صفحات الناس

فيلم “صرخات من سورية”.. الحدث هنا والجمهور هناك/ سومر منصور

 

ترزح الوثائقيات المنسوجة حول سورية تحت أعباءٍ عدّة منها الذاتي والموضوعي، ولا تقتصر على الخطر المحدق بصانعي هذه المواد الفيلمية، فضلًا عن كثرة اللاعبين في سماء وأرض سورية وتشابك علاقاتهم ليكون تفكيك الحالة السورية وقولبتها ضمن بنية سردية قصصية؛ تبيّن وتوضح ما جرى ويجري في إحدى أكبر الأزمات الإنسانية عبر التاريخ أمرًا عصيًّا ومضنيًا.

في مقابل هذا، صناعة فيلمٍ فاطرٍ للقلوب لا تتطلّب كل هذا العناء، بوجود محتوىً بصري من الفيديوهات والصور – الموثّقة والمفبركة- على الإنترنت يفوق عدد اللاجئين – السوريين والمدّعين- في أوروبا ودول الجوار، وتكون نتيجة التشغيل التلقائي لمدّة ساعتين على اليوتيوب مضافًا إليها مقابلاتٌ مقتضبة مع لاجئين وثوّار وناشطين في الخارج فيلمًا مثل “Cries From Syria – صرخات من سورية”، الذي يضيف مخرجه للعاملين السابقين مقابلات مع أطفال سوريين كحاملي رايةٍ لتجييش المشاعر لدى الجمهور، فيستحيل تقديم “الواقع” إلى تسجيل “وقائع” لا اتساق يجمعها ولا نقاط علام فيما بينها، ويبتعد الوثائقي عن كونه محاولة فهم ليقترب من خانة اللطميات والمنادب.

لا يستعرض الوثائقي المعروض أول مرة في مهرجان”Sundance” قصّة واضحة المعالم بل يُفترض بنا أن نعتبره سبرًا لمراحل الحرب السورية، وسط توهان الخطوط الزمنية في ظل تقسيم الفيلم للوضع السوري إلى أربع مراحل؛ يكتفي الفيلم بذكر المكان والزمان في زاوية الشاشة إذ إن هذه المراحل متداخلة زمنيًا وتختلف بين منطقة وأخرى لدرجة التماهي فيما بينها، وإن بدت هذه المراحل متواليةً زمنيًا (فجر الثورة – الحرب الأهلية – المقاتلون الأجانب – الرحلة) فقد عازها السياق السليم، ما يجعل تصويب الأخطاء الواردة “من الناحية التأريخية” مضيعةً للوقت؛ ولأن هذا يختلف عن حرف الحقائق وزجّها في سياقات أخرى تجدر الإشارة إلى أن الفيلم يصنّف الطفل حمزة الخطيب ضمن أطفال درعا الذين كتبوا على جدران المدارس، وأن ثورة مصر حصلت بعد ثورة ليبيا. وتتلاعب الترجمة بالمعاني ففي عين المترجم الجهاد والقتال هما ذات المفردة ” Fight”، ويصبح الالتحاق بركب الثورة مرادفًا للانضمام للحرب الأهلية في بداية المرحلة الثانية.

شهادات أم نحيب؟

يقتصر دور الراوي على مقدّمة الفيلم بتعريفه عن سورية؛ وإن اختزلها بسنين حكم البعث، يتوارى بعد ذلك فاسحًا المجال لكلمات ضيوف الفيلم كتعليق على الفيديوهات الأرشيفية التي صوّرها ناشطون سوريّون، وهذه الفيديوهات تستحوذ على جلّ الفيلم معظم التعليق ينتهي بإلقاء الأسئلة على الجمهور من قبيل أين الإنسانية؟ ولماذا يقتلون الأطفال؟ رفقة مشاهد القصف والقتل والتعذيب مع خلفية موسيقية دراماتيكية تزاحم الحدث على واقعيته وتسلخه عنها في بعض الأحيان؛ مثل التنوّع الموسيقي أثناء تعداد العقيد رياض الأسعد لأنواع القنابل التي يُقصف بها السوريون، فخٌّ لم يقع فيه فيلم “الخوذ البيضاء” حين ترك المشاهد الصادمة عاريةً من الموسيقى والتعليق إلّا فيما ندر واضعًا الجمهور كشريك في التجربة؛ فالحدث هنا وكذلك الجمهور، بينما شكّلت الإضافات في صرخات من سورية حواجز تفصل المتلقي عن الحدث؛ هناك.

لا تدع الحقيقة تمنعك من قصّ حكاية مؤثّرة، هذه هي القاعدة التي ينتهجها الفيلم، ولأن الشخصيات البيضاء المظلومة تتضح عليها الدماء بصورةٍ أوضح، يكتسي جميع السوريّين صفة الملائكة وإن كانت الرؤية الشاملة للفيلم تفيد بسذاجتهم أكثر، ولا يُعنى الفيلم بالحديث عن شخصياتٍ مركّبة أو مواقف تراجيدية تصل حد المفارقة؛ أثناء مشهد مظاهرة يعلو هتاف “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد” بينما في الخلفية تتحدث الناشطة خلود حلمي عن مسألة علم الثورة أنه للتفريق “بيننا وبينهم” أي الثوار والمؤيّدين للنظام، وتتغنّى لاحقًا بمظاهرة حماة نصف المليونية دون ذكر أنها كانت في جمعة “لا للحوار”.

يستمرّ الفيلم دون صورٍ حاضرة وينتهي على أحلام ضيوفه المتباينة وما يتمنّونه للمستقبل، بعدما أغفل مرحلة الخروج من الأحياء المحاصرة في حمص وحلب؛ علمًا أن من ضيوفه عبد الباسط الساروت وهادي العبدالله، تعد النهاية بالنصر على لسان الطفلة بانة العبد أثناء خروجها من حلب لتشكّل عاملًا سلبيًا آخر وكأن الفيلم يقول أن المسألة انتهت، نقطة تفوّق أخرى لفيلم “الخوذ البيضاء” الذي يترك شخصياته في طريقة العودة ليمارسوا عملهم فهؤلاء فاعلون في الحالة السورية والحدث مستمر، بينما أولئك حازوا الأمان على الأقل ويتحدّثون للكاميرات أمام خلفيات طبيعية هادئة.

لم يتلق الفيلم الصدى المأمول ولم يشكّل موجة في الرأي العام الغربي رغم عرضه في مهرجان”Sundance” ثم إذاعته عبر شبكة HBO، ولم نرَ تفنيدًا لطرح الفيلم ونسخته المشوّهة عن الحالة السورية؛ هكذا تتبدّد فرصة عرض على منصّة تلفزية هامّة، إذ إن لأثر الوثائقيات ما قد يرفعها عن التقويم النقدي كما في حالة “الخوذ البيضاء” أو “عينان من قاح”، وسبب التجاهل في الغالب هو المحتوى البصري القاسي الذي يجعل الاستمرار بمشاهدة الفيلم تحدّيًا، تاركًا المشاهد ليشيح بنظره أو يطغى في تركيزه على المادة الصوريّة غير الواضحة والمأخوذة بكاميرات غير احترافية على التعليق، فلا تمر دقائق دون مشهد تعذيب أو أشلاء من القصف في تناولٍ مشاعري للحالة محمولًا على عَبرات الضيوف رغم أنه يعتمد في بنيته على نموذجٍ سرديّ تقريري يكاد يطابق الإخباري، وهذا ما يمثّل جوهر مشكلة الخطاب الإعلامي للمعارضة السورية.

* الفيلم من إنتاج HBO بالتعاون مع “عنب بلدي” و “وكالة سمارت للأنباء”

جدل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى