راتب شعبوصفحات مميزة

في الاستعصاء السوري


    راتب شعبو

 ما كان لأكثر العقول جرأة في التفاؤل أن يتصوّر حجم هذه الطاقة وديمومتها لدى الشعب السوري الذي يضع نظاماً من أعتى الأنظمة في العالم في حالة دفاع عن النفس وتراجع مستمر. النظام الذي كان يبدو قبل بدء الثورة السورية من أكثر الأنظمة استقراراً وثباتاً، بات اليوم على رأس أجندة التغيير في العالم بفعل هذه الثورة التي أذهلت الجميع، أنصاراً وأعداءً. في يد واحدة جمعت الثورة السورية بين البداهة والاستحالة. بين بداهة الحق واستحالته. بداهة حق الشعب في أن تكون له كلمة أو مشورة في شؤونه، واستحالة نهوض هذا الشعب موحَّداً بعد عقود من العمل الدؤوب على تذريره وتقطيع أواصره المدنية وجعل العلاقة الوحيدة المتاحة هي علاقة الفرد بالسلطة عبر إطارات جاهزة ومعدّة لصنع الولاء والطاعة وإنتاج الرأي الواحد. غير أن بداهة الحق الذي ثار له السوريون، جعلت عقول الكثير من سياسيي الثورة ومثقفيها تستريح عن محاولة فهم سبب تردد بعض المثقفين (المستقلين وحتى المعارضين السابقين) وتقاعسهم عن دعم الثورة. ومنعتهم تالياً من فهم مواقف كتل بشرية غير قليلة (الأقليات، ولاسيما العلويون، إضافة إلى نسبة من السنّة) أحجمت عن الانخراط في الثورة. وقد أثار تلكؤ هؤلاء وعدم اندماجهم بالثورة، الغيظ لدى مثقفي الثورة أكثر من التفكير. واكتظت الصحف وصفحات النت بكتابات نارية تنتقد مثقفين وتتهمهم وتخوّنهم، بعدما كان يؤمل منهم الدعم لا النقد والتشكيك. في البداية لم يكن في الأمر كثير غرابة، لكن الغرابة تجلت لاحقاً في أن رد الفعل هذا لم يهدأ ولم يتعقلن مع الوقت ومع تطورات الثورة، ثم في أن التهجم طاول جماعات بشرية واسعة وهو أمر يجافي المنطق السليم ويدنو من النزق المزمن والطفولة والاستسهال الذي يميل بصاحبه إلى التصنيف وفق مقاسات جاهزة بدلاً من التحليل والبحث في الأسباب. ولا يزال  النزق هو العنصر الأبرز في النشاط السياسي الفكري المواكب للثورة.

لم يهدأ “عقل الثورة” بما يسمح له بالتأمل في أسئلة مثل: لماذا يحجم قطاع غير قليل من السوريين الفقراء والمضطهدين عن المشاركة في الثورة؟ هل تصلح الخلفية الطائفية تفسيراً لهذا الأمر؟ ولماذا يحجب العامل الطائفي، ولاسيما أننا في زمن ثورة، العامل الطبقي والإنساني؟ أين تكمن العلة؟ لماذا يقف مثقفون لهم تاريخ معارض، ومنهم من دفع من حياته وأمنه وأمن عائلته ولقمة عيشها في نشاطه المعارض للنظام الديكتاتوري السوري، موقفاً متردداً أو مضاداً للثورة؟ وكيف حدث أن توحد القسم الأكبر من طوائف، كانت منبعاً للنشاط السياسي المعارض للنظام، ضد الثورة؟ ما هي أسباب هذا التحول وكيف يمكن معالجتها؟ هل تتحمل الثورة في خطابها ومسالكها وأنشطتها المختلفة دوراً في هذا الإحجام؟ وهل يخدم التهجم والتهديد والاتهام (المنطق الأكثر استخداماً تجاه هذا الموضوع) في فك ارتباط هذه الجماعات مع النظام؟

لم يكن “عقل الثورة” جاهزاً للتفكير في هذه الأسئلة، أولاً لأنه ممتلئ بصوابيته ومشروعيته إلى حد يأنف من مجرد الجدال في ذلك. وثانياً لأن شدة بطش النظام وفظاعة أساليبه كانت تنسف دائماً أي أرض يمكن أن تقف عليها محاججة من هذا النوع. والحق إن المسار الدموي المتصاعد ومشاهد القتل والتشريد والدمار من شأنها أن تشل العقل وتخجله عن مساءلة الضحية عما يمكن أن تكون قد ارتكبت من أخطاء. غير أن ذلك لم يمنع تكامل عناصر ظاهرة جديدة يمكن تسميتها ظاهرة “المعارضة الموالية “. كثيرون ممن يناصبون الثورة العداء، يعارضون النظام الفاسد والديكتاتوري ويستطردون ويزيدون عليك في وصف مساوئ النظام، لكنهم يلتحقون بالنظام لأنه الشر الأهون إذا ما قيس بحكم جماعات يرونها وهّابية طالبانية طائفية تابعة للسعودية وقطر وما إلى ذلك. ومع الوقت يتحول هؤلاء في امتلائهم بصوابيتهم وإيمانهم بتحليلهم، كتلة صماء على النقاش، ولاسيما بعدما ظهرت في الثورة ألوان التطرف الإسلامي والعنف “القاعدي” وانحدر شكل الصراع ومنطوقه إلى ما يشبه الصراع العاري على السلطة. وقد زاد من تعقيد اللوحة دخول الأطراف الإقليميين والدوليين بما يشوه صورة الثورة ويجعلها تبدو كأداة في يد قوى لا علاقة لها بالثورة ولا بمعناها أصلاً.

لم يكن اللجوء إلى السلاح خياراً للثورة السورية بل كان بالأحرى قدراً لها، غير أن العقل المواكب للثورة لم يكن على مستوى هذا التحدي الصعب. وأخفق في أن يكون الأنا العليا للثورة التي تضبط شططها وتعقلنها وتحميها من شرور الطريق. وإذا كان طريق السلاح محفوفاً بمنزلقات الخطأ والتجاوزات التي يمكن أن تصل إلى حد الإجرام، فإن سياسيي الثورة اختاروا، في الغالب الأعم، طريق التبرير والتقليل من أهمية التجاوزات هذه، محيلين الجمهور على فظاعة ما يرتكبه النظام (الناس ليسوا ملائكة) وعلى محدودية ما ترتكبه الثورة من تجاوزات قياساً على ما يرتكبه النظام. وإذا كان غرض هذه المقاربة التبريرية أن لا تستعدي أحداً ممن يتحملون الجهد العسكري في مواجهة النظام، فإنها استوت على الصعيد نفسه مع مقاربة سياسيي النظام في مواكبتهم التبريرية لجرائمه وبطشه الفاحش، ما حرم الجمهور من أن يتلمس فارقاً نوعياً بين الخطابين. وقد انعكس هذا مزيداً من اغتراب كتلة واسعة من الناس عن الثورة.

لا يغفل هذا النقد عن حقائق صلبة ساهمت في منع تشكل مركز سياسي ذي وزن يجمع بين دعم السلاح ونقده، ويحفر لنفسه مكانة تتمتع بالصدق والموضوعية بحيث يُركن إليها من العموم وليس من الأنصار فقط. ولعل أهم هذه الحقائق على الإطلاق استقلال السلاح عن الجهات السياسية بما يجعل هذه الأخيرة تابعة له فلا تجرؤ على نقده مخافة أن تفقد ما بات يشكل في الواقع مصدر قوتها.

قد يكون هذا من أهم أسس الاستعصاء الذي وصل إليه الوضع في سوريا. انقسام حاد في رؤية ما يجري، وانكفاء خطاب الثورة إلى خطاب يتوجه إلى أنصار أكثر مما يتوجه إلى عموم الشعب، مما يجعل اليد العليا للسلاح والقوة العسكرية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى