صفحات سوريةعلي جازو

في أصل الحكاية السورية/ علي جازو

 

 

ثمة أحداثٌ تتحوّل إلى حكايات. دمُ الحقيقة ولحمُها يتحولان إلى هواء. وبعدما تتحول الأحداث – الجرائم إلى حكاياتٍ هوائيّة، يجري نقلها من فم إلى فم ومن حالة إلى أخرى، إذ يخف ثقلها ويسهل نقلها. ولأن الأفواه مختلفة والأحوال متقلبة، نحظى بأكثر من حكاية لواقعة واحدة وحدث واحد.

فمن أوائل ربيع 2011 حتى اليوم، حدثت وتحدث وقائع غريبة وأحداث عجيبة لم يعهدها أحد في سورية من قبل، وإلى الآن لاتزال محل شكّ: هل كانت حقيقية بالفعل؟ هل حقاً خرج الملايين إلى الشوارع خلال أشهر قليلة، ثم اختفوا فجأة، وحل محلهم خراب مذهل وحرب مثل أفعى لا ترى ذيلَها من فمها!

حدثت للأسف مؤامرة كونية لا سابق لها في تاريخ البشرية كلّها. فقد صدّق معظم السوريين الذين خرجوا ضد النظام السوري أن العالم لن يتركهم وحدهم. هنا للأسف كانت بداية المؤامرة؛ إذ إن المتآمرين ضد أنفسهم، أعني السوريين، تَخادَعَوا في ما بينهم وصدّقوا ما يُفترض عادة أن يصدقه عاقلٌ.

قالوا: «إنْ حدثت مجزرة أخرى فلن يبقى الحال على ما هو عليه. لا شك في أن أحداً ما سيقول كفى، وسيقرن القول بالفعل وننتهي من هذه المصيبة التي أوقعنا أنفسنا فيها». وكما هو متوقع وقعت المجزرة الأخرى، وانتظر من خرج ضد الجريمة من يقف معه بوجهها ويقضي عليها. لم يأت أحد! حقاً لم يأت أحد؟ لكنهم قالوا، جميعاً، إنهم معنا، إنهم لن يقفوا ساكتين بعد اليوم. ما الذي أخّرهم؟!

«حسناً، لن نفقد الثقة في البشرية ولا في الحس الإنساني. بالتأكيد سيأتون لإنقاذنا في المرة المقبلة، بعد المجزرة التالية». هكذا قال البعض، «إذا بلغ عدد القتلى خمسين ألفاً سيتدخل المجتمع الدولي، قال آخرون…، فيما البقية بدأوا يفكرون بجدية أن ثمة خطأ من قبلهم، أنهم قد ساروا على الطريق الخطأ، وآن لهم التراجع. ثم في يوم عيد حدثت مجزرة أخرى. حينها قال متفائلون محزونون: «الآن حانت الساعة. سيأتون لإنقاذنا سريعاً هذه المرة». لكن الخيبة أطلت برأسها، وثمة من مدّ لسانه شامتاً، وثمة من وزع الحلوى وأولم وأقام الأفراح!

هنا أخذت الوساوس تأخذ مكانها: «ثمة خطأ. بالتأكيد ثمة خطأ. ربما هناك أحد ما، لم يفهمنا بعد، ربما يجب أن نحاول مرة أخرى، أن نرسل رسالة مفصلة بما يجري، أن نصور بدقة وبالتاريخ واللحظة والمكان والأرقام والوجوه كل ما يحدث…». فصارت هناك مراكز توثيق ولجان حقوقية، ومؤسسات رصد ومتابعة، ثم صارت مراكز إغاثة، ثم كثر اللاجئون، وفاضوا على البلدان المجاورة، ثم سلكوا طريق البحر وفاضوا على البحر، ثم… ثمّ ظهر الخط الأحمر وبان عن الخط الأبيض واستُخدم السلاح الكيماوي!

خلاص، إنها النهاية. خلال أربع وعشرين ساعة سيتغير كل شيء. لكن مضت ثمان وأربعون ساعة، وجرى ما جرى، وأضيفت إلى مراكز التوثيق، وحملات الإغاثة والدعم، لجنة لنزع السلاح الكيماوي، إذ إن المشكلة الحقيقية كانت في نوعية السلاح لا في يد القاتل ولا في استمرار القتل، فالأخير يقوم بما قام به من قبل، ولم يغير من سلوكه الثابت المعهود، وتلك كانت النقطة الأساسية التي غفلنا عنها منذ البداية، «قالت القلة القليلة ممن تبقى». فأصل الحكاية كلها، أن هناك قاتلاً، ولأنه كذلك، لأن القتل وظيفةٌ عاديةٌ من ضمن وظائف أخرى بشرية عادية كالقلق البان كي مونيّ والتنديد المهذب الكلاسيكي والإغاثة المتلهفة للضحايا وحملات الدعم النفسي للمعطوبين، والدورات التدريبية على طرق حل الصراع، والأساليب الجديدة في إجراء الحوار وحفظ حقوق الأقليات والأغلبيات… الخ.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى