صفحات العالم

فيتو المجزرة!


الياس خوري

جاء الفيتو الروسي في مجلس الأمن في موعده تماماً. ترافق مع الذكرى الثلاثين لمجزرة حماه الرهيبة، وواكب مجزرة حي الخالدية في حمص. انه فيتو المجزرة، هكذا سنتذكره بأسى بعد حين، اي عندما يتهاوى نظام المافيا العسكرية/العائلية/الاقتصادية في سورية.

لا يختلف الفيتو الروسي ضد الشعب السوري بشيء عن الفيتو الامريكي ضد الشعب الفلسطيني. كلاهما تعبير عن طموحات استعمارية، وعن دعم للقتلة، وكلاهما يكشف لنا عن الضعف العربي الذي اوصلتنا اليه الأنظمة الانقلابية، بأن حولت ارض العرب الى ملعب للقوى العظمى.

لكن لا الفيتو الامريكي سوف يوقف النضال الوطني الفلسطيني ولا الفيتو الروسي يستطيع ان يغّير المعطى الذي رسمه نضال الشعب السوري في انتفاضته الكبرى. النظام السوري سقط حتى وهو يوجه المدفعية الى حمص وادلب والزبداني. نعم النظام سقط وانتهى الأمر، ولعبة المافيا السورية لم تعد قادرة على انقاذ النظام الذي تهاوى، بل صار هدفها هو اسقاط سورية كلها وتحويلها حطاما.

هل هذا ما تريده روسيا البوتينية وهي تندفع الى مد حبل نجاة كلنا يعرف انه لن يستطيع انقاذ بشار الأسد من الطوفان السوري؟

ما بات يعرفه الجميع هو ان المعارضة السورية مدت للروس اكثر من يد، فليس من مصلحة سورية اخراج روسيا من المنطقة، وليس من مصلحة الثورة السورية ان تستفرد امريكا ووكلاؤها من دول النفط العربي بالمنطقة. لكن الديبلوماسية الروسية تصرفت بعقلية الدول الاستعمارية في القرن الماضي، بدل ان تستمع بدقة الى موقف المعارضة السورية، انتظرت صفقة مع الامريكيين. اي ان ديبلوماسية السيد بوتين لا تزال تعتقد انها تستطيع عقد صفقات من فوق رؤوس الشعب، كي تبرهن انها لا تزال قوة عظمى.

الخاسر الأكبر في الفيتو الروسي هو روسيا. صحيح ان شلّ قدرة مجلس الأمن عن اتخاذ قرار يدين العنف الوحشي الذي يمارسه النظام السوري، يعني اعطاء النظام مزيدا من الوقت كي يمارس ساديته المفرطة، لكن هذا لن ينقذ نظاما لم يعد من الممكن انقاذه. الفيتو الروسي هو الوجه الآخر للمجزرة، وهو سيكون مصدر الم كبير للشعب السوري، وسيزيد من عنف المواجهات، ويجعل من سورية كلها ملعبا للموت.

ربما كان هذا الفيتو مناسبة كي تستفيق جميع اطياف المعارضة السورية من وهمين: الوهم الأول هو التدخل العسكري الخارجي. لن يكون هناك اي تدخل يتجاوز التدخلات التي نشهدها اليوم. دعم روسي بالسلاح ودعم ايراني بالمال للنظام الأسدي، وفتات دعم اكثره كلامي للمعارضة والشعب السوريين من بعض العرب وبعض الدول الغربية.

لن يُسقط النظام سوى الشعب، ولا وجود لأي رهانات اخرى ذات جدوى. وهذا يقتضي تصليب المواقف المعارضة، وبناء شبكات دعم للثورة بشكل جدي وفعال.

الوهم الثاني هو ان النظام يقاتل للبقاء في السلطة. ربما كان بعض قادة النظام يعتقدون انهم يستطيعون تحويل سورية كلها الى حماه، ما يسمح لهم بثلاثين سنة اخرى من الحكم! لكن الوقائع تقول عكس ذلك، وترسم لوحة داكنة للمشروع الحقيقي الذي تسعى آلة القمع والتشبيح للوصول اليه، انه تدمير سورية.

هذا هو منطق الانظمة الديكتاتورية العربية، من صدام الى القذافي وصولا الى آل الأسد. اذا لم يعد في الامكان حكم البلاد فلتذهب البلاد الى الجحيم. انهم يريدون اليوم تدمير سورية وتحطيم نسيجها الاجتماعي، وتحويلها الى اشلاء شعب وبقايا وطن.

امام انهيار هذين الوهمين تصير مهمات الثورة السورية اكثر وضوحا رغم الصعوبات. ويصير البديهي هو الاعتماد على النفس، والتأكيد على احتلال الشعب للشوارع والمدن، والصمود الى ما لا نهاية.

ومن جهة أخرى فان مهمة الثورة السورية هي حماية سورية من آلة النظام التفكيكية، وهذا يقتضي بناء خطاب واضح حول مسألتين كبريين:

المسألة الأولى هي رفض الانجرار الى حرب طائفية مهما كان الثمن، وبلورة خطاب وممارسة وطنيين ديموقراطيين يخاطبان الأقليات الطائفية الثلاث التي يعتقد النظام انه يستطيع استثمار خوفها. خطاب وممارسة تخاطب ضمير العلويين والمسيحيين والدروز، وترسم افقا لوطن لا مكان فيه للطائفية ولا لاضطهاد الاقليات ولا لتدفيع الناس ثمن جرائم النظام. سورية وطن للجميع من عرب وكرد، فيها يتمتع المواطن بحقوقه كافة من دون الالتفات الى العرق او القومية او الانتماء الديني.

المسألة الثانية هي بلورة مشروع سياسي اجتماعي لسورية المستقبل، من حيث التأكيد على الحرية والعدالة الاجتماعية، وتفكيك آلة المافيا الأمنية الاقتصادية التي حطمت الاقتصاد السوري وحولته الى اطار للنهب.

خلال المفاوضات المعقدة في مجلس الأمن، بدا وكأن روسيا تحاول ان لا تجد نفسها في عزلة دولية كاملة، وهذا اعطى بصيص امل بأن يمر مشروع القرار العربي بعد تعديله. لكن يبدو ان بوتين ونظامه الاوليغارشي فضل بناء تحالف بين المافيتين السورية والروسية، على احتمالات ان تجد روسيا لنفسها مكانا في التغيير العربي.

وهذا يدعو للاسف فعلا، لأن المصلحة الوطنية السورية والعربية تقتضي بوجود توازن في المنطقة كان بامكان روسيا ان تلعب دورا رئيسيا فيه.

لكن الفيتو اضاع هذه الفرصة ورمى سورية في المذبحة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى