أحمد عمرصفحات الثقافة

في أنّ حلب أمّة/أحمد عمر

 

 

كنت أجادل صديقي الحلبي أبو المجد، في أنّ حلب غائبة بروحها عن قصص وروايات كتّاب حلب وأدبائها، ترد أسماء حاراتها لفظا وتمجيدا في شعر أبي الطيب المتنبي الحلبي، وفي كثير من النصوص الأدبية والشعرية، لكن روح حلب غائبة!

لا أدّعي معرفة بأدباء حلب، قرأت رواياتٍ لوليد إخلاصي، ومحمد أبو معتوق، وفاضل السباعي، ونادر السباعي، وقصصا لبسام سرميني، وبشار خليلي.. فلم أجد رائحة حلب فيها، ورائحة حلب مفعمة، قوية، تجدها في أمثالها السائرة، وفي الأناشيد الصوفية والقدود والابتهالات، وفي اللهجة الحلبية، وفي المائدة الحلبية. ما إن تقرأ سطرين لكاتب مصري، حتى تشعر بحضور مصر، ستجد القاهرة عند نجيب محفوظ أو الإسكندرية في كتابات ادوار الخراط، أو فضل الله عثمان، أو إبراهيم أصلان، وقد بدأتْ باكرا رحلة تمصير القصة المصرية، وهذه قاعدة تسري على كل الكتاب المصريين، المصري استطاع تمصير القصة بيسر، وبقيت حلب في فن القصة عربية اللسان والفؤاد، ولم تتحلّب. فوافقني، وشكرني على الملاحظة، وذهب إلى تفسير أوليّ، أوّله بالنسب، فهؤلاء الكتّاب ليسوا حلبيين بالأصل، هم وافدون إليها، ولكني لم أرتح لهذا التفسير.

مصر كانت معزولة، ومحاطة بالصحراء، بينما كانت حلب على طريق الحرير، كانت دوما مدينة عالمية ثم إسلامية، ثم صارت سليلة الخلافة، عارضني قليلا، ورأى أن حلب تتراءى قليلا في نصوص متفرقة، مثل رواية محمد شويحنة “ورد الليل”، وفي رواية “رياح الشمال” لنهاد سيريس، وحدها دون غيرها من كتاباته، الدراما التلفزيونية أمر آخر، وفي قصص متفرقة لبعض الكتاب مثل بشار خليلي.

تابعت مجادلاً، فذكرت مجموعة “خان الورد” لوليد إخلاصي، وقلت: لو أننا غيرنا اسم الحي، إلى حي دمشقي، أو حي في درعا، لما تغير كثير أو قليل في النصوص، وتابعت الاستشهاد بالأمثلة المضادة، فذكرت سليم بركات في رواياته الأولى، حيث البيئة الكردية حاضرة بقوة، وعبد السلام العجيلي في قصصه البدوية، وقصص رحلاته، التي تهب منها أنفاس الصحراء، وقيمها، وعادتها، ولهجتها، وتساءلت: لا أعرف فنانين حلبيين؟

– هذا صحيح: فكل النحاتين في حلب تركمان، وأكثر المصورين أرمن، وأغلب الرسامين كرد. المسلم العربي يميل إلى التجريد.

ذكرَ موسوعة الأسدي، وهي موسوعة علمية مقارنة، تذكر بعمل جمال حمدان في مصر، وربما بموسوعة المسيري، مع خلاف ودرجات، لكنها عمل علمي غير أدبي، الحلبيون أهل تجارة، يكتبون بالفصحى. الشام كانت عروبتها دائما تغلب وطنيتها، القوميات والكيانات لا تناسب بلاد المسلمين العربية عامة، والشام خاصة. وهذا يسري على دمشق، فلن تجدها في كتابات أهلها، سوى في آثار الموهوبين منهم مثل: نزار قباني، وغادة السمان، بعد تغريبها في كثير من الزينة اللغوية، والمجازات. رفيق الشامي كتب عن أهل الشام، لكن بلغة ألمانية، زكريا تامر نحا مغتربًا نحو كافكا، متأثرا بالأدب العالمي، وكتب قصصه بلغة جديدة على القص العربي، أظن أنه عانى من الاحتلال الطائفي باكرًا فاغترب.

إدلب على خلاف ذلك، يظهر في كتابات أهلها القول الشعبي ظهوراً واضحاً، بدءا من مواهب كيالي، وحسيب كيالي، وتاج الدين الموسى، وخطيب بدلة، ونجم الدين سمان.. وسواهم.

قال: لأنها قصص ريفية.. فإدلب يغلب عليها الطابع الريفي، أما حلب، فحاضرة عريقة، والمدينة تطمس بعض الخصوصيات.

تجرأت متهيبًا، وبحتُ بما يجول في صدري، قلت: أشعر أن زملاءنا وأصحابنا الحلبيين الذين نجلس إليهم في المقهى مسلمين، ولكن من بني إسرائيل. أزداد الاعتزال طبعا مع الحركة التصحيحة الغازية الهابطة من الجبل؟

فضحك وأيّدني، وقال: هذا صحيح، العائلات الحلبية تعيش في غيتو. والحلبيون لا يتزوجون إلا من بعضهم البعض. الأعراس و الموائد والابتهالات شيء والكتابة أمر آخر، هنا يمكن أن تتذكر قول القائلين العربية لغة مقدسة وهم يقولون ذلك في معرض الشكوى والهجاء. يريدونها لغة “مدنسة” مثل لغات الأرض.

شكوت إليه، وقلت: لم يحدث أن دخلت بيتا حلبيًا، حدث أن دخلته مرة، فوجدت أن أهله من ريف حلب.

قال: من يعبد المال، فهو من بني إسرائيل، بنو إسرائيل عبدوا المال. وهم أهل تجارة ومال، تجلى إبداع الحلبي في أمور : خيط الحرير، فخبراء الخيط هم أعلى الناس أجورًا في حلب، وفي طعام المائدة، حلواً وحامضاً وحادًا، وفي الموشحات والقدود.

سورية كلها هبّتْ، وبقيت حلب ترفع شعار النأي بالنفس، مثلها مثل لبنان والأردن، حلب دولة كاملة. القصد أن حكومتها مالية، كان التجار مذعورين من الثورة، وكان شباب حمص في السنة الأولى من الثورة، يقصدون حلب، ويقومون بمظاهرات في بعض أحيائها، لإيقاظها، وعندما انخرطت في الثورة، تدمرت. كان أعيانها التجار، وأصحاب المصالح مرعوبين من الثورة، بل إنهم كانوا يساهمون في اعتقال الشبان القادمين من حمص لإثارة حماستها، ويبلّغون عنهم، كأنهم يقولون دكتاتور في القصر الجمهوري أحسن من عشرة على شجرة الثورة . رأس المال جبان، وحلب رأس مال سورية.

أخبرته أن البوطي ذكر مرة، أن بشار الأسد، صعق من حجاب النساء الحلبيات، عندما زار حلب للمرة الأولى، واشتكى ساخرًا له، فالنساء الحلبيات كلهن متحجبات، فوعظ البوطي الأسد، وقال: إنهن أصحاب دين، حلب مدينة تقوى.

حتى في ألمانيا، تجد الحلبية على عهدها نفسه، لا تتغير، بل إنني وجدت أسرًا حلبية ألمانية مغتربة منذ الثمانينيات، وأبناؤها المغتربون يتحدثون في البيت الألماني باللهجة الحلبية القديمة نفسها، ويواظبون على العادات والتقاليد الحلبية، ويدندنون بالقدود الحلبية، ويجمعون جمعاً غريباً بين متع الدنيا والآخرة، فهم يسمعون القدود الحلبية، ويحبون الطعام اللذيذ، والحلويات الثقيلة، ويحرصون على الصلاة والصيام.

قال: هل تعلم أن عبد الرحمن الشهبندر مؤسس حزب الشعب، كان لحزبه فروع ومكاتب في كل المحافظات إلا في حلب، فتصور!

قلت موافقًا: حتى أنه كان للإخوان المسلمين، فرعان، يتزعم عصام العطار الفرع الشامي، وكان أكثر صلابة من أبي غدة، زعيم فرع الإخوان الحلبي، الذي خدعه النظام، فعاد بأمل تسوية ملف الإخوان، لكنهم أهملوه، واكتشف اللعبة، فعاد إلى المنفى، هاربًا من القفص.

قال: إن حلب ظلت مخصوصة بتعيين ولاتها وقضائها منها، وليس من خارجها كما باقي المحافظات، حتى في عصر الأسد الأب، وهذا نادر، ولم تكسر هذه القاعدة إلا في عهد بشار الأسد، لم يحدث أن تولى بلدية حلب من هو من خارج أهلها، سوى مرة واحدة في عصر بشار الأسد! الوريث كسر القواعد كلها لاحقًا. أدخل الغزاة إلى سرير سورية في الليل والنهار.

أول قصيدة نثر، خرجت من حلب، كانت لأورخان ميسر، وهو تركماني الأصل، ومعه علي الناصر، وأول قصة عربية، كتبها مواطن من حلب، هو علي خلقي، وأول مطبعة عربية، جاءت إلى حلب، وأول رواية عربية كانت لفرنسيس المراش. أما الصحافة، فدخلتها باكراً من أجل الربح، كانت الصحف رابحة أيام زمان، حلب كانت دولة، ولا تزال، فها هي آثار مكاتب سفارات البندقية وجنوة وبلجيكا.. كانت بنك العالم العربي، فيها أعرق مكاتب الصرافة.

كانت دائما قادرة على صهر الناس فيها، أتعرف انه ليس في أعمال حلب (قراها) قرية مسيحية واحدة، وكل المحافظات السورية، لها قرى مسيحية تتبعها!

ذهلت فقال: القصة تشبه التأليف الإسلامي الأول، تذكّر معي مقولة: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.. أصدر السلطان العثماني رداً على إبراهيم باشا، الذي كان ينافس السلطنة، بتوزيع الأملاك السلطانية على أهالي حلب، فدخلت الطوائف كلها في الإسلام طمعاً، وذابت في الإسلام. وربما احتفظ بعضهم بدين المال والطعام.

قلت : لم نجد تفسيراً لغياب البيئة الحلبية عن القصة والرواية الحلبية.

قال: عروبة أهل الشام تغلب سوريتهم الوليدة، أو ما يسميه السوريون الثاقفون: نقص التكوين الوطني، انظر إلى أسماء نواديهم: اتحاد الكتاب اسمه اتحاد الكتاب العربي، المركز الثقافي اسمه المركز الثقافي العربي، الجمهورية اسمها الجمهورية العربية السورية، هذا كامن وضامر في خطابهم الروائي والقصصي. حلب أمّة، والشام أمّة، كل سوري أمّة ، والأمة في غمّة وطمّة.

قلت جرياً على عادة الكتاب الأوائل في التواضع، وغموض أسرار الوجود: والله أعلم.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى