تقرير “حالة الدين والتدين في المغرب”، الصادر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث. الرباط؛

رئيس تحرير مجلة “أفكار”؛

عناوين بعض الإصدارات: “في نقد تنظيم القاعدة: مساهمة في دحض أطروحات الحركات الإسلامية الجهادية”، 2010؛ “زمن الصراع على الإسلام”، 2011؛ “الوهابية في المغرب”، 2012؛ “في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجاً”، 2014.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى