صفحات الناسوليد بركسية

في “الإخبارية” السورية: الماسونية والوهابية سبب “خريف العرب”

 

 

وليد بركسية

“إلى كل من ضل طريقه فسار في درب الخراب، أو الفوضى الخلاقة كما سمّتها هيلاري كلينتون، لعل الربيع العربي الأصيل يشرق حقاً فيمحو خريفهم الدموي”. ليست جملة في مقطع ساخر مع تعبيرات إيمائية مضحكة، مثلما يبدو للوهلة الأولى، بل هو الإهداء الذي انتهى به الفيلم الوثائقي “ذلك الخريف” بشكل كوميدي بحت.

الفيلم المذكور هو الإنتاج الجديد لقناة “الإخبارية السورية” الرسمية، والذي بثته مطلع الأسبوع الحالي، في إطار تحليلها الهيتشكوكي الفذ لأحداث لربيع العربي في المنطقة ككل، مقدمة طرحاً تقليدياً في إطار أدبيات “الممانعة” الكلاسيكية.

وبطريقة سحرية، تصبح “أوتوبور” هي الماسونية والصهيونية والمخابرات الأميركية والوهابية والإرهاب التكفيري في وقت واحد! وتتشابك الأسماء ضمن تلك الرمزية دون ربط منطقي، لا يمكن أبداً فهم الانتقال العشوائي في التسميات التي يستخدمها الفيلم طوال دقائقه الأربعين. المهم، كما اتضح، هو تلميع صورة الدكتاتوريات العربية المختارة بأي شكل كان.

الحديث عن النظام السوري قليل في الفيلم. فالنظام السوري المنزه، يبقى بكل تأكيد بعيداً عن الصورة، حيث لا تصح مقارنته بنظرائه السابقين في المنطقة. أما كل ما جرى من عنف في البلاد، فهو بفعل “قناصة إسرائيليين” وجهاديين مهاجرين لتشويه صورة الجيش العربي السوري. وكل من تفوه بكلمة “حرية التعبير” بأي لغة فهو بكل تأكيد خائن وعميل وبأفضل الحالات “مغرر به”.

الخيال الخصب في الفيلم يجعله أقرب للدراما منه للتوثيق، وهو ما يلاحظ في البداية عند الحديث عن محمد البوعزيزي. فهناك التقنيات الهوليودية والشهادات من الإعلام الحليف التي “تؤكد” وجود قصة مختلفة عما تم تداوله في “الإعلام المغرض”. وهنا يلعب الفيلم دور شيرلوك هولمز منزوع القوى لتقديم الحقيقة للجمهور! المضحك في الموضوع ان تلك الحقيقة يتم تأجيلها بشكل علني ولا يتم العودة إليها مطلقاً.

الفيلم كورنولوجي بسيط، يعتمد على الأرشيف فقط، ومقسم لأجزاء حسب أماكن حدوث الثورات العربية بالتسلسل الزمني، قبل أن يعود بشكل مقتضب لتقديم خلفية بسيطة عن أحداث 11 أيلول والحرب على العراق لدعم فكرة “المؤامرة الخارجية”. فالشعوب العربية، برأي المعدين، أقل من أن تتطلع لحياة ديمقراطية من تلقاء نفسها!

يقدم الفيلم وعوداً بكشف “حقائق خطيرة” لأول مرة لكنه لا يرتقي لتحقيقها. ينتقل من فكرة إلى أخرى باقتضاب، بدون طرح موثق أو دقيق، كما هو معتاد من الإعلام السوري “الممتلك للحقيقة دوماً”! فنرى الأفكار تتدفق خلال الفيلم على أنها وقائع فعلية ومسلمات على المشاهد تصديقها دون جدال، وإلا كان خائناً للوطن الأم، هي الدكتاتورية الإعلامية التي لم يتخل عنها الإعلام السوري طوال عقود.

في السياق، يجمع الفيلم أحداث الربيع العربي بدءاً من تونس، مروراً بمصر وليبيا ثم سوريا،  رابطاً اياها بأجندات خارجية هدفها “تحقيق الهيمنة الأميركية”. الجديد هذه المرة هو تقديم الثورات الشعبية في المنطقة على أنها امتداداً لحركة “أوتوبور” الصربية التي أطاحت بالديكتاتور الصربي السابق سلوفودان ميلوسوفيتش أواخر القرن الماضي.

يخصص الفيلم وقتاً طويلاً للحديث عن “أوتوبور”، ورغم اعترافه بأنها حركة سلمية تطرح فكرة “المقاومة اللاعنفية”، والتي انتقل رمزها ليشكل رمزاً موحداً للثورات السلمية حول الكوكب، إلا أن الفيلم يصور التجربة الصربية على أنها انقلاباً لصالح الغرب، ويدافع بشراسة عن الأنظمة الدكتاتورية المختلفة في كل من صربيا وفنزويلا وإيران، ويدس أنفه في شؤون دول مثل جورجيا وأوكرانيا وجزر المالديف، وصولاً لـ”الدكتاتوريات” العربية التي يعطيها الحق في استخدام العنف للدفاع عن شرعيتها، وهي سقطة أخلاقية أخرى في الفيلم.

لتمرير هذه الأفكار، يعتمد الفيلم حوارات وأفلام أخرى تتناول الموضوع نفسه، لكن اجتزاء الحديث من سياقه، يبدو واضحاً عبر المونتاج الرديء، لتعزيز فكرة “المؤامرة” الخارجية التي مل المشاهدون من سماعها طوال هذه السنوات. وهنا تظهر ضحالة الفيلم بتقديمه رؤوس الأفكار دون التعمق فيها، مع تكرار العموميات.

لا يبدو واضحاً متى سيتخلى الإعلام السوري الرسمي عن عجرفته واستغبائه المشاهدين،  فاجترار الذات عبر النوستالجيا والبكاء على الأطلال بطريقة مثيرة للشفقة على الشاشات الرسمية بات مملاً، والخطاب القائم على تبرير العنف وسياسة التخوين أمر لا أخلاقي في العرف الإعلامي، كل ذلك يأتينا في إطار سياسة الشحن العاطفي ضد “أعداء الدولة السورية” والتلاعب بالألفاظ في سياق بروباغندا الممانعة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى