مراجعات كتب

فوكو متجولاً في شوارع بغداد وأصفهان عن العقاب والمجتمع في القرون الوسطى الإسلامية/ محمد تركي الربيعو

 

 

في سياق تحليله لتاريخ العقوبات داخل فرنسا، سعى فوكو إلى القول بأن الإعدام العلني الذي كانت تمارسه السلطات المحلية قبيل القرن التاسع عشر، لم يكن يهدف بالأساس إلى إعادة ترسيخ العدل داخل المجال العام، بمقدار ما كان يهدف إلى إعادة تنشيط السلطة. كما بقي الغموض يكتنف الدور الذي يؤديه المشاهدون لإعادة تشريع القوة هذه، فهم من ناحية أولى كانوا شهوداً سلبيين، لا بل مشاركين في طقوس العقاب العلني التي كانت تجريها السلطات آنذاك، إذ كثيراً ما كانوا يقومون بشتم المعاقبين وصفعهم ومهاجمتهم أيضاً، ومن جهة أخرى وفر المشهد الطقوسي العلني أيضاً بذوراً للمقاومة لبعض المشاهدين، عبر رفض بعضهم حضور العقوبات العلنية أو حتى متابعتها كإشارة إلى الامتعاض من العقوبات.

شكل التحليل الفوكودي السابق لطقوس العقاب العلني في أوروبا، مدخلاً ابستمولوجياً جديداً لعدد من المؤرخين والباحثين المنشغلين بقراءة تاريخ السلطة والعقاب داخل الحياة اليومية للمجتمعات المسلمة التاريخية والحديثة، وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى أطروحة الباحث الألماني في الدراسات الإسلامية كريستان لانغ، التي ترجمت مؤخراً للعربية عن دار المدار الإسلامي تحت عنوان «العدالة والعقاب في المتخيل الإسلامي خلال القرون الوسطى» ترجمة رياض الميلادي. إذ نلحظ في هذه الأطروحة محاولة من لانغ لتوظيف فكرة فوكو السابقة، لدراسة تاريخ إدارة العقاب داخل المجتمع الإسلامي في زمن حكم السلاجقة للعراق وفارس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، التي مثلت مرحلة تكوينية مهمة في حياة المدينة الإسلامية. فمع تدفق السلاجقة البدو نحو خراسان (1040) والعراق (1055)، تمكنت طبقة عسكرية تركية من اعتلاء السلطة بعد مدة من انعدام النظام، في ظل ضعف مركز الخلافة العباسي، وقد أدى هذا التحول في مشهد الحكم (السلطة المؤقتة للسلطان إزاء الخليفة) حسب روي متحدة أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، إلى أن يعيش الحكام المؤقتون في الإسلام تحت ضغط متزايد لتأكيد أحقيتهم بالسلطة أمام أنفسهم وأمام الرعية أيضاً، ومن هنا كانت مشاهد العقاب والتشهير العلني التي مارسها السلاجقة بشكل كبير، تستهدف تحويل تجربة «الألم الحقيقي» والعقاب إلى «وهم القوة». ففي مثل تلك الظروف السياسية التي عرفها السلاجقة، إذ كانت السلطة محل نزاع مستمر، يمكن أن يكون التعذيب العلني سنداً حقيقياً لادعاء السلطة، سواء أكان الادعاء بحق أم بباطل. بيد أنه وفي ظل هذا التوظيف السياسي لطقوس العقاب (وكما أشار فوكو) فإن الرعية السلجوقية – حسب لانغ – كثيراً ما عبرت عن امتعاضها من المبالغة في طقوسية مشهد العقاب، وهو ما دفعها مرات عديدة إلى التعبير عن هذا الامتعاض بشكل غير مباشر، كما في حالة فقهاء الحنفية الذين سعوا إلى إيجاد مجال من الحرية الفردية إزاء العقاب التعسفي، عبر التأكيد على حرمة جسد الإنسان وحرمة الحياة الخاصة داخل المجتمع السلجوقي.

سياسات العقاب:

يمثل العقاب مفهوماً واسعاً يشير إلى ممارسات اجتماعية متنوعة. ولتفكيك أشكال العقاب المتعددة داخل المجتمع السلجوقي، يقترح علينا لانغ التمييز بينها وفقاً للفضاءات المكانية أو الميادين التي يجري فيها العقاب. فقد نفذت دولة السلاجقة العقوبات في ثلاثة ميادين، أولها المسكن الخاص بالحاكم وهو البلاط أو داخل القصور. أما الميدان الثاني فهو المكان شبه الخاص وشبه الرسمي للحاكم وهو محكمة الجرائم والمحكمة العسكرية، وأخيراً شكلت الفضاءات العامة المدينية ميداناً ثالثاً تطبق فيه العقوبات.

ويسجل التاريخ المتعلق بمرحلة السلاجقة عدداً كبيراً من الحالات التي أعدم فيها الحاكم أو نائبه أفراداً آخرين من الطبقات الحاكمة في السجون الداخلية للقصر، كما في حالة إعدام عميد الدولة محمد بن جهير وزير الخليفة المستظهر (حكم بين عامي 1094 و1118). وإجمالاً يمكن القول – حسب لانغ- أن النخب الحاكمة كانت تتمتع باستقلال كامل في تأديب أفرادها «الذين يعرفون بالخواص» باعتبار مشاركتهم في أمور الحكم، كما كان ثمة ميل إلى الحكم سراً في الجرائم التي تحدث داخل البلاط ماعدا الحالة التي يطرد فيها الجاني من البلاط. وفيما يتعلق بالميدان الثاني المتمثل بمحكمة الجرائم الجزائية التي تقع بشكل وسطي فيما بين المجال الخاص بالطبقة السلجوقية الحاكمة والميادين العامة للمدينة، تروي كتب التاريخ في عدة مناسبات أن الناس كانوا يعاقبون «أمام الحاكم» أو «يُجلَبون أمام السلطان» ثم يضربون أو يقتلون أو يعدمون تحت رايته. ويعد العلم أو الراية رمزاً للقوة والعدل بامتياز، كما كان ينظر إلى الفضاء المواجه لعرش السلطان بوصفه فضاء للتحول، فضاء يجتمع فيه العدل الدنيوي والعدل الأزلي، وتوجد فيه على الدوام إمكانية حقيقية لأن ينقل أحدهم من عالم إلى آخر.

أما الفضاء الثالث لتنفيذ العقاب فتمثّل في الميادين العامة للمدينة‘ إذ جرى تنفيذ العقوبة في المدينة في أماكن مفتوحة ذات معان رمزية واستراتيجية، كما اهتمت السلطات الحاكمة بتوزيع العقوبات على نحو عادل في جميع أرجاء المدينة محاولةً السيطرة بصرياً على المشهد الحضري. ففي سنة 1164 أعدم أفراد مجموعة من اللصوص في خمسة أماكن مختلفة شرق بغداد في اليوم نفسه. ووفقاً للمؤلف فإن إشهار القسوة والعقاب داخل المجال العام، كان يعد أمراً جيداً للحفاظ على هيبة السلطة الملكية بفضل ما تعنيه من تهديد وإكراه، وهو الأمر الذي تؤكده سجلات السلاجقة المعروفة بـ»عتبة الكتبة» التي أنتجها مكتب سجلات السلطان السلجوقي سنجر في مرو، إذ تقول: «تكمن هيبة الملك في تنفيذ العقاب». أما عن أشكال العقوبات فقد انقسمت عند السلاجقة إلى أربعة أصناف هي: الإعدام والعقوبات الجسدية، والسجن والنفي، والتشهير المُذّل.

ووفقاً للمؤلف، لم يذكر تنفيذ الإعدام العلني بالسيف بكثرة في تاريخ السلاجقة، إلا أن العقاب صلباً تكرر ذكره في تاريخ السلاجقة، ويتمثل الصلب في تثبيت شخص ما على جذع أو عمود من الخشب، وينزل المذنب بعدها إلى الأرض. وقد كانت عقوبة الصلب تمارس بحق المجرمين والأشخاص المتهمين بانتسابهم إلى الباطنية. وعلى العموم، يعد الصلب فعلاً علنياً بامتياز، فهو يكون على أبواب المدينة وفي تقاطع أهم الشوارع والأسواق، وفي الميادين المفتوحة وأيضاً على ضفاف الأنهار، أي أنه استهدف تخويف العامة وترويعها.

وعلى الرغم من أن النار (استناداً إلى حديث نبوي مشهور) تمثّل عقاباً لا يمكن تنفيذه إلا في الآخرة؛ إلاّ أن الإحراق على الخشبة كان طريقة معروفة في زمن السلاجقة، إذ أُحرق الكثير من الناس بوضعهم في أخاديد أُوقدت فيها النيران. وفي بعض الأحيان أُحرق المحكوم عليه بعد قتله، كما يتكرر في المصادر التي تعود إلى العهد السلجوقي ذكر عقوبة التشهير، وتتمثل في الطواف المذِّل بالمذنب في أرجاء المدينة على ظهر حمار أو بقرة أو جمل، في جميع أحيائها، مروراً بقصر السلطان وداخل الأسواق ويكون رأس الجاني عارياً بطريقة مخزية ووجه مسوّدا بالفحم أو السخام. أما بخصوص السجن، فإن ما يسجله لانغ في هذا الصدد هو أن الحبس التأديبي كان عقوبة عاناها البسطاء من الناس والأقوياء منهم أيضاً، وفي مرات عديدة كثيراً ما جُعِل المحبوسون يستجدون الصدقات في الشوارع كفعل من أفعال التشهير أيضاً.

جغرافية الجحيم والمتخيل الآخروي

ما يثير اهتمام لانغ أيضاً، هو أنه في موازاة بعض الأشكال الجديدة من العقاب، كان المجتمع السلجوقي يشهد اهتماماً لافتاً بمسألة المتخيل الإسلامي لجهنم ولأشكال العقاب داخلها. ورغم أنه يمكن تفسير الخوف من العقاب ومن النار إلى حد ما بالنزعة الزهدية في الإسلام بالأساس، فإن الميل إلى محاسبة النفس والشك فيها واتهامها ظاهرة حاضرة في الإسلام منذ القدم، إلا أن لانغ يرى أنه لا يمكن اختزال الأدبيات الأخروية بدافع الزهد والخوف، إذ أسهمت برأيه عوامل أخرى في ازدياد الأحاديث بشأن يوم الحساب والنار والعقوبات فيه. هذه العوامل لا يمكن اكتشافها – حسب المؤلف– إلا من خلال دراسة جغرافية جهنم وتضاريسها وكذلك المقيمين فيها والطرائق التي يعاقبون بها. وفي هذا السياق فإن ما لفت نظر المؤلف خلال حرتقاته لجغرافية الجحيم (خصص لها 120 صفحة من400 صفحة) هو أن المتخيل الأخروي للفقهاء المسلمين لم يستطع أن يقاوم إغراء مماثلة ومقايسة بعض أشكال العقاب في جهنم، بأشكال العقاب السائدة في حياتهم.

فالقصة التي نقلها ابن الجوزي في تاريخه عن سنة 1136، وفيها أن امرأة مسلمة أُمر بإحراقها «وكانت مستحسنة، في ساحة المسجد الجامع ببغداد، فجيء بحلة من قصب وجُعلت المرأة فيها، وضربها النفّاط بالنار فاحترقت الحلة وخرجت المرأة هاربة عريانة، فعفي عنها»، ويختم ابن الجوزي خبره بالقول: «وقد نالها بعض الحريق»، أي أن هذه المرأة تشبه في الحقيقة أولئك الذين غادروا النار في الأحاديث الأخروية وأُلقِي بهم بعد ذلك في نهر الحياة لينظفهم أهل الجنة من علامات النار السود. وفي إحدى الصور نجد في جهنم حجارة من نار تقع على رؤوس المذنبين الممارسين لفعل اللواط فتسحق رؤوسهم. كما يدفع باللوطي على حمل ذكره والسير فوق الصراط ليتعثر ويسقط في أصل الجحيم؛ وهذا يذكر بالطريقة التي يعدم بها المدانون باللواط في القرون الوسطى الإسلامية عبر إلقائهم من أعلى المنائر ليلقوا حتفهم. وعبر هذه المقارنة، يستنتج لانغ أن هذه التشابهات كانت على الأرجح تعين على غرس فكرة النظام الحاضر في عالم كان ليبدو في حالة فوضى وعنف لا يطاق لولاها. من هنا فإن جزءاً من الأدب الأخروي في تلك الفترة كان يعكس حقاً بعض علاقات السلطة، فزيادة على الجوانب النفسية –الزهدية للأخرويات الإسلامية، نحن بصدد ما يمكن وسمه بالأبعاد الوظيفية المحسوسة لهذه الأدبيات الأخروية. ولتوضيح فكرته بشكل أدق حيال النقطة الأخيرة يستعين المؤلف بآراء الباحثة المتخصصة في دراسة الطقوس كاثرين بيل (التي ناقشت تحليلات فوكو لحالة الإعدام العلني لقاتل الملك داميان سنة 1757)؛ إذ ترى بيل أن العقاب العمومي الذي يشبه المأساة الأخروية (كما في حالات التطابق بين جهنم والعقوبات السلجوقية) إنما يهدف إلى وضع حدود أو تعريفات جديدة لطبيعة العلاقة بين الراعي ورعيته «فمن خلال الطقوس، يثبت الذين يتمتعون بالسلطة أن مصالحهم تندرج في نظام للأشياء طبيعي أو واقعي أو مفيد. وحين يكون للمتخيل الرمزي وللعمليات البنيوية للطقس السياسي فاعلية، يكون بوسعها (السلطة) تحويل ما هو اعتباطي وعرفي إلى ما يشبه أن يكون ضرورياً وطبيعياً».

وقياساً على استنتاجات بيل، يرى لانغ أن الأعراف الأخروية المستعملة في طقوس العقاب الدنيوية كانت تهدف إلى الإيحاء بأن ممارسة السلطة القضائية تندرج في ما هو طبيعي وواقعي ومفيد من نظام الأشياء، فيكتسب العقاب شيئاً من «القداسة». وبذلك يحوّل الاستعمال الاعتباطي والمفرط للعقاب إلى ما يشبه الإجراء الضروري والطبيعي للعدالة، كما يغدو عقاب السلطة عقاباً مقدساً وليس عقاباً دنيوياً، وهذا ما يكسبها شرعية إضافية.

تمرد الحنفية:

ويشير لانغ إلى ضرورة عدم الاقتناع ببساطة أن الجمهور الإسلامي القروسطي (في مواكب التشهير وطقوس العقاب) كان يُتلاعب به كلياً وبصفة مطلقة من رجال النظام أو مؤسساته التي تتمتع بالسلطة السياسية، فقد سُجِّل في حالات عديدة قدر من السخط على الاستعمال المفرط للقوة في إهانة المحكوم عليهم كما كان شأن الوزير الغنوي «حسنك» والوزير الرومي السلجوقي السابق تاج الدين. إذن لم يكن طقس التشهير عصياً على التحدي، وإذا كان هذا الأمر نادر الحدوث حسب ما تخبرنا به المصادر. فإن الفقهاء الذين جُرِّدوا حتى من سلطة متابعة مجالهم المخصوص المتعلق بالحدود الإلهية، قد وجدوا سبلاً أخرى للتخفيف من وقع العقوبات التي توقعها الدولة من خلال استراتيجيات فقهيّة، كما نجد ذلك في حالة فقهاء المذهب الحنفي الذين عارضوا توسيع القياس في الحدود من أجل محاصرة مجال الفقه الجنائي على نحو أكثر تحديد. فالقاعدة المنسوبة إلى أبي حنيفة القائلة إنه «لا قياس في الحدود» تشبه كثيراً – حسب لانغ- فكرة «لا عقوبة شرعية إلا بقانون» التي توسع في تحليلها عالم القانون الألماني فيورباخ (ت1833). وإن كان كل من فيورباخ والأحناف قد طوروا موقفهم في ظروف وملابسات مختلفة اختلافاً تاماً، إلاّ أنهما يلتقيان في الاقتناع بأن القانون أو الشرع يجب أن يُصان من الاستعمالات المفرطة والاعتباطية للقوة القهرية من أجهزة الدولة الردعية. وبذلك فقد ذهبوا إلى أن المعاصي التي ترتكب أمام الملأ هي التي تستحق العقاب، أما التي تقتصر على المجال الخاص أي ما يجري داخل منزل المسلم فلا يحق للسلطة التدخل به أو المعاقبة عنه (حتى لو كان يخالف حدود الله)، وبذلك عزّزوا صورة الذات الإسلامية القائمة على ستر المعاصي وبذلوا جهداً كبيراً للحد من عقاب السلطة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى