صبحي حديديصفحات الناس

فوتوغرافيا الانتفاضة: توثيق البقاء/ صبحي حديدي

 

 

قبل ثلاث سنوات، إذا لم تخن الذاكرة، صادفتُ على «تويتر» صورة فوتوغرافية بديعة، ذات جاذبية جمالية وتكوينية عالية، من طراز يصحّ فيه الوصف العتيق: تخطف الأبصار. كانت مشهدية الصورة تلتقط ثمانية من مقاتلي «الجيش السوري الحرّ»، حين كان ذلك الجيش جديراً بتلك الصفة حقاً؛ يسيرون وسط حقل، طبيعي وبرّي، من أزهار شقائق النعمان، التي بدت وكأنها تتفجّر من باطن الأرض، فتصبغها بحمرة قانية طاغية، ونثار أقلّ من الأخضر.

أمّا العناصر الجمالية الأخرى، الجاذبة الخاطفة، فقد كان أوّلها أنّ المقاتلين (دون تخطيط من المصوّر، أغلب الظنّ) توزعوا على مجموعتين، في تشكيل عشوائي كما يلوح، لكنه اكتسب منطقه الهندسي التناسقي الخاص، في أنّ مقاتلاً كهلاً بدا (دون قصد من المصوّر هنا أيضاً) على الأرجح ـ يتوسط أربعة مقاتلين على يساره، وثلاثة على يمينه، بينهم مسافات متباعدة بحسبان.

العنصر الجمالي الثاني أنّ المصوّر شطر اللقطة، أفقياً، إلى كتلتين: السماء، وإليها تتطامن قامات المقاتلين بثيابهم المرقطة؛ والأرض، التي تنشق عن فيض من شقائق النعمان، حيث يخطو المقاتلون.

تلك الصورة التقطها المصوّر السوري الشاب خليل العشاوي، ابن مدينة دير الزور، وكان هاوياً حين وقّع تلك الصورة/ التحفة. ولن يطول الزمن حتى يلتحق بوكالة أنباء «رويترز»، وسينقل عشرات الشهادات عن الانتفاضة الشعبية في مختلف أطوارها، ومجازر النظام وحلفائه، ومشاهد النزوح والتهجير والتطهير العرقي، وأعمال الإغاثة البطولية، فضلاً عن تفاصيل الصمود والمقاومة والبقاء وحبّ الحياة، في الفيافي والقفار والبحار والمخيمات والمدارس، تحت القصف دائماً، وفي قلب الدمار والخراب. كذلك تميّز عشاوي بالبورتريهات الفردية في صفوف الأطفال خاصة، وبين إبداعاته صورة فاتنة للطفلة دعاء، 10 سنوات، التي منحت العدسة، والإنسانية جمعاء ربما، ابتسامة موناليزية بالغة العذوبة؛ رغم أنها كانت تقف على حاجز في بلدة الراعي، قرب حلب، فارّة مع أسرتها من همج «داعش».

وفي نيسان (أبريل) الماضي، أعلن «نادي أمريكا لصحافة ما وراء البحار» أنه منح «جائزة روبرت كابا الذهبية» إلى المصوّر السوري بسام خبية؛ لأنّ لقطاته عن الحياة اليومية في بلدة دوما، وخاصة تحت القصف وفي المستشفيات الميدانية، أظهرت مقدار المخاطر التي يتعرّض لها الصحافي، والمصوّر خاصة، في تغطية واحدة من أصعب مواقع الخبر في العالم. ومن المعروف أنّ هذه الجائزة، التي تُمنح لـ»التغطية الإخبارية من الخارج، وتتطلب شجاعة ومشاركة استثنائيتين»، تنتسب بالاسم إلى الهنغاري كابرا، أحد أشهر المصوّرين الصحافيين في التاريخ الحديث؛ والذي غطى صعود هتلر، والحرب الأهلية الإسبانية، والحرب العالمية الثانية، والحرب الصينية ـ اليايانية، والحرب في الهند الصينية… وكان في وسع النادي الأمريكي أن يطري، من جانب آخر، انفراد خبية بالتقاط عشرات الصور للضربة الكيميائية ضدّ الغوطة، آب (أغسطس) 2014؛ ليس في ما يخصّ تسجيل تفاصيل مريعة حول الشهداء والمصابين والجثث التي عُثر عليها في العراء، بعدئذ (بلدة عين ترما في الغوطة الشرقية، مثلاً)، فحسب؛ بل كذلك، وبما لا يقلّ أهمية في يقيني، توثيق سلسلة من أنساق السلوك، وردود الأفعال (الرعب، الانذهال، الارتياع، التيقظ في قلب الغيبوبة، وعي الصدمة/ صدمة الوعي، الغضب، الحقد، حسّ البقاء، عنفوان الوجود…)، التي تبدت على الوجوه، وعكستها لغة الأجساد.

وقبل أيام قليلة أعلنت أسبوعية «تايم» الأمريكية أنها اختارت السوري محمد بدرة، 26 سنة، ابن بلدة دوما، كأفضل مصوّر إخباري للعام 2016؛ بسبب «وجدانه، وأهمية عمله، ومهارته، والتزامه الذي لم يكلّ في وجه المشاقّ»؛ وهو «سليل عائلة تشرذمت بفعل الحرب، صرف العام وهو يسدّل شهادته على الفظائع الرهيبة وأثرها على الجماعات».

كذلك شدّد تحرير «تايم» على السمات التي ميّزت المصورين السوريين، الهواة في الغالب، الذين «صار عملهم تاريخياً، لأنّ لقطاتهم باتت تخدم كأدلّة»؛ رغم المصاعب الخرافية التي يجابهونها، ورغم اعتمادهم على أدوات تصوير محدودة الإمكانيات، قد تقتصر أحياناً على الهاتف الشخصي المحمول، وتعتمد في التناقل والإيصال على وسائل التواصل الاجتماعي بصفة حصرية أحياناً.

والنماذج التي اختارتها «تايم»، لتمثيل عمل بدرة، تراوحت بين توثيق الخراب والبقاء في شروطه الجحيمية، وتسجيل نبض الحياة اليومية، والحفر (ربما على غرار النبش، حرفياً) في ركام وأطلال القصف البربري، والغوص عميقاً في الوجوه والأبدان والأعضاء المبتورة؛ وفي هذا كلّه لم تميّز عدسة بدرة بين الشارع والبناية وروضة الأطفال والمدرسة والمسجد والمقبرة، فالمكان هنا هو، ببساطة، روح ذاته، أو روح بلدة دوما كما تختزل حاضر سوريا تحت سنابك الهمج الجدد.

تبقى إشارة ضرورية إلى أنّ أياً من هؤلاء الثلاثة، عشاوي وخبية وبدرة، لم يكن في الأصل مصوراً محترفاً؛ كما أنّ أياً منهم لم يبدأ من هواية التصوير في ذاتها، بل حثّه دافع التوثيق، وساقته مسؤولية التسجيل، إلى تطوير مهارات سرعان ما ارتقت وتطورت وصارت محطّ إعجاب، وحاملة جوائز رفيعة.

وفي هذا بعض إعجاز الانتفاضة الشعبية السورية، وشيء من معنى البقاء العبقري؛ في وجه الطغاة والغزاة ومجرمي الحرب، وفي إسار الجحيم.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى