صفحات المستقبل

فيلم Seven في نسخة “الولايات المتحدة الإسلامية

 

 

روجيه عوطة

لا شك أن أول ما تستوي عليه المقارنة بين نهاية فيلم “سبعة” (للمخرج الأميركي المبدع ديفيد فينشر)، وفيديوهات الذبح “الداعشي”، هو التأليف المشهدي، بحيث أن الإثنين يتضمنان: من ناحية، خلفية صحراوية، تحضر في ولاية من الولايات الأميركية، التي تدور وقائع الفيلم داخلها، كما تحضر في “ولاية” من “ولايات الدولة الإسلامية”، حيث تم ذبح الصحافيين. ومن ناحية أخرى، الثياب البرتقالية الغامقة، التي يرتديها القاتل في الفيلم، “جون دو” (كيفين سباسي)، والقتلى في الفيديوهات. فقد وضعت “داعش” الصحافيين مكان السفاح المنظم، الذي اقترف، على مدى فيلم “seven” ستة جرائم، حدد ضحاياها على أساس ارتكابهم لخطيئة من الخطايا “السبع”، أي الشراهة، والطمع، والكسل، والزنا، والغرور، والحسد، والغضب. تالياً، السؤال البديهي، الذي يطرحه المرء أمام تبديل “الدولة” لـ”دو” بفولي وسوتلوف وهاينز، هو: “ما هي خطيئتهم؟”.

لكنه سرعان ما يدرج استفهامه هذا في سياق آخر، يتعلق بموقع المجرم نفسه، محاطاً بالمحققين، سومرست (مورغان فريمان)، ومايلز (براد بيت). إذ يدفع الثاني إلى إرتكاب جريمة بحقه، استناداً إلى خطيئة الغضب. وذلك بعدما ارتكب، هو ذاته، خطيئة الحسد بحق زوجة مايلز، أي ترايسي، قاطعاً رأسها، وتاركاً إياه في علبة، يراها المُشاهد بلا أن يعاين محتواها العنيف. لذا، يمكن القول أن دو، في الخاتمة، ركع في موضعين، كمجرم وضحية، كخاطئ ومجني عليه، مع العلم أنه خطط لهذا الركوع، كي ينهي سلسلة جرائمه، حتى لو كان واحداً من المقتولين خلالها. ففي تلك اللحظة، التي أطلق فيها مايلز الرصاص عليه، تحول من مجرم إلى ضحية، وحول المحقق من ضابط أمني – فضلاً عن كونه ضحية بسبب اغتيال زوجته – إلى قاتل منتقم.

سكين الغاضب وعنق الحاسد

وبالتوقف عند هذا التحول، وعطفاً على ما يقوله “دو” في أحد الحوارات مع المحققين، يبدو السفاح كأنه يستخلص العنف المستتر، والمُمارس يومياً في المجتمع، الذي يحميه القانون، وشرطته، ممثلةً بسومرست ومايلز، كما لو أن “دو” يكشف عن علاقة بين العنف والقانون، إذ ينتج بعضهما البعض بطريقة مضمرة، وما ارتكاباته سوى توضيح لهذه العلاقة، أو تعرية لها: “صرنا نرى الخطايا المهلكة، تحدث أمام عيوننا عند كل ركن من الطريق، في كل بيت، ونتغاضى عن ذلك، نتغاضى عنه ونبيحه لأنه أصبح شائعاً وعادياً. أصبحنا نتغاضى عنه صباحاً ونهاراً وليلاً. حسناً! ليس بعد الآن. لقد وضعت المثال بنفسي، فما فعلته سيظل لغزاً محيراً، ولسوف يُدرس ويُتبع إلى الأبد”.

في هذا المجال، ثمة تقاطع بين “داعش” والسفاح “دو”، بحيث أن “الدولة” تمارس عنفها ببيان استنتاجه من الأنظمة، لا سيما البعثي الأسدي، الذي لطالما برع فيه، بحق الكثير من الناس، ارتكازاً إلى آلية المخادعة المقوننة بين المرئي وغير المرئي. فمن المعروف أن معادلته تنطوي على قتل الجميع، معلناً أنه لم يقتل أحد. تالياً، حذا التنظيم الإرهابي حذو “جون دو”، بإماطة اللثام عن العنف المخاتل، مثبتاً إياه، ورامزاً إليه بوسيلة قطع الرأس. فهذه المرة، تقتل “الدولة” ولا تخفي قتلاها، بل تشير إليهم، تماماً مثل “دو” الذي كان يقود المحققين إلى ساحاته الجرمية، وجثثها. وهما حين سألاه عن سبب قتله للأبرياء، ضحك، وأجابهم أن ضحاياه ليسوا على هذه الحال الخالية من المسؤولية، كما أنه واثق من شكرهما المخفي له على قتلهم.

“الدولة”، تتماثل، في جانب من جوانبها، مع السفاح دو، الذي استبدلته في مشهده الأخير بالصحافيين الواحد تلو الآخر، ليصبح الذابح “الداعشي” هو المحقق، والمذبوح هو المجرم، أي أنها، بمعنى آخر، استبدلت نفسها بضحيتها، لتصير قاتلة على أساس خطيئة “الغضب”، وموضوعه “التدخل الدولي” في شؤونها.

استحال كل واحد من الصحافيين المذبوحين مجرماً، ليس لأنه يركع مكان “دو” فحسب، بل لأنه، وبتمثيله الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا، ارتكب خطيئة “الحسد”، باعتبار أن بلاده تغار من “الدولة الإسلامية”، التي خاطبت باراك أوباما في فيديو ذبح جيمس فولي، وعلى لسان الذابح، قائلةً له: “أنتم الآن لا تقاتلون عصابات، نحن جيش إسلامي ودولة رضي بها الكثير من المسلمين في العالم، فأي عدوان على الدولة الإسلامية هو، في الحقيقة، عدوان على المسلمين، الذين رضوا أن تقودهم الخلافة الإسلامية بكل ألوانهم وألسنتهم”. إذاً، تتحدث “داعش” بلغة “دولة” ديموقراطية، يدل عليها فعل اختيار المسلمين لها، ودولة تعددية، لأن الذين اختاروها ينتمون إلى مختلف “الألوان والألسنة”. كأن التنظيم يتحدث بقاموس الإدارة الأميركية نفسه، ويخبر رئيسها أن “الدولة الإسلامية” مثل دولته، وأنه يتدخل في شؤون “داعش” لأنه يحسدها، ولا يريد لها أن تتغلب، بولاياتها، على ولاياته المتحدة الأميركية. وهذا الحسد، وما لحقه من ضربات “التحالف الدولي”، أثار غضب “داعش”فجزت أعناق الصحافيين

حسناً، المقتولون هؤلاء لا علاقة لهم بـ”الحاسد” الأساس، أي باراك أوباما، وباقي قيادات الحرب الدولية على التنظيم. لذا، لا بد من التمسك ببراءتهم، والبحث عن الشخصية التي تمثلهم في الفيلم، بحيث تدفع ثمن “خطايا” الآخرين القريبين منها، بلا أن تكون متورطة في أي “خطيئة” بحد ذاتها. فهم يشبهون “جون دو” مشهدياً، أي بسبب ركوعهم مكانه. لكنهم، وفي الوقت نفسه، لم يرتكبوا الحسد مباشرةً، بل بطريقة تمثيلية، بسبب أنهم أميركيون وبريطانيون، أي ينتمون إلى جنسيات الدول الحاسدة فقط لا غير، لذا وجب قتلهم.

أما الذابح “الداعشي” فهو المحقق مايلز، الغاضب، والناقم، كونه ضحية الحسد وتدخله الدولي، وفي الوقت ذاته، عندما يجز عنق الصحافي بسكينه، يصير مجرماً. في النتيجة، المذبوحون ضحايا ومجرمون، والذابحون أيضاً. هذا ما رغبت في تصويره “دولة” الغضب، رداً على “تحالف” الحسد. لكن، في المشهد ضرباً من ضروب البراءة، يتحلى بها المذبوحون، ومن البديهي التفتيش عن تقاطعها بين الفيلم والفيديوهات.

رأس ترايسي المحجوب

لا يستطيع المُشاهد أن يرى كيفية ارتكاب السفاح لجرائمه، بحيث أنه يصل، مع المحققين، إلى ساحاتها بعد أن تخلو من مجرمها، ولا تحوي سوى جثثها. وهذا، ما يضاعف من عنف الفيلم، ورعبه، إذ يدفع المتفرجين عليه إلى تخيل الطرق التي اقترفت بها الجرائم. فالعنف المحجوب، بحسب مخرج “سبعة”، أقسى من العنف الواضح، ويجذب العيون ورؤوسها نحوه أكثر. عليه، هناك وجه شبه واضح بين خاتمة الفيلم وفيديوهات الذبح، وهي حجب المشهد الأكثر قساوةً، أي قتل الزوجة ترايسي مايلز، وقطع رأسها، ثم وضعه في صندوق أو علبة كرتونية. وفي لحظات ذبح الصحافيين، لا نقدر على مُشاهدة طريقة جز عنق فولي على سبيل المثال، بل نرى جثته فقط. تالياً، المشهد المحجوب في الفيلم، قتل الزوجة وقطع رأسها، يماثل إخفاء فعل الذبح في المقاطع “الداعشية” المصورة، ما يحيل إلى معاينة الصلة بين ترايسي مايلز والمذبوحين، وذلك استناداً إلى البراءة.

فترايسي، هي الوحيدة التي لم ترتكب أي خطيئة، لكنها كانت ضحية “حسد” المجرم، الذي رغب في حياة مماثلة لحياة زوجها المحقق، “لقد قمت بزيارة منزلك في الصباح بعد مغادرتك له، واستقبلتني زوجتك الجميلة، ولقد أردت القيام بدور الزوج معها، أردت أن أحيا حياة رجل بسيط ، لكن الأمر لم يفلح، لذا احتفظت بتذكار منها، رأسها الجميل” (عبارة وجهها المجرم للمحقق). فما دفعه إلى قتلها، ليس ارتكابها لخطيئة ما، مثل باقي ضحاياه، بل لأنها تمثل زوجها، أو أنها الأقرب له، تماماً كما هو حال الصحافيين الأميركيين أو البريطانيين الذين لم يرتكبوا أي خطيئة سوى أنهم يمثلون، في نظر “داعش”، الدول التي تحسدها، كما أنها تتبادل معها الميل نفسه، لأنها هي أيضاً، وبحسب “رسالتها إلى أميركا”، تريد أن تصبح “الولايات المتحدة الإسلامية”، التعددية والديموقراطية!

على هذا المنوال، تنقلب الأدوار مرة جديدة، فيكون الذابح “الداعشي” هو “جون دو”، والصحافيون يحاكون شخصية ترايسي مايلز التي تدفع ثمن خطيئة السفاح وتدفع زوجها، الذي تمثله، وهو أوباما مثلاً في حالة المذبوحين، إلى خطيئة الغضب. بعد ذلك، وفي هذه الناحية، مَن انتصر، السفاح أم المحقق؟ جون دو أم مايلز؟ “داعش” أم “التحالف الدولي”؟

إعتماداً على سيناريو الفيلم، لم يتمكن المجرم من جذب المحقق، رجل القانون والأمن، إلى ارتكاب جريمة بحقه فحسب، بل ورطه في إنهاء سلسلة جرائمه، التي تعاقب على الخطايا السبع. صحيح أن السفاح دفع ثمن استكمال خطته، أي قُتل بسببها. لكنه، على ما يبدو، لا يهمه إن مات، ما دام موته سيحمل دلالة أكبر، مستمدة من مشيئة الرب، ومن تطبيق خطيئة الحسد، التي ولدت الغضب. نتيجة ذلك، يصح القول أن المجرم بلغ غايته، وأتم دوره، وربما هذا نوع من الإنتصار، لا سيما أنه يسير على خطةٍ مدروسة. فهو لا يقتل عشوائياً البتة. ومن هنا، كان قادراً في أحد مشاهد الفيلم على قتل المحقق مايلز، موجهاً مسدسه إلى رأسه مباشرةً. لكنه لم يفعل لأنه، في تلك اللحظة، لم يعتقد أن المحقق ارتكب خطيئة ما.

وبسحب ذلك على حالة “داعش” و”التحالف الدولي”، لا يمكن الجزم في القول أن “الدولة الإسلامية” جذبت “التحالف الدولي” نحو أرضها، نحو سلسلة جرائمها، مثل “جون دو”. لكن، لنفترض فعلها هذا، فقد يساعد على إدراك أحد عوامل عدم تحقيق الحرب الدولية لأي نتيجة حتى الآن. إذ أنها، حتى لو قضت على السفاح، ستتحول قياداتها، أو تحولوا ربما، إلى سفاحين، تماماً مثل مايلز الغاضب والمنتقم. فمهما غيّر “التحالف” استراتيجياته، سيظل عالقاً في الخطة “الداعشية”، وسيستمر في ارتكاب الخطيئة السابعة، التي لم تقترفها “الدولة الإسلامية”، بل أتاحت له أن يمارسها فوق أرضها. كما أنها، وعلى صعيد متصل، لا تتردد في قتل الأبرياء، باعتبارهم يمثلونه، فتقطع رؤوسهم، وتحجب مشاهد فصل أعناقهم، لتضعها في صندوق كرتوني، في علبة الرأس البريء.

في النتيجة، يتبادل كل من “داعش” و”التحالف الدولي” الأدوار، مرة تكون “الدولة” جون دو، و”التحالف” مايلز، ومرةً تصبح مايلز ليصير “التحالف” جون دو، مع نافل التذكير بالعلاقة بين المجرمين المهووسين والمؤسسات الأمنية العقابية، أكانت علاقة امتداد متناقض، أو استنتاج توضيحي، أو استخلاص تبريري… وعلى قول المحقق وليام سمرست في الفيلم: “إن الأمور لا توحي أبداً بأن النهاية ستكون سعيدة!”.. وهي فعلاً لن تكون!

ملاحظة: إحدى الرفيقات أرسلت لي مقطعاً من فيلم “seven” لديفيد فينشر (1995)، لافتة نظري إلى التشابه بين مشهد نهايته من جهة، وفيديوات ذبح كل من جيمس فولي، وستيفن جول سوتلوف، وديفيد هاينز، التي بثها تنظيم “الدولة الإسلامية” على الشبكة العنكبوتية، من جهة أخرى. فالشكر لها على ما نبهتني إليه فكتبت النص أعلاه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى