صفحات سوريةمصطفى كركوتي

في أن اقتصاد الحرب يطيل عمر الأسد/ مصطفى كركوتي

 

 

الحرب في سورية، مثل أي حرب أهلية أخرى، لها اقتصادها المنتعش على أشكال متنوعة من الخراب والفساد والتوحش، تأكل من جسد الدولة وتنهش جهد الأفراد وتُفسد السلوك العام في آن. ولعل لبنان وشعبه يعرفان أكثر من غيرهما، وبالتجربة القاسية، توحش اقتصاد الحرب خلال أطول نزاع أهلي شهده العالم في القرن العشرين ودور مؤسسات النظام السوري المختلفة في عمليات النهب طوال الفترة ما بين 1976 و2005. فإضافة للبلايين الستة التي تحقنها إيران سنوياً في شرايين ذاك الاقتصاد، فإن حكومة بشار الأسد تراكم منذ 2011 مداخيل ضخمة بسبل غير شرعية، كالرشاوى التي تتحصل عليها من مواطنين يائسين يبحثون عن «مفقودين» من أسرهم.

فوفقاً لتقرير حديث العهد لـ «منظمة العفو الدولية»، في لندن، بات حصد الأموال من السوق السوداء المتنامية يوماً بعد آخر أمراً عادياً، إذ يضطر البعض لدفع مبالغ هائلة لمجرد معرفة مصير مفقوديهم»، دعك عن الإفراج عنهم. وفي الحروب عادة، كحال الحرب في سورية الآن، تصبح الرشاوى والفدية ممارسة عادية وجزءاً من المناخ العام بين صفوف المسؤولين في الدولة وحتى لدى صغار موظفيها، وتنتشر ظاهرة الوسطاء وتجار الرهائن. وإذا تمكنت «العفو الدولية» وحدها من رصد نحو 75 ألفاً «فُقِدوا» خلال أقل من أربع سنوات، فمن الطبيعي أن يتوقع المرء أن يكون العدد الحقيقي للمفقودين أو المخطوفين أكبر من هذا الرقم بكثير، عبر سلوك بات محرّماً دولياً ويصنَف ضمن «الجرائم ضد الإنسانية». وكاتب هذه السطور يعرف شخصياً حالة «مفقودين» ثلاثة في السنوات الثلاث الماضية، اثنان منهم سُدِّدَت فديتهما بمئات آلاف الدولارات ولكن لم يجرِ تسليمهما، وثالثهم عجزت أسرته عن تجميع المبلغ المطلوب، وهو لا يزال مصنفاً في عداد «المفقودين» حتى الآن.

ومعروف أن «المفقودين» قسراً لا يقتصر أمرهم على النشطاء السياسيين، بل يشمل أيضاً متظاهرين سلميين وصحافيين ومهنيين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان ورجال أعمال أبرياء. ويتم استهداف آخرين فقط لأنهم أقرباء لمعارضين مطلوبين من النظام. وبين هؤلاء، حالة مميزة هي الدكتورة رانيا العباسي، وهي طبيبة أسنان، اعتقلت في 2013 ومعها أولادها الستة وأعمارهم بين 6 سنوات و14، بعد يوم واحد على اعتقال زوجها إثر مداهمة منزلهم في دمشق. وهناك سوري آخر اختطفت السلطات إخوته الثلاثة ثم طلب «أحدهم» منه أن يسدد مبلغ 150 ألف دولار بغية معرفة مصيرهم. وقد جمع الرجل، بعد عناء، المبلغ وسدده للجهة المعنية، ولا يزال ينتظر رؤية شقيقه «المفقود» في تركيا التي هرب إليها خشية أن يكون هو التالي على لائحة المخطوفين.

بطبيعة الحال معروفة هي روايات «المفقودين» التي نسمعها بانتظام بين حين وآخر ودور مسؤولي أمن النظام فيها، في مناخ مفعم بالفساد يرجع إلى 45 عاماً من عمر حكم سلالة الأسد. وأهل مناطق الشريط الساحلي في سورية يعرفون جيداً ذاك التاريخ المؤلم الذي تفاقم الفساد في حاضره الراهن عشرات المرات نتيجة الحرب التي رفعت درجة ممارسته إلى مستويات عالية. ويقول محامٍ لـ «العفو الدولية» إن الرشاوى باتت الآن ضخمة ومتكررة وأصبحت» مثل البقرة الحلوب… تمد النظام بموارد مهمة». وبعض الأسر المنهكة واليائسة تضطر لبيع عقاراتها أو تنفق حسابات توفير حياتها لدفع الرشاوى، فقط لقاء الحصول على معلومات حول مصير أقربائها وأفراد أسرها.

هذا النوع من الممارسات ليس جديداً وهو معروف جيداً لجميع السوريين، بمن في ذلك رجال الأعمال الذين تعاملوا مع المسؤولين على كل المستويات، حتى في زمن «الاستقرار» في عهد الرئيس حافظ الأسد. وثمة رواية جديرة بالذكر في هذا السياق، وهي رَدُّ أهم رجل أعمال في سورية آنذاك، «شيخ» تجار دمشق الراحل بدر الدين الشلّاح على سؤالٍ لي في لقاء معه في 2 كانون الأول 1992 عن «سرِّ نجاح إدارة الأسد للبلاد»، حيث قال: «بدّك تعرف ليش؟ أوقف آلة التسجيل أولاً. الحكم السابق (صلاح جديد ويوسف زعيّن إلخ) صادرنا وأمّم مصالحنا، أما الأسد فدخل شريكاً معنا».

وليس هناك أكثر خبرة، إلى جانب السوريين، في التعامل مع فساد نظام دمشق عبر تاريخه الأسدي من اللبنانيين وعلى مستويات مختلفة. فبالإضافة إلى الفساد الواسع على مستوى الدولتين، كم من هؤلاء رَهَنَ سلامته الشخصية وأمن ممتلكاته بدفع الرشاوى، الكبيــرة والصغيرة، لجنود وضباط النظام أثناء وجودهم في لبنان على مدى ثلاثة عقود تقريباً. ويكاد يكون الوضـــع الراهن في مناطق سيطرة النظام في سورية مماثلاً لما كان عليه الوضع في لبنان سابقاً. فالعابرون في هذه المناطق يحاولون التنقل بقليل من النقد في جيوبهم، ويلجأ كثيرون من أصحاب المهن المختلفة، بمن في ذلك بعض التجار، إلى المبيت الموقت في أمكنة مختلفة بين الحين والآخر خشية الخطف والابتزاز.

في سورية الآن، تصعب معرفة من «يحصّل» الرسم وإلى أين تذهب الرسوم. في لبنان، على الأقل، كان الجميع يعلم بوجود ثلاثة أجهزة استخباراتية، العسكرية والعامة والجوية بالإضافة إلى الحواجز «الطيارة» طبعاً. وطوال فترة الوجود السوري، برز اسما ضابطين هما غازي كنعان ورستم غزاله، حيث قيل تفكّهاً إن الأول مات منتحراً برصاصتين في دمشق، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في2005، ومات الثاني في العاصمة السورية في «ظروف غامضة». والرجلان ليسا معروفين للسوريين واللبنانيين في آن خارج إطار السطوة والفساد، مما لا يزال يشكل في ظل الحرب الأهلية في سورية، سمة المناخ السياسي التي تميز نظام دمشق.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى