صفحات الرأي

في أي زمن تعيش بلدان المنطقة وصراعاتها؟/ حسن شامي

 

 

سبق لمؤرخين وفلاسفة مرموقين أن اعتبروا القرن الثامن عشر الأوروبي لؤلؤة الحقبة المتولدة من النهضة والأنوار واعتناق الفكرة الإنسانية، باعتبارها الأساس المعنوي والأخلاقي للحق الطبيعي الذي يتكافأ في نيله كل البشر. تشكّل في أوساط اجتماعية متنورة ومستنيرة نوع من الإجماع على اعتبار هذا القرن بالذات نقطة التأسيس المضيئة للحداثة الأوروبية ومشتقاتها ومستلزماتها. ففي هذا القرن جرى بالفعل استئناف الفكرة الإنسانية التي بدأت تشق طريقها في القرنين السابقين. واستدعى ترسيخها وتحصينها صوغ نظريات فلسفية وأدبيات تعليمية، وابتكار أفكار ومفاهيم تسمح بمساءلة كل شيء مساءلة نقدية. وانصبت هذه المساءلة النقدية على تعريف المجتمع والسلطة نفسهما وعلى تعريف الصيغة المثلى للمجتمع المستقر والحكم المسترشد بمبادئ العقل وتقدير المصلحة العامة والخير المشترك.

من الصعب أن نجد مثل هذا الإجماع على المسار الذي سلكه القرن اللاحق أي التاسع عشر. هناك من اعتبر أن الفارق الأساسي بين القرنين المذكورين يعود إلى تبدل موضوع العمل والمعرفة النقديين أو مادتهما. ففي القرن الثامن عشر كان الداخل الوطني والأوروبي هو إطار النقد الحداثوي الحر وموضوعه. هذا الانكباب على الداخل فتح باب المناظرة على قضايا السيادة والحدود الترابية والجنسية والقومية، ولكن من دون أن تستحوذ هذه على جملة الاهتمامات ومن دون أن تختزل التنوع الاجتماعي إلى مجرد انعكاسات لهويات فرعية ينبغي تذويبها بالقوة في المصهر القومي. أما القرن التاسع عشر فهو قرن الاعتداد بالهوية والنزاعات القومية ودورها في الدمج الوطني، وهو كذلك قرن التوسع والنشاط الكولونيالي واختبار كيفية تطبيق المبادئ الكبرى على كيانات وتشكيلات تاريخية وثقافية أخرى ومختلفة.

الانقسام حول القرن التاسع عشر كبير ويكاد يلخّص المآلات اللاحقة لمسارات الحداثة الأوروبية وقيمتها العالمية أو المتطلعة إلى العالمية. فهناك، في الحد الأدنى، من اعتبر الوجهة التي سلكتها القوى الأوروبية في هذا القرن انحرافاً عن مبادئ القرن السابق وتطلعاته الفاضلة والنبيلة. وهناك، في الحد الأقصى، من اعتبر هذه الوجهة أكثر من تزوير إذ رأى فيها خيانة لمبادئ وقيم التأسيس الحداثوي. أصحاب هاذين الرأيين لا يعدمون العثور على شواهد وأسانيد تاريخية قوية تعود إلى غليانات القرن نفسه. فليس من قبيل المصادفة أن تكون كبرى الفلسفات النقدية والاحتجاجية إلى حد الرفض الجذري قد تبلورت في غضون هذا القرن الحافل بالتوسع والاضطرابات الداخلية والحروب القومية. يكفي أن نشير إلى نشأة الماركسية كنظرية فلسفية وكمشروع سياسي لتقديم تصور طوباوي آخر وحديث عن المجتمع والسلطة الفاضلين. ينبغي بالطبع أن نلحظ أيضاً التجارب المعرفية والفلسفية النقدية ذات الهم الوجودي والنفسي- الفردي، وهي تجارب رائدة في الحفر والغوص في أعماق القلق البشري، كما هي الحال مع نيتشه وفرويد. بعبارة أخرى هناك وجهان متعارضان للحداثة.

قد يكون هذا العرض المختصر جداً مدخلاً مناسباً لفهم الزمن الذي نعيش فيه. فمع أن مجتمعاتنا عبرت القرن العشرين وحربيه العالميتين ونظمه الكولونيالية والانتدابية والحرب الباردة ودخلت حقبة الاستقلال الوطني المفترض فإنها، على ما يبدو، لا تعرف ولا نعرف نحن في أي حقبة تتخبط هي ونحن. نهاية الحرب الباردة وانتصار الرأسمالية المندفعة نحو عولمة تأحيدية وتقنية معطوفة على الربحية السريعة المستندة إلى تحوير سوقي، في المعنيين الاقتصادي والأخلاقي السلبي، للمبادئ الليبرالية، هي من بين مقدمات الغموض الهائج الذي يلف مصائر مجتمعات كثيرة. فنحن نشهد، في كل بلد تقريباً، خصوصاً في بلدان الغرب المتمتعة باستقرار نسبي، صعوداً للنزعات القومية الضيقة وللحركات الشعبوية المستفيدة من خصخصة الحقل السياسي وازدهار النجومية الاستعراضية. رأينا هذا قبل أيام في الانتخابات الإيطالية، ورأينا ما يماثله وإن بمقادير وصور مختلفة، في الانتخابات الفرنسية ومن ثم الألمانية والنمساوية، ناهيك عن بلدان أوروبا الشرقية. وذروة الالتباس تكمن في انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا، وللعالم استطراداً.

يزعم كاتب هذه السطور أن هناك مؤشرات كثيرة على أننا، منذ عقدين في الأقل، نعيش قيمياً في القرن التاسع عشر. ولا نعني بذلك فقط تجدد اللعبة الكبرى، بين روسيا القيصرية والامبراطورية البريطانية، وعودتها في أشكال جديدة ومستجدة كالنزاعات التجارية التي يدشنها ترامب، وازدهار نزعات الانكفاء على البيت القومي المفترض كما يعززها ترامب أيضاً مع شعاره «أميركا أولاً»، أو اعتماد سياسات تقوم على تقديم أسعار تفضيلية للحلفاء والأصدقاء من دون استبعاد ابتزازهم بكافة الوسائل. نعني على نحو خاص توظيف الرصيد القيمي الإيجابي لتجربة تاريخية في وجهة لا تستبقي من هذا الرصيد سوى وظيفته الاستعمالية. فبهذه الطريقة تتحول مبادئ وقيم، مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان، إلى أدوات تستخدم انتقائياً و «حسب رأس الزبون» للترويج أو للضغط والتهديد. العلاقة الملتبسة هذه، بالأحرى الفصامية، هي من طراز العلاقة بين القرنين الثامن والتاسع عشر.

يستفاد مما سبق أن هناك منظومة للعلاقات بين المركز والأطراف جرى تشييدها في القرن التاسع عشر بمزيج من القوة والدهاء الديبلوماسي والكثير من تشبيك مصالح غير متكافئة. وهذه المنظومة عنيدة ولا تحتمل المراجعة التاريخية الجذرية مما يجعلها في نظر دعاتها أشبه ببنية ثابتة لا مجال لتعديلها. حماة هذه البنية يعرفون متى ينبغي إظهار المرونة والتراجع التكتيكي ومتى ينبغي التصلب والهجوم. هذه العلاقة تفترض أقل قدر ممكن من الاستقلالية وأكبر قدر ممكن من التبعية، وهذه القاعدة فرضت نفسها كأبرز مصدر من مصادر الشرعية السياسية للسلطة والسيطرة. تجارب «الربيع العربي» هي في نهاية المطاف تنويعات على هذه المعادلة. وقد يكون التخبط، إن لم يكن الإخفاق والفشل، الذي تعيشه بلدان المنطقة من مفاعيل هذه المعادلة.

لا يهدف هذا الكلام إلى إعفاء النظم السياسية والبنى الاجتماعية والإيديولوجيات من مسؤولية انسداد الآفاق الوطنية في هذه البلدان. بل على العكس. فالموضوع هو العلاقة بين هذه كلها وبين قوى السيطرة في المراكز الدولية.

قد تكون سورية اليوم أبرز حقل تجارب للعبة الصراع الإقليمي والدولي. ومن المؤسف والمحزن أن السوريين باتوا مادة هذه اللعبة ولحم مدافعها. معذبو الغوطة الشرقية يعيشون زمنهم الأهلي الخاص فيما اللعبة الدامية تعود إلى القرن التاسع عشر.

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى