صفحات الثقافة

فيلم أميركي قصير

 


عباس بيضون

هناك من يجدون أصابع الولايات المتحدة في كل ما سمي بالربيع العربي. يفسرون قيام الانتفاضات من حيث لم ينتظر أحد، ونجاحها من حيث لم يتوقع أحد بتلاعب المخابرات الأميركية وتآمرها. يقولون: ما شأن شعوب أمية بالفايس بوك والميديا الالكترونية. بين من يأخذ بهذه الشائعة أسماء ذات وزن. إنهم لا يصدقون أن الشعوب العربية انتفضت. عندهم انها شعوب راكدة فكيف تنتفض فجأة لو لم يكن وراء ذلك يد أجنبية. اننا إذاً أمام خديعة أمبريالية ليس لها مثيل والمنطقة تسترد إلى الحظيرة الامبريالية بلداً بلداً. انها المؤامرة. إذا قلنا اننا لا نجد في أي من البلدان المقصودة دليلاً مادياً على هذه المؤامرة. قيل لنا ان هذا هو السر. لقد حدث كل ذلك بدون أن يترك أثراً. انه دهاء الامبريالية ومهارتها البالغة. تم ذلك في خفاء تام وليس لامبريالية أقدر على تنفيذ كل ذلك ومتابعته بدون أن تترك دليلاً. هكذا يغدو غياب الدليل أقوى الأدلة وليس في هذا عجب فهذه هي نظرية المؤامرة، انها حبكة في ظلام كامل وتدبير في ليل وفي صمت تام. انتفاء الأثر من قوته وشموله. شيء كهذا لا تصنعه في تمامه وسرعته سوى مخابرات مجربة. هذه نظرية غربية لكنها أقوى دفاع عن الأنظمة،. حتى تلك التي لم تعرف بخصومتها للامبريالية. كانت مصر على سبيل المثال في الحظيرة واعتبر نظام مبارك صنيعة للولايات المتحدة. لم يكن لنظام بن علي سمعة أخرى. لكن هذا في نظرية المؤامرة ليس حجة فالامبريالية تعد للمنطقة مصائر أين منها ومن فظاعتها، ما كانت فيه لا يعد شيئا بالقياس لما سيحدث، لا تتعجب فهذا هو طبع الامبريالية وهذا هو شرها الذي لا يوصف وليس له مثيل. يمكن للامبريالية ان تحطم صنائعها في سبيل سيطرة أكمل وأكثر استقراراً، يمكن لها ان تطيح بأدواتها، أن تتآمر على عملائها إذا وجدت بديلاً أكمل وأشد فائدة. انها الامبريالية، حيث تجدها فتش عن المؤامرة، وحيثما تكن فلا حدود للشر. نظام مبارك نعمة بالمقارنة مع من سيأتي بعده وكذلك نظام بن علي. انها أحجية لكن نظرنا السياسي صار مع الوقت أقرب إلى أحجية. انها أعجوبة ولكن عقلنا السياسي بات بالتدريج مليئاً بالأعاجيب. السياسة بالنسبة لنا لعبة في الظلام واجتراحات وخوارق. إذا كانت الدولة مسؤولة عن تفجير الكنيسة وإثارة الفتنة فمن سيستغرب أن تكون المسألة كلها صناعة وتدبير. هذا العقل السياسي لا يبحث عن الوقائع، لا يقوم بتحليل. انه يقيم الصناعة والاختراع مكان المجرى الطبيعي للحوادث. يحول السياسة إلى خرافة وإلى أحدوتة ومن السهل دحضه فهو قائم على الفراغ لكنه مع ذلك متين. ان له سندا في الخرافة التي لا تزال حاضرة في سردياتنا السياسية وفي محاكماتنا كلها. خطاباتنا السياسية نفسها لا تنجو من ذلك، نظرية الامبريالية غير بريئة منها. الوقائع نفسها تكذب، احتلت الولايات المتحدة العراق في رابعة النهار وانتشرت فيه أمام الجميع ولم تنفعها مئات آلاف الجنود والمعدات والتكنولوجيا المتطورة في أن لا تغرق في وحوله. لم تنفعها كل هذه التكنولوجيا في ان تتحسب لشيء، لم تستطع أن تتوقع ما يهيئه لها التركيب الاجتماعي وعانت وما زالت تعاني جماعات القاعدة والتشكيلات المسلحة وفاتها رغم ذلك أن تربح في العراق ما ربحه جارها الايراني. ليس الدهاء الامبريالي إذاً حقيقة أكيدة فالامبريالية ايضا تتحكم فيها الوقائع وتتحكم فيها الظروف وليس لها مقدرة سحرية ولا إعجاز خرافي. يمكننا ان نقيسها ونقيس عليها ولا بد من ان نرى ونلمس الوقائع والظروف ليستقيم التحليل ولنتأكد من صحة قياساتنا. إذا صح ذلك فيغدو من غير المفهوم ان تتآمر الولايات المتحدة على نفسها في العراق وفي تونس وفي ليبيا وفي اليمن. ليس الجامع بين هذه العداء للامبريالية فهي جميعها أقرب إلى مهاودتها، ان لم يكن إلى مصانعتها والامتثال لها، ما يجمع بين هذه الاقطار ومنها سوريا هي خضوعها لديكتاتوريات عسكرية وطغم حاكمة وطبقات نشأت من داخل النظام ومافياويات عائلية. أي انها جميعها ليست خارج النظام الامبريالي العالمي، ولا يمكن النظر إليها كوطنيات تتحداه او تترعرع في معزل منه. إن العقل الكوارثي الذي يتنبأ دائما بالأسوأ، وينتظر طوراً أكثر ظلامية من السيطرة الامبريالية، غير قادر على ان يثبت لنفسه ما يتخيله ويكرز به. الانتفاضة تقع في لحظة تلتحق فيها برجوازيات الدولة أو الناشئة في كنفها أكثر فأكثر بالاقتصاد الامبريالي. تحدت في لحظة الانفتاح وهي لحظة تتربى فيها في كنف الدولة وبأدواتها واستبدادها برجوازية تلتحق أكثر فأكثر بالسوق وتقسيم العمل الامبرياليين. الانتفاضات تقع في لحظة الصدام بين برجوازية الانفتاح والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة في لحظة سعي برجوازية الدولة إلى الاستقلال عنها والاستبداد بها. أي ان المصير الأسوأ ليس كذلك إلا في خيال من يتصورونه انه في الواقع ما ينتفض الشعب عليه وما تحاول الانتفاضات ان تحول دونه وتتلافاه. ليس في نظرية المؤامرة الامبريالية حتى بالنسبة إلى دول الممانعة سوى خيال بحت. انتصرت الانتفاضة المصرية والشعب المنتصر يدفع المجلس العسكري إلى محاكمة أعضاء المافيا البرجوازية التي في كنف النظام السابق، وليس في تونس شيء آخر، أما في ليبيا فالانتفاضة تتجه ضد العائلة المالكة للبترول الوطني، وفي اليمن تتجه ضد الاستبداد العائلي، اما في سوريا فمثل رامي مخلوف له دلالته. لا نستطيع الآن ان نحدد الطبيعة الطبقية التي ستؤول إليها الانتفاضات، لكن الغضب الشعبي هو كذلك ضد البرجوازية المافياوية التي نشأت في كنف الدولة وتستعد للاستقلال عنها والاستبداد بها، لا نستطيع الآن أن نحدد الطبيعة الطبقية التي ستؤول إليها الانتفاضات لكننا نستطيع أن نفهم الطبيعة السياسية لهذه الانتفاضات. انها تطرح قيمة جديدة في الحراك السياسي العربي هي الحرية. قيمة كانت حتى وقت قريب مشبوهة ومحاطة بالتحفظات. لقد اعتبرتها عاملا فرديا ضد تراص الجماعة المفترض فيها ان تكون جيشا مرصوصا متجانساً متكتلا. اعتبرت عامل تقسيم للمجتمع الذي يفترض فيه أن يبقى موحداً. كانت صورة الجيش تكاد تماهي صورة المجتمع وعلى المجتمع ان يتصرف لا كجسم سياسي متحرك متعدد ولكن كجيش موحد. الحرية هي المثل الذي تطرحه الانتفاضات العربية، ولا نتعجب من كونه طغى بسرعة كبيرة واحتل مكانه في رأس الحراك الشعبي. لقد تأخر وتأخرا كثيراً حتى غدا قيمة للشعب وللشارع وقيمة في الحراك السياسي. تأخر وتأخر كثيراً لكننا نتأكد الآن من حضوره فعلاً، ومن العبث ان نعتبره تمويها لمقاصد أخرى. انه موجود بذاته ولذاته. موجود كقيمة طال انتظارها، من هنا، ورغم كل المكونات المتضاربة للشارع الشعبي، يصعب ان نتصور أن الحراك الحالي يهيئ لديكتاتورية مقبلة، هناك بالتأكيد قوى غير ديموقراطية بل يسعنا القول ان معظم القوى الراسخة ليست لها تربية ديموقراطية وإن الحس الديموقراطي غير موجود إلا لدى كتل شبابية منظمة أو غير منظمة. لكن القضاء الحالي قضاء ديموقراطي ولا بد من انه حساس تجاه أي نزوع استبدادي وحساس للغاية تجاه أي انفراد بالرأي او المكانة. يمكننا هكذا ان نثق بهذا القضاء رغم نزوع كثيرين إلى تخطيه، ورغم وجود كثيرين ذوي تربية مناوئة له. لن تكون العواقب بالطبع مريحة وسيكون الصراع قوياً لكننا متأكدون من أن نفس الانتفاضة لن تعقب أي ديكتاتورية قادمة او محتملة. ان وعود الأخوان المسلمين في مصر بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية والترشح عن نصف مقاعد البرلمان دليل على أن ما أشرت إليه محسوس جيداً في الشارع ويشكل الفضاء الحقيقي للحراك، ويمكننا ان نتكل عليه لمستقبل التحرك والأيام القادمة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى