صفحات الناس

فيسبوك” للرؤوس المقطوعة/ ماجد عبد الهادي

 

 

وراء خمسة رؤوس مقطوعة، يجلس الرجل القرفصاء، مبتسماً للكاميرا. أسنانه تلمع، بتشفٍ واضح، وسط شعر شاربيه ولحيته. في صورة تذكارية مماثلة، يجلس آخر، وأمامه أربع رؤوس، ممسكاً بمقبض سكين، مازالت تقطر دماً، بينما يرفع سبابة يده الأخرى، بعلامة التشهّد. ثمة ثالث ورابع وعاشر، بل أكثر، أكثر بكثير، اختاروا، عن طيب خاطر، توثيق ما يرتكبون من فظائع، بتصوير أنفسهم، وكلهم زهو، في لحظات إقدامهم على نحر ضحاياهم.

الصور المتداولة على مواقع الإعلام الجديد، لا تستأذنك طبعاً، قبل أن تقفز أمامك، عبر “بوست” على “فيسبوك”، أو من خلال “تغريدة” على “تويتر”. لا خيار لديك في أن تمتنع، بالمطلق، عن رؤية معالم الجريمة. يمكنك، إن شئت، أن تشيح بوجهك، بعد النظرة الخاطفة الأولى، لكن هذه تكون قد تكفلت، بأن تطبع في مخيلتك، تعبيرات الهلع واليأس، التي طفحت من وجه إنسان، في لحظة فصل رأسه عن جسده.

أمّا إن واتتك قوة القلب، لتتفرس في محتويات المشهد كاملة، بدءاً بابتسامة القاتل، مروراً بلحيته ولباسه، وما يحيط به، وصولاً إلى نظرة الخوف الهستيري في تعبيرات وجه القتيل، فسترى بوضوح كيف أن هؤلاء القادمين من كهوف التاريخ، والذين يرفضون ارتداء البنطلون والقميص، كما يمتنعون عن استخدام الملعقة، باعتبارها بدعاً “فرنجية”، أو “أعجمية”، تخالف “سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، لا ينظرون بالعين نفسها، إلى آخر ما بلغته تكنولوجيا الاتصالات، وهي من إبداع وصنع “الكفار” وفق تعبيرهم، بل يعمدون إلى استخدامها على أوسع نطاق كي يحققوا، من خلالها، هدف نشر الرعب، الذي ساعدهم على إحراز انتصارات عسكرية سهلة، على الجيوش النظامية، والقوى المسلحة، في العراق وسورية، كما دفع بمئات آلاف المواطنين، المسلمين والمسيحيين والأزيديين، إلى النزوح، خارج حدود إمارات ودول قطع الرؤوس.

في التدقيق، توضح الصور، كذلك، أن الضحايا، وجُلُهم ملتحون، ينتمون غالباً إلى “تنظيمات جهادية” مناوئة للتنظيم الذي ينتمي إليه القتلة، أي أنهم مسلمون مثلهم، وقد حقّ عليهم النحر لأسبابٍ ليس من بينها الكفر، أو محاربة الإسلام، بينما حقَّ على نسائهم، وأطفالهم، في أحيان كثيرة، الإعدام رمياً بالرصاص.

وحيث تتكفل شبكة الإنترنت بترويج ما يوصف بـ “وحشية المسلمين” في أرجاء الدنيا قاطبة، فإن الترويع يكتمل بتخيير غير المسلمين، في كل بلد تنفر إليه “التنظيمات الجهادية”، بين الجزية أو الرحيل، حتى لو كان هؤلاء، من الكلدان والآشوريين الذين استقروا في بلاد ما بين النهرين، وعمروها، وأقاموا على أرضها حضاراتٍ تاريخية كبرى، قبل الإسلام بمئات السنين.

لا يكفي، هنا، لفهم ما يحدث، وتحديد موقف منه، خوض الخائضين في جدل فقهي معقد حول ما إذا كان منهج “ضرب الرقاب” ينتمي إلى الإسلام حقاً أو يخالفه، ذلك أن الجهة أو الجهات التي تتبناه، اليوم، وفي مقدمها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروف باسم داعش، تفتقر، أساساً، إلى مشروعية تولي السلطة، وبالتالي، حق إقامة الحدود، ثم إن الأمثلة على قطع رؤوس الأعداء في حروب المسلمين الأوائل، كثرت أو قلَّت، تظل مرتبطة بظروفها الموضوعية، في زمن حدوثها.

وهي لا تعني إباحة تكرارها، لمن يشاء، وفي مطلق الأحوال، دونما ضابط أو مسبار، ناهيك عن أن كل ما يمكن سرده من شواهد تاريخية في هذا الصدد، سيجد ما يماثله، أو يشابهه، في تاريخ أممٍ أخرى، وليس في حاضرها قطعاً، كالإمبراطورية الرومانية التي ضربت أعناق المواطنين، بينما صلبت غير المواطنين، والثورة الفرنسية التي استخدمت المقصلة لقطع رؤوس المعارضين.

قد يقال إن داعش ليست وحدها التي تقطع الرؤوس، أو تٌنكّل بمعارضيها، على النحو المريع الذي صرنا نشهده كل يوم، وهذا يبدو صحيحاً تماماً، ولاسيما حين يلقي المرء نظرة على حروب بعض من أنظمة الحكم العربية ضد شعوبها، كما على سلوك قوى وأحزاب أخرى متطرفة دينياً.

واستطراداً، ثمة اليوم صور لا تقل شناعة، لأعمال قتل جماعي متكرر، بشكل مريع، في سورية والعراق، وإلى حد ما في مصر، فضلاً بالطبع عن فلسطين. وثمة، في حاضر لبنان، كما في ماضيه القريب، ما يؤكد على أن فظائع داعش ليست جديدة تماماً على المنطقة، وقد سبقها إلى مثلها، منذ عشرات السنين، متطرفون آخرون، كان منهم المسيحي والقومي والشيوعي، ومازال بعضهم شريكاً في اللعبة السياسية اللبنانية، والإقليمية، حتى لحظتنا الراهنة.

لكن فرادة داعش، التي ما التفتت يوماً لقتال إسرائيل، تتلخص في أنها لا تنكر جرائمها ضد بني جلدتها، وإنما تباهي بها، وتستعين بوسائل الاتصال الحديثة، كي تنشرها على الملأ، باعتبارها مرادفة لماهية الإسلام، وهنا المصيبة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى