صفحات مميزةنجيب جورج عوض

فهم الخارج بدلالة الداخل: باراك أوباما والمأساة السورية/ نجيب جورج عوض

 

 

حين وصل باراك أوباما لسدة الرئاسة الأميركية، تفاءلت بوصوله الغالبية العظمى من الشارع العربي، ورأوا في شخصه صورة قائد عالمي منفتح على العالم الإسلامي، يشجع الدبلوماسية النشطة والإيجابية مع العالم العربي، ويؤمن بكل ما يحلم الجيل العربي الجديد بتحقيقه في العالم العربي. ولكن، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وبخاصة مع اندلاع الثورة في سوريا، ومن ثم تحول المشهد السوري إلى مأساة دامية ومدمرة، بدأت أسهم الرئيس الأميركي تنخفض بشدة في المنطقة وبين السوريين بشكل خاص. فلا المؤيدون لنظام الأسد ولا المؤيدون للثورة السورية توانوا عن التعبير عن سخطهم عليه وخيبة أملهم العميقة مما اعتبروه لامبالاة وضعفاً ونفاقاً من قبله تجاه الشعب السوري، وتجاه المسألة السورية برمتها. تحول «أبو حسين» (كما يسمى أوباما على صفحات الانترنت) من صديق للعرب والإسلام، إلى عدو السوريين وخيبة أملهم الأولى والكبرى.

كي نفهم تحولات سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما حول المأساة السورية ومواقفه التي تبدو متناقضة تماماً ومخيبة بعمق للآمال السورية والأميركية على حد سواء، علينا في الواقع أن نقرأ تلك التحولات في إطار السياق الداخلي الأميركي في الحقيقة، قبل أن نراه بدلالة الظروف والمعطيات المتعلقة بسوريا والمنطقة نفسها. مر الموقف الأوبامي المذكور بثلاث مراحل تأثرت بعمق بمعطيات أميركية سياسية صرفة هي التالية:

1 – المرحلة الأولى من موقف أوباما تأثرت كثيراً، وبشكل أعمق بكثير مما يمكن للعقل العربي أن يتصور، بمنح باراك أوباما لجائزة نوبل للسلام مع بداية فترة رئاسته الأولى. لم يكد أوباما يصل إلى موقع الرئاسة حتى منحته مؤسسة نوبل تلك الجائرة العالمية ذات الرمزية والدلالة العميقة، والتي لا يمكن لشخص آتٍ من خلفية أكاديمية مبدئية مثل باراك أوباما، إلا أن يتعامل معها بمسؤولية عالية جداً وأن يشعر أنه مطلوب منه الآن أن يصير رسول وحامي السلام واللاعنف واللاحرب في العالم. مُنِحَ أوباما جائزة نوبل للسلام وهو بالكاد يبدأً فترة عمله لخدمة أميركا والعالم، أي من دون أن يقوم بأي عمل حقيقي يجعله يستحق الجائزة. شعر أوباما النزيه والأخلاقي والمبدئي بامتياز بهذا الواقع. وقرر أن يلتزم بمواقف سلمية ويشجع سياسة ودبلوماسية السلام في أميركا والعالم، على أمل أن يقنع الراي العام الأميركي والعالمي بأنه استحق الجائزة، بدلالة المفعول الرجعي لسياساته التي اتخذها بعد الحصول على الجائزة. قيدت جائزة نوبل باراك أوباما ومنعته من التصرف كأي رئيس أميركي آخر قبله، يتوقع منه الشارع الأميركي أن يكون قائداً للعالم وشرطياً عليه، مع كل ما يتطلبه هذا من استعداد لأخذ قرار الحرب والقبضة الحديدية فوراً ومن دون تردد. منعت طبيعة الاستحقاق النوبلي أوباما من ممارسة دور «الرئيس-الجنرال» الذي يحلم كل أميركي يحق له الترشح لرئاسة أميركا بلعبه أمام الأميركيين والعالم. رفض أوباما هذه الصورة وصدق بعمق أنه مدعو الآن ليكون رئيس السلام والسلم والسياسة الدبلوماسية الهادئة والمسالمة في العالم. قيدت جائزة نوبل أوباما سيكولوجياً وجعلته يحلم بترك إرث رئاسي غير واقعي، وغير متاح له أن يعيش في سياق الفكر الأميركي السياسي. لهذا، ما كان ممكناً أبداً أن تتوقع من أوباما الوقوف وراء أي عمل عسكري أو وراء أي قرار استخدام القوة في وجه نظام الأسد في سوريا أو في وجه أي نظام آخر. «رسول السلام» آمن بأن عليه أن يشجع الأطراف المتصارعة على الحوار والتوافق. ولهذا أيضاً رفض الوقوف وراء الموقف الإسرائيلي العسكري ضد إيران واختار طريق الحوار السلمي معها. 2 – المرحلة الثانية من موقف أوباما من المشهد السوري والمشهد العربي العام المسمى «الربيع العربي» تأثرت بعمق بالواقع الاقتصادي الأميركي. جاء أوباما إلى الرئاسة الأميركية في ذروة ما يمكن تسميته بالحرب العالمية الاقتصادية. جاء أوباما رئيساً على بلد غارق في ديون وظاهرة إفلاس واسعة النطاق ونسبة عطالة عن العمل لم تشهدها أميركا من قبل وخسارة الشركات الأميركية لمواقع نفوذها في الساحة المالية والاقتصادية لصالح شركات هندية وصينية وخليجية. أدرك أوباما أن عليه كرئيس أن يتفرغ لمعارك اقتصادية لا معارك عسكرية وسياسية في العالم. لهذا، ركز جهوده الدبلوماسية على عملية تدعيم القوة الأميركية الاقتصادية (التي تعرضت لهزة عميقة وبنيوية في السنوات القليلة السابقة لرئاسته) في وجه قوى اقتصادية عالمية متنامية ومتصاعدة وعلى وشك فرض سيادتها على القرية العولمية الاقتصادية. أعتقد أوباما أن جزءاً من حربه الاقتصادية تلك أن يعمل على إعادة العافية للاقتصاد الأميركي، المتهالك داخلياً، بمحاولة تخفيض نفقات الحروب وميزانيات الجيوش الأميركية الموزعة على سطح الكوكب، من خلال سحب تلك الجيوش وإعادتها للوطن، ومن خلال تخفيض نفقاتها، عن طريق الامتناع عن التورط في أي عمل عسكري أو حربي من شأنه أن يكبد الخزينة الأميركية نفقات إضافية تؤثر سلباً على الدورة الاقتصادية العامة داخل البلد، المتداعية والمتهالكة أصلاً. بدت استراتيجيته على المستوى الاقتصادي سياسة التدخل والإدارة المباشرة والدائمة للمصالح الأميركية الاقتصادية، بعكس سياسته الخارجية العسكرية والاستراتيجية والتي قامت على مبدأ الإدارة عن بعد والإدارة بالوكالة من خلال حلفاء أميركا وعملائها في مواقع النزاع المباشر (لهذا تم تسليم ملف سوريا في تلك المرحلة للشريكين القطري والتركي وعميلهما الإخوان المسلمون) من هنا، بات آخر شيء يمكن لأوباما أن يفكر فيه هو في الحقيقة توريط الجيوش الأميركية في أي عمليات عسكرية أو لوجستية أو استخبارية أو عملياتية أو ميدانية في المستنقع السوري أو في أي مكان آخر من بلدان الربيع العربي، منعاً لأي تبعات اقتصادية غير محمودة يمكن أن تلقي بتأثيرها السلبي على الداخل الأميركي. لهذا السبب قبل سواه لم يدخل أوباما في عملية ضرب للنظام السوري بسبب جريمة استخدامه للسلاح الكيماوي، مع أن الرئيس وصف هذا العمل المجرم بأنه تجاوز للخطوط الحمر.

3- المرحلة الثالثة من سياسة أوباما حيال سوريا والمنطقة هي التي نشهدها الآن. سنخطئ لو اعتقدنا أنَّ تحول أوباما فجأةً من رئيس سلام إلى رئيس يأمر قواته الجوية بضرب داعش ويتحالف في ائتلاف عسكري يخوض حرباً يومية ومباشرة ضد الإرهاب هو دليل تغير نتج عن معطيات خارجية تتعلق بالمنطقة بحد ذاتها. في الواقع كل المؤشرات تدل على أن التغيير في الأسلوب (وليس في الرؤية) نتج عن معطيات تتعلق بعمق بالسياسة الأميركية الداخلية وبمتطلبات صراع القوى داخل أميركا. نجح الحزب الجمهوري في تشويه صورة أوباما الديموقراطي في الشارع الشعبي الأميركي، معتمداً في سياسته تلك على تقديم الرئيس الديموقراطي على أنه رئيس ضعيف، لا يأخذ قرارات شجاعة وحاسمة، وعلى أنه ليس بالقائد والمحارب وأنه غير أهل لقيادة العالم وحمايته عند الضرورة. تم تصوير إيمان أوباما بالسلام على أنه مؤشر ضعف شخصيته القيادية. وتم تصوير تركيز أوباما على الاقتصاد ومحاولته مواجهة الحرب الاقتصادية على أنها ذرائع لجأ إليها الرئيس، كي يخفي جهله بمتطلبات القيادة العسكرية وضعفه السياسي والدبلوماسي. قامت ماكينة الحزب الجمهوري الإعلامية والبرلمانية والسياسية والإدارية بعملية حرب ممنهجة ومنظمة، وفعالة جداً في الواقع، ضد شخص الرئيس وصورته بالتحديد، ووقفت حاجزاً صلباً أمام نجاحه في الحصول على موافقة الكونغرس والشارع العام الأميركي على برامجه الإصلاحية الاقتصادية والطبية والمالية والإدارية، ناهيك عن انتقاده بشكل دوري على ضعفه في السياسة الخارجية وعجزه الفادح عن اتخاذ قرارات حاسمة من شأنها (برأيي الجمهوريين) أن تنقذ العالم وتعيده لمساره الصحيح. بلغت نسبة شعبية الرئيس مؤخراً أسوأ درجاتها على الإطلاق وبات أوباما رئيساً غير شعبي باعتراف حلفائه قبل خصومه. أثرت تلك المعركة الداخلية الممنهجة والضروس لا على الرئيس فقط، بل على الحزب الديموقراطي وحظوظه بإيصال رئيس ديموقراطي جديد إلى سدة الرئاسة في الدورة الرئاسية المقبلة بعد سنتين. بات أوباما بشخصيته ورؤيته لنفسه كرئيس ولأولوياته عبئاً حقيقياً على حزبه قبل سواه، وبات مصدر تندر وانتقاد قواعد الحزب الديموقراطي الشعبية على امتداد الولايات الأميركية، حتى العريقة في ولائها للحزب الديمقراطي. في النهاية، يحب الشعب الأميركي، سواء الجمهوري أو الديموقراطي، أن يكون الرئيس الأميركي بطلاً وقائداً يثبت لهم من خلال قراراته الميدانية والعسكرية بأنه أولاً وأساساً «قائد شجاع وبطل حربي» قبل أن يجعلهم يعجبون به كرجل دولة وخادم للشعب. في ضوء هذا الضغط الشعبي الداخلي العام على الحزب الديموقراطي وحظوظه بالبقاء في سدة الرئاسة (ناهيك عن إمكانية خسارته لمقاعد أكثر مما خسر أصلاً في الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة هذه الأيام)، فرض الحزب المذكور على أوباما أن يبدأ بتغيير تلك الصورة في الشارع الأميركي بأن دفعه للقيام بخطوات هجومية وعسكرية واستعراض لقوته كقائد، من خلال دفعه للدخول في معركة ضد داعش في العراق وسوريا (هي على الأقل معركة حجمها ومدة تعميمها الإعلامي في أميركا يفوق بكثير حجمها الواقعي على الأرض. ولكن هذا جزء من اللعبة الأميركية التي يعرفها من يعيش في أميركا). وها نحن اليوم نرى الرئيس في الإعلام مجتمعاً بشكل مستمر مع قيادات عسكرية ومنخرطاً في مسألة التخطيط لمواجهة الإرهاب بكل الوسائل العسكرية المتاحة، ومعلناً عن قراره بدعم الجيش السوري الحر عسكرياً ولوجستياً هذه المرة، لا بل وانخراطه في مسألة تهيئة الأجواء لدخول بري محتمل إلى سوريا لتصفية داعش نهائياً. كما نراه يبتعد عن لغة الغزل المعلنة مع إيران، ويلوذ بالصمت الدبلوماسي حول الملف النووي. القناعة خلف هذا التغير هي أن على الرئيس الديموقراطي الحالي أن يستعيد تعاطف الشارع وثقته بالحزب الديموقراطي، من خلال استعادة صورة الرئيس التي يحبها الشارع الأميركي والتي يصوت لها عادةً في الانتخابات الرئاسية (لنتذكر أن الشعب الأميركي صوت لجورج بوش الابن لدورة رئاسية ثانية، برغم كل أخطاء الرئيس المذكور وعدم كفاءته الشخصية وفشل قراراته الاقتصادية، لمجرد أنه لعب دور القائد العسكري المحارب للإرهاب والحامي لأميركا منه).

لا أريد من العرض السابق أن أختزل الموقف الأميركي الأوبامي من المأساة السورية إلى مجرد عوامل ومعطيات داخلية أميركية صرفة. إلا أنني أقترح أنه لا يمكننا أن نفهم فعلاً تلك التحولات المتناقضة والمخيبة لأهل سوريا ولأهل المنطقة، إلا إذا ما قرأناها في سياقها الأساس والرئيس: سياق الداخل الأميركي ومعطيات ومتطلبات موازين القوى، ومشروطات النجاح والازدهار الأميركية أولاً وأساساً. في النهاية، أوباما (أو أي رئيس أميركي قبله أو بعده) هو رئيس أميركا وأميركا فقط، وهو لا يرسم مسار سياسته وأداءه على مؤشر واقع الشعب السوري أو الشعوب العربية. بل إن مصير تلك الشعوب وواقع بلدانها ومآلات ظروفها تُرسَم دوماً بدلالة الداخل الأميركي، وإرهاصات الساحة العامة الأميركية. ليس هذا بمشكلة الأميركي، بل هو مشكلتنا نحن العرب، الذين نصر على استيراد مصائرنا ومستقبلنا معلباً ومنتجاً لنا في الخارج.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى