رفيق شاميصفحات مميزة

في إحترام الآخر: المقدمة الأساسية لكل مجتمع ديمقراطي: رفيق شامي

 رفيق شامي

نشرت مجلة “دمشق” الصادرة في لندن مقالا لي دون سؤالي وأخذ موافقتي ودون حتى إطلاعي على نيتها. علمت قبل أيام بالصدفة، عبر رسالة صديقة تعيش في بلجيكا، أن المجلة الجديدة وضعت إسمي وعنوان مقال لي في قائمة كتابها ومواضيعها. وقد أعلن عن مشاركتي بمقال تحت عنوان: “مثقفون ومرتزقة. خواطر في الثورة السورية”. أنا لم انشر مقالا بهذا العنوان وأظن – لأني لا املك العدد إنما فقط صفحة دعاية له في الإنترنت – أنهم أخذوا مقالي الذي نشرته في “صفحات سورية” تحت عنوان : “في التكرار خواطر في الثورة السورية (4)” لأنه يعالج قضية الإرتزاق المتفشية بين المثقفين. و”صفحات سورية” التي يرأس تحريرها  الشاعر والصحفي حسين الشيخ لم تُسأل ولم يُطلَب منها موافقة، كما تقتضيه ابسط قواعد التعامل بين الزملاء والصحف.

تتحمل هيئة التحرير بكاملها مسؤولية ما تنتجه، وانا إذ أوجه نقدي للسيد نوري الجراح فإنما لأنه هو المسؤول الأول وأيضا لأنه هو من اصابني بالإحباط. إنه إحباط من تحول واحة خضراء تعد العطشى بحرية الكلمة العذبة… لسراب، إنه ذاك الإحباط أن يغري احدهم جائعا بتفاحة أو ببرتقالة، ليكتشف الجائع أنها حجر ملون.

هذا التصرف مؤلم جدا لأنه تم بمسؤولية السيد نوري الجراح المتمرس مهنيا والذي شارك في إدارة مجلات ( الفكر والناقد والقصيدة والكاتبة) والذي يعيش في لندن منذ أكثر من ربع قرن حيث يحق لكل كاتب مقاضاة حتى رئيس الورزاء إذا اخذ هذا نصا للكاتب ونشره دون إذن رسمي خطي ولم يقدم النص المُزْمَع نشره للكاتب ليقرأه ويوافق أو يرفض (لتغيير محتوى أو شكل أي مقطع).

السيد نوري الجراح شاعر وكاتب محترف وقد نشر عشرات الكتب في الشعر وغيره وهو من مؤسسي رابطة الكتاب السوريين التي خرجت كوليدة للثورة لكي تدافع عن كرامة الكتاب ولتكون تجمعا نقابيا مهنيا وليس عقائديا كما هو الحال مع إتحاد الكتاب العرب عدو الكلمة وعميل السلطة.

ما الذي ينقص نوري الجراح لكي أرشده إليه؟ خبرة؟ لا، أبدا. معرفة حقوق الكتاب؟ لا أظن. لا ينقص السيد نوري الجراح  سوى إحترام الآخر، إحترام الكاتب وإنتاجه، الذي كان لوحده سيملي عليه واجب السؤال لطلب إذن بنشر ما أمضيت الساعات الطوال في كتابته وطلب إذن ثاني لتغيير عنوان وضعته بدقة.

لماذا لم يقم السيد نوري الجراح بسؤالي؟

أجابتني الصديقة المذكورة أعلاه، انه قد يكون نشر المقال لإحترامه وتقديره لي وأنه قد يكون فشل في الحصول على عنواني الإلكتروني. رفضت تبريرها. نحن شعب متخصص  بتفوق بالتبريرات. نوري الجراح لم يلتفت طيلة فترة ثلاثين سنة لأي عمل من كتبي الذي تجاوزعددها الأربعين والتي نشرت بلغات يتقنها، ولا إلى مقال أو مداخلة لي باللغة العربية. ومن جهة ثانية عنواني وعنوان  “صفحات سورية” التي تشاركني بملكية حقوق النشر معروفة حتى لأقرب أصدقائه في لندن. وكل كلمة غير ذلك كذب رخيص يحتضن ضمنا إحتقار الكاتب.

جواب هذا السؤال الصريح يمس قلب موقف الناشر من الكاتب، الجواب يتألف من أربعة أجزاء تكمل بعضها البعض وتتواصل لتبني مربعاً بشعا:

أولا: لم تتعلم دور النشر ولا أغلب الصحف والمجلات ان نشرها لكاتب ما ليس حسنة منها إليه وشفقة عليه بل هو حجر أساس مؤسستها، لا يقوم لها قائمة بدونه وهي تنمو به وعبره، ويميزكل مؤسسة نشر عن منافسيها ليس من يملكها أو يديرها بل كتابها وكاتباتها.

ثانيا: ان اغلب دور نشرنا وصحفنا ومجلاتنا تدعي أنها من إخراج وصنع وتصميم عدد هائل من الأخصائيين ومجلس إدارة طويل عريض، يا ولداه!!! يخيف بإسماء المشاركين به الأعداء ويدهش الأصدقاء حتى الثمالة. لكنك إذا نظرت عن قرب لوجدت أن احد الكتاب أوالبيروقراطيين الديناميكيين المتمرس في صنعته، وأحيانا الناشر بشخصه هو المحرك لكل شيء وأن الباقين خيال صحراء يسعدون بتسميتهم بشكل يثير الشفقة. من هنا تظهر الصحف والمجلات بأهوائية عاملها النشيط هذا وبنزاقته وهو الذي يتحمل فعلا كل أعباء إخراجها. وهل من المعقول أن يستطيع شخص واحد إخراج صحيفة أو مجلة بكاملها دون أن يطبعها بعقليته وأن يكون قادرا على التعامل مع كل  كتابها بإحترام وحثهم على الإرتباط بالمجلة لتصبح وطنهم؟ لا يمكن ذلك، هذا ليس رأيي بل هي الحياة التي برهنت على ذلك. وكلما كان التطبيق العملي مزريا كلما زاد تأكيد هيئة التحرير لشعارات طنانة ونوايا طيبة لهذه المجلة التي ستحرر الإنسان من عبودية النظام السابق. الواقع يظهرها بمظهر آخر فهي على الأغلب ليست حرة ولا تحترم رأي الآخرين، لا يعرف أحد شيئا عن برنامجها قبل صدورها علنا، بل تظهر بعد عمل سري كامل كمفاجئة للجمهور وهذا التفكير ينتج عن النزعة التآمرية لأحزابنا والتي نتجت بدورها عن الديكتاتورية التي لاحقت هذه الأحزاب لتفنيها، فتحولت الأحزاب لفرق دينية سرية تنزع للتآمر بدل توعية الناس. لا تنتج هكذا مجلة تريد أن تكون مساحة حرية للثورة وللإنسان السوري المتحرر عن نقاش واسع بين المثقفين والكتاب حول ما نحلم به او نتمناه من مجلة ستسمي نفسها وطننا. لا، ابدا، مؤسس المجلة لا يحتاج لذلك. يكفيه حلمه وتصوره وتمويل كافي. رأي الآخرين يصبح شتيمة حساد. ونقد عمله يصبح الإبن المشوه لناكرين جميله، الذين أمضوا السنوات دون أن يقوموا بنصف ما قام به.

الإستئثار بكل شيء يولد أنبياء كذبة وهو لا يزال سائدا في عقليتنا البدوية العربية ولا يمكنه مهما طابت نية حامليه أن يبني مجتمعا ديمقراطيا[1].

إحترام الآخر هو أساس المجتمع الديمقراطي فهو مقدمة إحترام حرية الآخر ورأيه المختلف، وهو مقدمة التسامح البناء وهو كابح للثأر لأن الثأر يحتقر الإنسان ويحولة لهدف طلقته او طعنته أو شتيمته. والإحترام هو أكبر عقبة في وجه الإرهاب السلطوي كالذي عانينا منه في بلادنا، ففي مجتمع تسوده الديمقراطية لا يحق لأي أنسان ان يعذب، أو يضطهد او يحتال على إنسان آخر.

كل ما أعدده عن الإحترام هو من بديهيات العالم الحر الديمقراطي، ومن يحتقرها سواء كان ناشرا أو رئيس تحريريظل ضعيف المصداقية ولا يقنع سوى ضعاف النفوس ممن يلهثون وراء نشر ما يكتبون.

 ثالثا: لو قرأ السيد نوري الجراح شيئا مما كتبته منذ أربعين سنة لما نشر جملة واحدة لي دون سؤالي. فأنا أعتبر هذا الإحترام أهم من كل ما يصرح به شخص يريد نشر كتبي أو مداخلاتي الإجتماعية السياسية. كل تعامل مع نصوصي دون سؤالي أعتبره تمسحا سمجا بي لا أطيقه. ويزداد هذا التمسح في السنوات الأخيرة لعدة اسباب ليس آخرها رغبة بعض المعارضين الذين تعاموا عني أن ينسوا ما مضى ويضعوني دون سؤالي في قائمة أصدقائهم، وأنا مع إحترامي لهم لا أريد هذا التشريف. كما يحاول بعض الموالين السابقين للأنظمة الديكتاتورية ان يظهروا بحلة جديدة كأصدقاء للكتاب المنفيين. فجأة يريدون مقابلتي والحوار معي في  برنامج لفضائية خليجية. أو فجأة يدعوني للمشاركة في مؤتمراتهم ولإلقاء الخطاب الإفتتاحي في الدفاع عن سوريا وهم الذين قاطعوني لأربعين سنة في بلدنا المهجري المشترك المانيا ( خاصة أولئك الذين اسسوا برعاية السفارة والمخابرات السورية تجمعات للسوريين). احدهم ظل ينشد بوقاحة لبشار الأسد حتى نهاية 2011 والآن صار مناضلا عنيدا ضده…لو كنت املك خرزة زرقاء لأهديتها له لتحميه من الحسد لهذا الغنى الفاحش بالغباء.

 لقد تجاوزت بإجتهاد وشيء من الحظ جدران الصمت المميتة التي ضربتها أنظمة التعسف العربية حولي (لمصلحتها ومعرفتها بالضبط ما الذي أكتبه) لكن أكثر تلك الجدران ضيما كانت من أحجارتعامي أجزاء كبيرة من المعارضة (جبنا وجهلا بما اكتبه) تجاهي وصل إلى حدود مزرية كرفض أحدهم ترجمة رواية لي للعربية. والآن بعد كل هذه السنين لا اسمح لأحد بالتمسح بي خاصة أولئك الذين تلوثت ايديهم بدهن موائد الحكام. لقد رافقت بإهتمام بالغ ما أصيب به المرحوم محمود درويش الذي تحول لثوب عثمان. كل عميل للمخابرات السورية، العراقية، الليبية أو غيرها صار يسمي نفسه علنا “صديق محمود درويش” متمسحا به، وقد أخطأ شاعر فلسطين الكبير بقبوله وصمته. لم أر في حياتي رجلا أكثر عزلة من محمود درويش.

أربعون سنة في المنفى تجاوزتها بأصدقاء قلائل وقراء كثيرين وضعوا لي كرسيا في قلوبهم لأرتاح من حزني وأنسى عزلتي عن دمشق ومعلولا وأمي.

لم أتألم يوما لأن بعض اعدائي لا يقرأوني فكل ما يكتبوه شتيمة لي يصل إلى حد التهريج المضحك وهذا ملهاة لم ولا آخذها بعين الإعتبار. المؤلم المأساوي هو ان أغلب الأصدقاء لا يقرأون، لا إذا مدحوا ولا إذا ذموا. وهذه فعلا مأساة مبكية. وعدم القراءة هذه مصيبة بعض المثقفين فهم يدعون أنهم لا يقرأون “لأن وقتهم لا يسمح لهم”. وهذه أكبر كذبة على الذات.

رابعا: عفة النفس الحقيقية تكون عند المقدرة والإمتناع عن موائد الحكام واما التقمص بالعفة والصيام في زمن القحط فهو كذبة على الذات وتهريج سمج. وهذا ما نعيشه اليوم من ومع معارضين يتحولون بين ليلة وضحاها لأصحاب أمر ونهي فينسون عفتهم ويتحولون لصورة كاريكاتورية عن الديكتاتور الذي ناضلوا ضده. ويقال عنهم في دمشق جملة بالغة الذكاء: وكلوه بحماية مرحاض فبرم شواربه فخرا كإبن حكومة.

ولكي لا يفهمني أحدهم خطأ او يدعي انه فهم ما لم أكتبه: لا الثورة ولا الثقافة يقوم بهما ملائكة، أنا – وبعد تفكير طويل – ضد إصدار مجلة بإسم رابطة الكتاب يمولها السيد وليد الزعبي ولست ضد إصدار مجلة خاصة تسمي نفسها “دمشق” أو “دير عطية” او “الشاغور” بتمويل الزعبي، ابدا فإذا كان الرجل يريد دعم الثورة فلما لا يدعم مجلة خاصة تباع في الأسواق او توزع مجانا وتمثل رأي هيئة تحريرها فقط. لكن لي الحق أن أحذر أن  الخبرة التاريخية تدل أن الممولين العرب ما ان يدفعوا قرشا حتى تغوص أصابعهم في جسد الوليد الجديد يمعنون فيه ضغطا وخنقا.

وبنفس الوقت تبين التجربة التاريخية  ملامح التطورات السلبية التي تصيب متلقي الدعم. ترى احدهم يصبح بعد ضمان تمويل مشروعه رجل آخر، ويا أرض إشتدي وما حدا قدي. تراه مسح كل ذاكرته عن اقواله في عفة النفس وفي إحترامه للآخرين… تراه ينسى قهره وحرمانه والظلم الذي لحق به، ويبدأ بتقمص دور جديد يتغير فيه ليس فقط ثوبه وطعامه ومشروبه، لا بل حتى وجهه الأليف سابقا إلى وجه نزق سيء الطلعة[2].

وتحضرني قصة صغيرة جميلة توضح أكثر من مجلد كامل مغزى هذا الكلام:

 كان لإسكافي أخ ناسك قديس يعيش في الجبال مناجيا ربه ومكتفيا بالأعشاب والجذور والثمار البرية، وأما الإسكافي فكان رجل حياة يعمل بجد ويرفه نفسه وعائلته قدر المستطاع ويتذوق كل ليلة كأسا من النبيذ والحب مع زوجته التي يحبها حتى العبادة.

إشتاق الناسك القديس لأخيه الإسكافي في يوم من الأيام وأحب زيارته في البلدة الصغيرة القريبة وخجل الناسك لأنه لم يملك شيئا يأخذه كهدية لأخيه بعد كل هذه السنين، عنت على باله فكرة اخذ شيئا من الماء الذي يسيل باردا عذبا من صخرة كبيرة بالقرب من كوخ الناسك، ولما كان الناسك معدما لا يملك سوى ثوبه المرقع وسلة قديمة، فلقد صلى لله أن يسمح له بحمل الماء في السلة وغرف بها من بحيرة الماء الزلال ويا للعجب إمتلأت السلة ماءً ولم تفقد قطرة واحدة عبر فتحاتها وثقوبها، فشكر الناسك بورع كرم الله وتوجه حاملا السلة بيده إلى مدينة أخيه.

دهش المارة عندما رأوا الناسك مع سلة الماء، وخر بعضهم راكعا مندهشا بهول العجيبة.

عندما وصل الناسك لمحل أخيه تعجب لكثرة الزبائن فلقد كان الإسكافي مشهورا بمرحه وتواضعه وجودة عمله وذوقه الرفيع خاصة في صنع أحذية النساء. عندما شاهد الإسكافي أخاه فرح به، قبله وقال له، دون أن يهتم بالسلة والماء، ان يذهب إلى البيت ريثما ينتهي، لكن الناسك رفض ذلك لأنه خاف من الشيطان، خشي أن يختلي بزوجة أخيه في البيت ويكون الشيطان ثالثهما، فعرض أخوه عليه ان يجلس على كرسي قرب الحائط وينتظر ريثما ينهي عمله… عما قريب، كما قال. جلس الناسك على الكرسي ولما رأى ان السلة الكبيرة تعيق حركة الزبائن علقها على مسمار كبير في الحائط فوق رأسه، وجلس يراقب الزبائن. فجأة كشفت إحدى النساء عن ساقها لتتمكن من تجريب حذاء جديد. لم تكشف المرأة ثوبها سوى عن ساقها حتى ركبتها، وكان الإسكافي مشغولا بالحذاء الجميل الذي لم يناسب حجمه قدم الإمرأة. فطلب منها أن تخلعه ليحضر لها حذاء بمقياس أكبر. ضحكت المرأة بغنج ظاهر وسحبت رجلها من الحذاء عاليا فرأى الناسك الساق وشيئا من فخذها الجميل. طرق قلبه بشدة وشعر بنار تحرق جوفه. في تلك اللحظ أنهمرت مياة السلة دفعة واحدة كشلال فوق راسه فصرخ: “يا ويلي! انا مذنب! أنا مذنب” وركض خارجا من المحل قاصدا الجبال.

ضحك اخوه الإسكافي وصاح عند عتبة الباب شامتا وشاتما: ” ليست العفة، يا أخي، بين الغِربان بل بين السيقان”.

يصيبني هذا التصرف بإحباط لسبب آخر وهو أن ترى حلم الأمس قد أمسى حطاما، حلم الأمس أن تنشأ علاقة أخرى بين الكتاب من جهة وبين الكتاب وناشريهم من جهة أخرى، علاقة إحترام متبادل وإهتمام بما يكتبه الآخرحتى لو لم يوافقنا، وان تساعد هكذا مجلة لدفع نشاطنا وحوارنا الفكري جميعا لحل المشاكل الناتجة عن الظروف السورية للثورة، لا أن نبتدع عبرها ساحات جديدة للمناطحة والمناوشة والإستفزاز تلتهم طاقتنا وتحول أبصارنا عن مسار الثورة وما تتطلبه.  حلم الأمس أمسى حطاما أن تُؤَسَس مجلات وصحف تعترف بحقوق الكتاب وتحترم ما ينتجوه. مجلة “دمشق” تبدأ – على الأقل تجاهي وتجاه صفحات سورية – بمثال سيء نعرفه من الماضي ولذلك لن تكون وطني المستقبلي. هذه ليست البداية التي تستحقها مجلة تريد تمثيل المستقبل والمساحات المحررة كما يصرح السيد نوري الجراح.

انا مثلا لو سألتني هيئة التحرير عن سماح لنشر مقال لي لقلت أن لي شرط بسيط على كل من يريد أن يعمل في هيئة التحرير حتى أوافق على العمل معها. شرطي ان يقف كل عضو في هيئة التحرير بمصداقية أمام تاريخه. وهذا لم اقرأه مثلا لا حصرا على لسان السيد إبراهيم الجبين الذي يدير تحرير المجلة.

ليس على إبراهيم الجبين ان يخجل من ماضيه، ولا حتى ان يرفض نعمة السيد وليد الزعبي عليه، فهذا كله شأنه الشخصي، لكن عليه ان يبين لنا – لفائدة الجميع، وهذا واجبه – كيف إنتقل من طفل الإعلام الأسدي المدلل والصديق العلني لضباط ومسؤولين في قمة النظام ليصبح طفل الإعلام المعارض المدلل. حتى صارهو – سبحان مغير الأحوال أو مثبتها – واسطة لبرهان غليون وجورج صبرة عند حضرة الممول الثوري ومهندس “مستقبل سوريا” وليد زعبي، كما روى نوري الجراح في مقال له نشرته صحيفة القدس  العربي[3]، وكأن التاريخ المشرف للمناضلين جورج صبرة وبرهان غليون لا يكفي وحده لإقناع المليونير الثائر الزعبي. هذه القفزة كبيرة، والله! وأنا أشك بمثل هذه التطورات المذهلة والتي لو إخترعتها كروائي لضحك الناس على مبالغاتي وشطحاتي، لكنها الحياة تأتي بالعجب وترمي هكذا قصص لجياع السوق فيلتهموها بنهم . هذا لم أخشاه قط في حياتي، لأني أعرف تقلب الزمان، لكني أخشى ان يصاب ما يقوم به إبراهيم الجبين – لسعة قفزته – بالفتاق.

هل كان حدس نوري الجراح المهني قد بين له أن جوابي على طلب إذن للنشر سيكون سؤالي المحرج له، فإختصر الطريق؟

لقد تمرست في الغناء خارج السرب لكني لم أنس حنيني ولا ليوم لأغنية مع أصدقاء، والمنفى وحش قد تجبره على الهدوء لكنه قد يدق عنقك في أية لحظة تتغافل فيها عن خطره. ليس هناك إلا قلة، انا لست منها، التي تختار طوعيا الغناء خارج السرب أو تختار المنفى طوعا، لكنها الحياة التي تتطلب موقفا منا قد يكلفنا حياتنا او حريتنا أو عزلتنا. أتى قراري بالغناء خارج السرب كنتيجة منطقية للظروف التي مررت بها وليس كبطولة أو ترفع على الآخرين، لكني عشت عبر هذا الموقف الذي إتخذته عدائية غريبة وتجاهلا ممعن في الغباء ليس فقط من النظام، بل من كثيرين ممن يسمون انفسهم معارضين له. شيء غريب عجيب فعلا، لم يزدني إلا إصرار على موقفي فقاطعت كل تهريجات مهرجاناتهم ذات الخمس والأربع نجوم وأهتممت بعملي الصعب فعلا. هناك أشخاص يظل ضميرهم نظيفا مهما فعلوا لأنهم لا يستعملوه إطلاقا. هؤلاء اتحاشاهم قدر المستطاع.

 ولكي أطمئن أعدائي: هذا الموقف انقذني من عزلة مميتة وانا سعيد بحياتي على هذا المنوال.

انا اسامح هيئة التحرير والسيد نوري الجراح لكني لا اريد إطلاقا ان تنشر مجلة “دمشق” أي شيء لي مادامت تتعامل بهذا الشكل مع الكتاب. التسامح الثوري كما اشرت في مقال لي[4] (رجاء مراجعته في صفحات سورية وعدم سرقته) لا يعني اللامبالاة، بل هو أكثر إلتزاما وإلزاما من أي ثأر، إنه عضد الديمقراطية بينما الثأر والتآمر بسرية الفرق الدينية وإحتقار حقوق الآخر مقوض للديمقراطية ومعادي للحرية.

مطلع آذار 2013

يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه المداخلة في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية



[1]  أنظر حديثي المفصل عن أسباب تقهقر إهتمام الآخرين بثقافتنا في كتابي ” قرعة جرس لكائن جميل”

[2] هنا أنصح كل من يستطيع ذلك قراءة نقد هادي العلوي العفيف النفس للمثقفين العرب.

[3]  أنظر مقال نوري الجراح: لا أحد يمول ‘رابطة الكتاب السوريين’ وبيت مالها فارغ!  حول ذمتها المالية (ردا على خليل النعيمي في مقاله إنني أتساءل) القدس العربي 25.10.2012 وهذا رابطها: http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C25qpt898.htm&arc=data%5C2012%5C10%5C10-25%5C25qpt898.htm

[4]  في التسامح الثوري والثأر المعادي للثورة، صقحات سورية 25. فبراير 2013 وهذا رابطها: https://syria.alsafahat.net/?p=32761

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أربعون سنة في المنفى تجاوزتها بأصدقاء قلائل وقراء كثيرين وضعوا لي كرسيا في قلوبهم لأرتاح من حزني وأنسى عزلتي عن دمشق ومعلولا وأمي.
    (حوناي) كتبت لك تعقيبا علي مقالك (في التسامح الثوري والثأر المعادي للثورة)تجد لاحقا بالاسفل اعادة له وانتهيت للقول بانني اتهم صمت المعارضين عن ما يجري في معلولا على يد متشابهي السيرة بالسيد الجبين مثلا لكن بعد ان قرأت هذه المقالة شعرت بان علي ان اعتذرمنك لقد لامست مشكلة شخصية وانسانية في مجتمعنا الذي تعرفه(التجاهل الساحق لوجود الاخروهو اصعب انواع العنف المؤهب لاستئصال الاخرجسديا)هذه الجملة التي ذكرتها بتعقيبي السابق انهم لايرونا واذا تذكرونا حينئذ يوقظون ملاك الموت وحراس المقابر لينتهوا من هؤلاء الاغيارلذا ارجو ان تاخذ بعين الاعتبار لماذا عف مواطنوك واحبابك في معلولا وغيرها عن الانخراط لانها مبكرا اندفعت ودفعت لممارسات ذكرتنا بما نعانيه يوميا(التجاهل الساحق لوجود الاخر)وعند السؤال مذا سنفعل بعدئذ سيكون الجواب«عندما تنجح الثورة ويسقط النظام ونصل إلى السلطة، نفكر في الأمر»والله امكر الماكرين
    واليك تعليقي السابق على مقالك سابق الذكر
    -اتمنى لو تدري ما يجري في معلولا الان ان المعارضة الإسلامية المسلحة اللذين تعرفهم اكثر مني يخطفون ويقتلون ويهجرون الفقراء والضعفاء والمهانون دوما تلك الكتل من البشر التي تموت بصمت ان استلم اليمين او اليسار العلمانيون او الاسلاميون لو تعلم ايها الارامي التائه في المانيا ماذا يجري لبقايا نتف ذلك الشعب المسالم العظيم الذي خلده التاريخ ليس بلغته فحسب لكن بكونه اول شعب يحل سياسة استيعاب الشعوب الاخرى بدل سياسة >الحرم<اي قتل الشعوب المغلوبة نحن نموت بصمت في معلولا تماما مثل 1943-1925-1860-1851-1743-1725-1514-1291- 758-685-635 الخ
    آن الأوان للمعارضة غير الإسلامية أن تبلور رؤيتها لمستقبل سوريا وان تميزه تمييزاً واضحا عن المعارضة الإسلامية.وتقترح مبادئ ودستور يتوافق مع شرعة حقوق الانسان من غير المقنع القول: «عندما تنجح الثورة ويسقط النظام ونصل إلى السلطة، نفكر في الأمر»وعندها تظهر تعابير الدولة المدنية ودولة المدينة وحقوق الانسان المسلم. أتمنى أن تستفيد من كم الدروس التي نراها في الثورات الأخرى، وأن تبتكر طريقة لتأمين حقوق الأفراد بناءً على حكم الأكثرية السياسية وليس الطائفية ولأخذ حقوق الجماعات والأقليات بالاعتبار في آن معاً. لا مهرب من هذه الاستحقاقات. وغير صحيح بالمرة أن ننكر وجود مسألة طائفية في سوريا لمجرد أنها كانت مكبوتة ومدفونة بالإنكار والادعاء العلماني. أضف إلى ذلك أن الحرب والقتال والعنف وولّادة هويات وعصبيات قاتلة وبعد كل فنون وجنون الانظمة لاتستطيع ان تغبر بالنهاية صباط عنف الاكثريات المغطى سلفا بالتجاهل الساحق لوجود الاخروهو اصعب انواع العنف المؤهب لاستئصال الاخرجسديا.والتجربة العراقية بأمثولتها واضحة. طائفة عوقبت جماعيا بجريرة نظام، فلجأ بعض أهلها، من عسكريين وغير عسكريين، إلى القتال بكل الطرق، وأحياناً أبشعها، للردّ على التهميش والعقاب الجماعي. هذا درس آخر للأخذ بعين الاعتبار.ولكن لماذا يقتلنا في معلولا من تفترضهم ثوار في معلولا يعاقبون من؟ التجاهل الساحق لوجود الاخروهو اصعب انواع العنف المؤهب لاستئصال الاخرجسديا اؤكد لك انه هذه المرة سيجهزون علينا نحن فقراء الجبل بكل الطبل والزمر الثورجي قل لي هل تستطيع ان تفعل لنا شيئا -اني اتهم

اترك رداً على ELIAN إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى