مراجعات كتب

فيليب هامون وسميولوجية الشخصيات الروائية/ رامي أبو شهاب

 

 

■ لا شك في أن كتاب «سميو لوجية» الشخصية السردية يعدّ من أبرز الكتب التي أسست لوعي نقدي محوري في الدراسات السميولوجية، كونه يعنى بمفهوم الشخصية السردية، فالكتاب شكّل إضافة نوعية للمكتبة العربـــــية، وهذا ما يُحسب لمترجم الكتاب سعيد بنكراد، الذي اســـــتطاع أن يجلب، أو بعبارة أخرى أن يتخير للمكتبة العربية كتابا مهماً، من منطلق أن الترجمة الفاعلة تكمن أهميتها بقدرة المترجم على نقل الكتب المفصليّة في الثقافات الأخرى، فجزء من عبقرية الكتاب المترجم تكمن في قدرته على إثراء الثقافة المنقول إليها، وبوجه خاص حين تكون ثقافة غير منتجة على الصعيد المعرفي، وبهذا فإن الترجمة تؤكد المبدأ الجدلي في توليد الأفكار من خلال هذا التثاقف الذي يحصل بين الثقافات.

تشكل مقترحات فيليب هامون في مجال دراسة الشخصية السردية أهمية مضاعفة، ومرد ذلك يعود إلى إفادته من تنظيرات سلفه، بالتجاور مع محاولته وضع تصور شمولي لمفهوم الشخصية، وآليات بنائها، والبحث فيها: مفهومها والإجراءات المتبعة في دراستها، وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أننا لا نسعى في هذا الموضع إلى تقديم الكتاب، وعرض فصوله ضمن قراءة تتغيى التعريف وحسب – لاسيما أن الكتاب مضت سنون على ترجمته- إنما نهدف من خلال هذا الموضع إلى استخلاص بعض المفاهيم النقدية المتعلقة بالشخصية، وتقديمها بصورة تحليلية.

وبينما يقدم فيليب هامون تصورا سميولوجياً للشخصية السردية، إذ يفارق التصورات التقليدية، وبوجه خاص المنظورين: «السيكولوجي والدرامي، حيث يتبنى هامون التصور اللساني الذي ينظر إلى الشخصية على أنها عبارة عن ملفوظ لغوي، لا يشترط صفة الإنسانية، وعليه فلا يمكن أن تكون الشخصية عنصرا في أي حقل ما، ففي قانون الشركات تعد الشركة ورأس المال والمدير العام شخصيات، وفي المطبخ يمكن أن تكون البيضة والدقيق شخصيات، وهكذا، وبناء عليه يقيم فيليب هامون فرقا بين الشخصية الأدبية والشخصية بمعناها الحرفي، حيث يتحقق الفرق بين وجودها واشتغالها في النص الأدبي، أو اشتغالها في موقع آخر، فشخصية زرقاء اليمامة – على سبيل المثال- التي تقع في نص، أو مرجع تاريخي تختلف عن الشخصية الموجودة في ملفوظ أدبي في إحدى روايات نجيب محفوظ، ومن هنا يقترح هامون على الدارس تسمية «أثر شخصية النص» للدلالة على الشخصية الموجودة في الأعمال الروائية، وهذا الأثر يتكون من خلال وحدات معجمية، أو كلمات يتم من خلالها بناء الشخصية اعتمادا على معطيات النص وعناصره الثقافية».

لا شك في أن الشخصية السردية تنتج من خلال عملية بناء عقلي يضطلع بتركيبها القارئ، انطلاقا من مجموعة من الدوال القائمة في النص، إذ يتم تحديدها من خلال ثلاثة معطيات هي: المعلومات الصريحة، والاستنتاجات، والأحكام القيمية، كما يشير لطيف زيتوني في معجم مصطلحات نقد الرواية، وبهذا فإن بناء الشخصية وتكوينها، لا ينتهي إلا بنهاية العمل الروائي، ما ينفي عن الشخصية كونها معطى جاهزا، وهذا ما يفسر الكثير من الضعف الذي يطغى على بعض الروايات نتيجة عدم القدرة على تقدير الجانب الفني في تكوين الشخصية وبنائها، ولكونها تقع في خانة التنازع على القيمة من حيث تقدمها على الحدث، أو تخلفها عنه، وهذا ما بُحث فيه ضمن دراسات حاولت أن تجيب عن هذا الإشكال السردي. ويترتب على هذا المفهوم، أي اعتبار الشخصية دالاً، أن تتخذ في التموضع السردي عدة أسماء ونعوت للتعبير عن هويتها، وهذا الدال يشكل الوجه الأول، مقابل الوجه الثاني الذي يرى الشخصية مدلولاً، ونقصد به مجموع ما يقال عنها بواسطة الجمل، أو بواسطة التصريحات والأقوال والأفعال الناتجة عن هذه الشخصيات؛ وبناء على ما سبق، فإن فيليب هامون يحدد بعض الإجراءات التي نستطيع من خلالها دراسة الشخصية في متن الرواية، إذ إن وجودها يحتم وجود عناصر، وإدراج علاقات أخرى، نتعامل معها من ذلك الحيز أو المكان والزمن واللغة.

وإذا كانت الشخصية تتحدد من خلال الخصائص والميزات الذاتية، فإنها تتكون أيضا من خلال علاقاتها مع الشخصيات المقابلة أو المجاورة لها في المتن الروائي، وبناء عليه فإن إجراءات هامون تمكّن الدارس من عزل الشخصية، ودراستها بوصفها بؤرة استدلالية عبر عدد من الإجراءات التي تتلخص بتحديد المواصفات، وهي كالآتي:

مواصفات اختلافية: حيث يقدم السارد مجموعة من المواصفات لا يمكن أن تتوفر عند الشخصيات الأخرى، وغالباً ما ترتبط هذه المواصفات بتوزيع محدد من حيث مواقع الظهور، وديمومتها واستمرارها، بالإضافة إلى المساحة التي تتخذها الشخصية في المتن الروائي.

استقلالية اختلافية: تتحدد هذه النقطة من خلال ثلاث نقاط هي:

أولا: درجة حضور الشخصية وظهورها منفردة أو مصاحبة من قبل شخصيات أخرى.

ثانيا: من خلال صيغ السرد والخطابات التي تظهرها كالحوار والمنولوج،

ثالثا: حركة الشخصية داخل المكان والزمان.

وظيفة اختلافية: وفي هذا السياق تتحدد الشخصية في بنية العمل السردي من خلال المواصفات والوظائف، بصفتها مرجعية للقيم المقبولة والمرفوضة المنتشرة في المتن الروائي.

تحديد عرفي مسبق: ويتكون من خلال ميثاق القراءة، حيث يوجه القارئ نحو أسلوب معين، بحيث تتحدد الشخصية من خلال علامات منها الثياب أو طريقة الكلام.

وبعد أن يحدد هامون مفهوم الشخصية في عدد من محاور كتابه، ينظر إلى بنيتها بالاعتماد على الأدوار التي تؤديها تلك الشخصيات في المتن الروائي، فيسعى إلى أن يقدم تصنيفات تقترب من الشمولية، عبر الإحاطة بمجمل الشخصيات المتحركة في الفضاء الروائي، ووضعها ضمن تصنيفات ثلاثة، هي:

أولا: شخصيات مرجعية: وتمثلها الشخصيات التاريخية، مثل نابليون على سبيل المثال في رواية دوماس، والشخصيات الأسطورية ومنها فينوس، والشخصيات المجازية كالحب أو الكراهية، والشخصيات الاجتماعية كالعامل الفارس.

ثانياً: شخصيات واصـــــلة أو (إشارية): وتمثل علامات على حضــور المؤلف أو القارئ من خلال الضمير، أو من خلال حضور الشخصيات الناطقة باسم المؤلف.

ثالثا: شخصيات متكررة (استذكارية) وهدفها أن تقوم بوظيفة تنظيمية لاحمة، فهي تعد علامات مقوية لذاكرة القارئ، وغالبا ما تظهر هذه الشخصيات في الحلم أو مشاهد الاعتراف والبوح، حيث تنشأ شبكة من الاستدعاءات والتذكيرات والاسترجاعات، كما يذكر حسن بحراوي في كتابه «بنية الشكل الروائي».

إن أهمية شخصيات الفئة الأولى تبرز بما تمثله من أثر بنائي، فهذا النوع من الشخصيات يصنع صورة مكثفة، حيث تحتفظ الذاكرة بعناصر مميزة، منها ما يجعلها قابلة للاشتغال كرموز لحالات حياتية تحيل إلى سلسلة من القيم والمواقف كما يبين فيليب هامون.

إن تصور هامون للشخصية في كتابه، يكاد يكون الأقرب لتبني منظور علمي واضح، وذلك بما يحتويه من واقع شمولي للتعامل مع الشخصية الروائية، من حيث المفهوم والإجراء المتبع عند دراسة هذه الجزئية، وهي غالباً ما تتضافر مع تنظيرات المدرسة البنائية، ولكنها من جهة أخرى تمكّن الكثير من الروائيين من بناء الشخصية ضمن تصور فني، بالتجاور مع تصور ذهني لتكوينها في العملية السردية، وقدرتها على أن تكون جزءا عضوياً في العــــــمل الروائي، فمعـــظم الكتابات السردية تتخللها انهيارات فنية نتيجة عدم القدرة على فهم الأبعاد الفنية والتكوينية لبناء الشخصية، ما ينعكس على مقاصد العمــــل، وتلقيه، بالإضافة إلى ظاهرة الحشـــو السردي، فكثير من الروايات تتضخم نتيجة رغبة الكاتب في خلق عمل سردي مقنع، إلا أنه يفقد أدواته، وبالتحديد في بناء الشخصيات فيندفع إلى محاولة الإضافة والشرح، وربما تحميل بعض هذه الشخصيات مقولات أيديولوجية كي يتمكن من إضافة محمول فكري لعمله السردي، وبذلك بدأنا نتلمس بعمق الكثير من إشكاليات الرواية المعاصرة من ناحية فنية نتيجة عدم تمكن بعض الكتاب والروائيين من إدراك بعض العناصر المركزية في تشييد العمل الروائي، ولاسيما الشخصية.

٭ كاتب فلسطيني أردني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى