صفحات الثقافة

في البدء كان الشعر!


أمجد ناصر

عندما يكتب شاعر رواية فليس ذلك هروباً من الشعر. فالشعر بوسعه أن يتخلل أنواعاً كتابية عدة من بينها الكتابة الروائية أو القصصية، الأمر، والحال، يتعلق برغبة في توسيع حدود التعبير، أو حتى لمجرد التنويع في مدونة الشاعر الكتابية. لقد عاش العالم طويلاً من دون رواية ولكنه عرف الشعر باكراً. أعني روح الشعر وليس بالضرورة ما تواضعنا عليه من أشكال صارت خاصة بالشعر وحده. الشعر، حسب ظني، هو أصل التلفظ الأدبي. أي في البدء كان الشعر. الرواية، كما نعرف، جاءت لاحقاً.. ففيما يصعب تحديد بدء أول للشعر يمكن لنا، على نحو أو آخر، ردَّ الرواية إلى زمن ورواد.

هناك أمران حدثا في الشعر والرواية عندنا، وربما عند غيرنا. فقد تغير شكل الشعر وتغيرت صورته واجراءاته اللغوية والكتابية منذ وقت طويل، تحديداً منذ مجيء قصيدة النثر، كما أن الرواية راحت توسع حدودها وتنأى عن كونها وعاء حكائياً فقط. هذا يعني أن القصيدة اقتربت، مع مجيء قصيدة النثر تحديداً، من السرد والقص كما أن الرواية، الحديثة خصوصا، مالت الى فعل الكتابة من ميلها السابق الى الحكاية أو الحدوتة. وفي فعل الكتابة يمكن توقع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمل في مصائر الانسان في زمن استفحال القوة والمال والتكنولوجيا والحروب.

‘ ‘ ‘

وأظل، هنا، مع الشاعر الذي يكتب رواية، لكي أقول إنه يسحب معه لغته الى النص الروائي، كما يحدث مع أي شكل كتابي يتصدى له. ليست هناك لغتان للكاتب: واحدة للشعر وأخرى للنثر، رغم الاختلاف الاجناسي بين الفنين. هذا يعني أن لغة الشاعر في الرواية مشدودة أكثر، وربما مكثفة أيضاً. الاقتضاب سمة الشعر عموماً فهو يعمل على ضغط العالم في حيِّز لغوي وتعبيري محدود. هذا، في ظني، يفيد الرواية التي تعاني عند كثير من الروائيين العرب من الترهل والثرثرة اللغوية إن لم يكن من الركاكة. اللغة أساس في الرواية مثلما هي أساس في الشعر. وسيط الشاعر هو اللغة وكذلك الأمر بالنسبة للروائي. فلا يمكن تقديم المادة الحكائية، أو السردية، بوسيط آخر غير اللغة. يحدث هذا في السينما التي لها لغة بصرية. ولكني لا أتحدث هنا عن السينما بل عن الأدب الذي هو ابن اللغة. كما أزعم أن الشاعر يقدم للرواية تصوراً مختلفا للعالم. إنه تصور قادم من البعد الحلمي للشعر. ولكن هذا لا يعني مماهاة الشعر بالرواية. فهناك، رغم كل محاولات محو الحدود بين الأجناس الأدبية، خصائص للجنس الأدبي واشتراطات واعتبارات طالعة منه. فالرواية رغم أنها ابنة اللغة، وقد تشترك مع القصيدة في بعض الشروط الأدبية، غير أنها مختلفة عن القصيدة سواء في البنية أو في الاجراءات السردية أو في استضافتها الشخوص والأمكنة والأحداث.

ليس للأمر علاقة بمنسوب الشعرية ولا بفائضها. فإن كانت هناك شعرية في الرواية فهي تأتي، على الأغلب، من الانضباط اللغوي والسردي وهذا عكس الثرثرة اللغوية والصور الطائشة والمجازات المرسلة على عواهنها التي تتوسل الشعر في غير موضعه. لكن لغة الرواية ليست بالضرورة هي نثر النثر كما يذهب بعض الكتاب والنقاد مفرقين بين لغتين واحدة للشعر وأخرى للرواية. ورغم انني لا اعرف ما هو نثر النثر إلا ان اقتراح اطار لغوي كهذا للرواية هو نوع من تحديد اطار حاكم لجنس أدبي يوسع اطاره باستمرار ولا يمكن حصره باستراتيجية لغوية واحدة.

‘ ‘ ‘

يُتهم الشاعر الذي يكتب رواية (عندنا فقط!) أنه يجترح سيرة ذاتية مقنَّعة. لكن فهمي للسيرة الذاتية يقول إن هذا العمل الأدبي يُعنى، على نحو واضح، بالحقيقة أو بالواقع الفعلي الشخصي أو العام، الذي قد يجري عليه مجرى الصدق أو الكذب، أو قد يحاكم بهما ويقاس بما يملكان من اشتراطات. ولكن بما أن ليست للرواية وصفة واحدة يحدث أن تكون هناك روايات مبنية على السيرة الذاتية أو على شظايا متناثرة منها. هناك كتاب جعلوا حياتهم مداراً لكتابتهم السردية (الروائية) أمثال مارسيل بروست، هنري ميلر، انسين نين، وفي العربية محمد شكري. ينطرح، هنا، مرة أخرى تداخل الحدود الأدبية، وبطلان الوصفات الحاسمة، فنرى أن تلك الأعمال محسوبة على السرد الروائي أكثر مما هي محسوبة على السيرة الذاتية الصرف.

ليست المصادر الأولى للعمل الروائي مهمة في حد ذاتها. فسواء كانت قادمة من الشخص ذاته، خبرته، أو مخيلته، أو حتى من التاريخ المُعطى، فالمهم هو أن تحقق الرواية نفسها في حيّز جنسها.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى