صبحي حديديصفحات مميزة

فورد والسياسة الأمريكية في سوريا: كم مرّة سيُقلب المعطف؟/ صبحي حديدي

 

في آذار (مارس) 2013، كان روبرت فورد سفير الولايات المتحدة إلى النظام السوري، ومبعوث وزارة الخارجية إلى مؤسسات المعارضة السورية الرسمية؛ ولهذا فقد كان طبيعياً، ومنطقياً بالطبع، ان ينزّه سياسات بلاده ـ عموماً، في المنطقة؛ وبصدد الملفّ السوري، بصفة خاصة ـ من كلّ خطأ أو زلل أو تقصير. «علّی أن أكون صريحاً جداً مع أصدقائي فی المعارضة السورية، إذا قرر الرئيس أوباما غداً أنّ سقوط 146 ألف قتيل، أو أي عدد آخر، بات كافياً ويتخذ قراراً حول ضربة عسكرية، ماذا سيحدث الأسبوع المقبل؟ هل لدى المعارضة السورية تصور حول من سيتولى أي مناصب لإدارة الدولة، وما الإجراءات الضرورية لحماية الشعب وتوفير الأمن وتقديم الضمانات للأقليات؟»، صرّح فورد.

كذلك فإنّ المعارضة «لم تستطع أبداً أن تفرّق بين ما تمثّله هي وما يمثّله تنظيم «القاعدة». لفترة طويلة جداً، لم ينتقدوا حتى «القاعدة»، وحتى الآن لا ينتقدون «جبهة النصرة». ولنكن صريحين، نعرف ما هی جبهة النصرة، وقد دخل عناصرها مناطق وقتلوا مدنيين من الأقليات الطائفية ويجب إدانة ذلك».

في حزيران (يونيو) 2014، بات فورد «مواطناً أمريكياً عادياً»، حسب توصيف ماري هوف، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية؛ ولهذا، صار من حقه أن يصرّح بما يشاء ويعتقد، خارج أيّ رادع وظيفي. إلى درجة قلب المعطف تماماً، وارتدائه من القفا؟ نعم، كما تقول تصريحاته الأخيرة: الولايات المتحدة ترددت في دعم المعارضة المعتدلة في سوريا، والسياسية الأمريكية لم تتطور، حتى أنّ فورد بلغ «الحدّ الذي لا يمكنه فيه بعد الآن الدفاع عنها علانية»، وكان على واشنطن أن تفعل المزيد وتبادر منذ وقت طويل بمساعدة المعتدلين في صفوف المعارضة السورية؛ و«لو فعلنا ذلك قبل عامين، لما استطاعت جماعات ‘القاعدة’، التي تكسب أتباعاً، أن تنافس المعتدلين الذين نتفق معهم في الكثير من الأمور»؛ مع التأكيد، من جانب فورد دائماً، على أنّ روسيا وإيران و«حزب الله» ظلت، في غضون ذلك، تواصل زيادة مساعداتها لنظام بشار الأسد، بدرجات كبيرة بلغت مستوى القتال إلى جانبه.

والحال أنّ هذا التطوّر في «عقيدة» فورد، إذا جاز اعتباره كذلك، يذكّر بنقلة أخرى لعلها الأكثر دراماتيكة، على امتداد سجلّه الدبلوماسي، وربما الشخصي، الحافل: الزيارة التي قام بها إلى مدينة حماة، مطلع تموز (يوليو) 2011. ولعلّ المرء لا يبالغ إذا منح تلك النقلة مكانة خاصة في أرشيف العلاقات بين الولايات المتحدة ونظام «الحركة التصحيحية»، على امتداد 30 سنة من حكم حافظ الأسد، و11 سنة من حكم وريثه بشار الأسد. مكانة دراماتيكية، كما يتوجب القول، ليس بمعنى أنها أضافت أيّ تبدّل حاسم ونوعي على مسارات تلك العلاقة (وهي، بالفعل، سلسلة مسارات متغايرة، ولم تكن متجانسة على الدوام)؛ بل بمعنى الدراما التي تستدعي المسرح والمسرحة، كلٌّ على خشبته: في واشنطن ودمشق على حدّ سواء، وكلٌّ على طرائقه، واستناداً إلى ما يريد إرساله من إشارات.

ورحلة السفير إلى حماة اختارت توقيت «جمعة لا حوار»، حيث شهدت ساحة العاصي مشاركة مئات الآلاف. ولعلّ رمزية غضب النظام، ومثلها رمزية ابتهاج الخارجية الأمريكية، كانت تكمن في هذا التفصيل المباشر، أي المبيت في فندق يطلّ على الساحة، وتثبيت شهادة عيان على هذه الجمعة تحديداً؛ قبل الرمزية الأخرى الأكبر، التي تنبثق من موقع حماة الخاصّ، سواء في تاريخ الاستبداد السوري، أو صمت واشنطن على ذلك الاستبداد. ما لم يكن متفقاً عليه، كما اتضح لاحقاً، أن تأخذ ردود أفعال الطرفين، في واشنطن ودمشق، ذلك المستوى من حدّة التراشق اللفظي (خارجية النظام اتهمت واشنطن بـ«التورط» في الحركة الاحتجاجية و«التحريض على التصعيد»، والناطقة باسم الخارجية الأمريكية ردّت بأنّ هذه الاتهامات «قمامة صرفة»). ومن المشروع التفكير بأن تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما (أنّ الأسد «فقد شرعيته. وقد ضيّع الفرصة تلو الفرصة لتقديم جدول أعمال حقيقي للإصلاح»)؛ استهدف تهدئة اللغة، أو بالأحرى ضبط مفرداتها عند المعدّل الذي كان يمثّل خطّ واشنطن تجاه النظام السوري.

لماذا ذهب السفير فورد إلى حماة، إذاً، وهل كانت زيارته مقدّمة لنقلة نوعية في السياسة؟ كلا، في الإجابة على الشطر الثاني، لأنّ أية نقلة نوعية هي رهن بما تحققه الانتفاضة السورية من انتصارات، وما تسجّله من علائم ملموسة على طريق تقويض نظام «الحركة التصحيحة»؛ والموقف الأمريكي سيكون عندها بمثابة انحناءة أمام قوّة الواقع، موضوعية وقسرية لا منّة فيها ولا فضيلة، تماماً كما كانت حال واشنطن في تونس ومصر. وهكذا ينبغي أن يُفهم تصريح أوباما، حين سُئل عن السبب في أنه لم يطالب صراحة بتنحّي الأسد: «الشعب السوري سيكون، ويجب أن يكون، قادرًا على تقرير مستقبله بنفسه، وهناك حقاً توافق متزايد بين الشعب السوري على أنه يجب أن يحدث هذا التحوّل، وأن الرئيس الأسد لن يقود هذا التحول».

أمّا الإجابة عن الشطر الأوّل فهي أنّ مكوث الإدارة على هذا الموقف، أي الدعم اللفظي لمطامح الشعب السوري والمراهنة الضمنية على إمكانية بقاء نظام «الحركة التصحيحية» وإجراء «إصلاحات» داخلية تجميلية هنا وهناك؛ كان يتطلب شحنة من الدراما لإقناع الرأي العام الأمريكي والدولي بأنّ واشنطن لم تعد صديقة الطغاة والطغيان. كذلك اقتضى الحال اللجوء إلى بعض السلوك المسرحي في مخاطبة الشارع الشعبي السوري، الأمر الذي كان يشمل النظام وشارعه المؤيد أيضاً، وكان يدخل في باب الضغط الشكلاني على السلطة، والبحث عن «رمزية» ما، هنا وهناك، تُشبع اللفظ والبلاغة الجوفاء.

لقد اضطرّ السفير، في كلمته ألقاها أمام الحشود، إلى امتداح متظاهري حماة، وأطلق على أفراد الأمن صفة «السفاحين»، كما نفى أنه أبصر «علامات على وجود أي عصابات مسلحة في أي مكان» مرّ به خلال زيارته الحموية؛ لكنه تفادى الحديث عن سجلّ بلاده الأسود في الموقف من مجزرة المدينة، سنة 1982. آنذاك، ظلّت الأقمار الصناعية الأمريكية ترصد دقائق الدمار الذي تعرّضت له المدينة، وتتابع كلّ طلعة طيران، وكلّ تحليق حوّامة، وكلّ قذيفة من دبابة أو من مدفع ثقيل؛ لكنّ لسان حال الإدارة، أيام رونالد ريغان دون سواه، التزم «الصمت البنّاء» حيال المجزرة، ودمدم بعض مسؤولي الإدارة حول سقوط عدد من الضحايا يقلّ عن الألف، حين كانت الأعداد تتجاوز الـ 20 ألفاً!

ولعلّ الحظر الذي كسره فورد، اليوم، فانتقد سياسات بلاده، وكان قبل أشهر مدافعاً شرساً عنها، ينبثق بدوره من «رمزية» طارئة، دراماتيكية بدورها في ناظر السفير السابق: لا القصف بصواريخ «سكود»، ولا بالقاذفات المقاتلة والبراميل المتفجرة، ولا الهجمات بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة، ولا 165 ألف شهيد… بل، أغلب الظنّ، هذه المهزلة الأخيرة، الأشدّ ابتذالاً وفجوراً وقحة وبذاءة، التي يسير فورد على نهج نظام الأسد، فيسمّيها «انتخابات». وكما في تموز/يوليو 2011، وآذار/مارس 2013، وحزيران/يونيو 2014… ظلّ فورد يقلب المعطف تلو الآخر، ويتنقل من خشبة مسرحية ركيكة إلى أخرى أكثر ركاكة، مقتفياً في ذلك أثر سياسات بلاده، قبلئذ وبعدئذ؛ وهكذا سيظلّ، وأمثاله، حتى يتولى الشعب السوري القول الفصل، ويُسدل الستار على الطغاة والمنافقين، سواء بسواء.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى