رشا عمرانصفحات سورية

في التابوهات الثلاثة/ رشا عمران

 

 

لم تختلف سورية كثيراً عن غيرها من بلدان المشرق العربي ودول العالم الثالث، من حيث عدم قدرة أفراد مجتمعها على اختراق التابوهات الثلاثة (الدين والجنس والسياسة)، فإن ارتبط تابو السياسة بشكل مباشر وعلني بمنظومة الاستبداد والدولة الأمنية، فقد عمم تابوا الدين والجنس ليصبحا حالة مجتمعية لم ينج منها إلا قلة، محركهما الخفي هو المنظومة الاستبدادية الأمنية نفسها، بتحالفاتها المجتمعية مع طبقة رجال الدين، بطوائفهم ومذاهبهم المختلفة. ومع طبقة مثقفي السلطة الذين انخرطوا في مؤسسات ثقافية رسمية، ومارسوا دور الرقيب الأمني والأخلاقي على الإبداع أولاً، وعلى المبدعين أنفسهم، يتذكّر المعنيون بالشأن الثقافي حكايات عديدة عن دور اتحاد الكتاب العرب الرقابي، ومنعه كتباً عديدة من الطباعة أو التداول، بذريعة المساس بأخلاق المجتمع، أو الإساءة للذات الإلهية، أو المساس بهيبة الدولة! يتذكّرون أيضاً رفضه قبول عضوية كثيرين من أهم كتاب سورية، بذريعة معارضتهم السلطة.

يتذكّر المهتمون والمعنيون كيف منعت لوحات تصور نساء عاريات من العرض في المعرض السنوي لفناني سورية، بذريعة مناهضتها الأخلاق السائدة، بعد أن منع طلاب كلية الفنون الجميلة، قبل سنوات، من استخدام الموديل الحي في الكلية. ولا يُنسى كيف تم، رقابياً، إيقاف عرض (طقوس الإشارات والتحولات) للراحل سعد الله ونوس، بسبب الإساءة لرجال الدين أو المفتي، بحسب وزارة الثقافة. وتدخلت، يوماً، دار الإفتاء، عبر نائبة رئيس الجمهورية، لمنع شاعر سوري من النشر في الجرائد الرسمية، بسبب قصيدة نشرت له في ملحق صحيفة تشرين الثقافي، قيل وقتها إنها متهتكة وتحرّض على الفجور. يومها، شارك مثقفون كثيرون في الحملة ضد الشاعر، سواء بالكتابة في الجرائد، أو في شتائم علنية، أو في مزاحٍ كان يخفي استعلاءً وتطهراً أخلاقياً مجتمعياً بخلفية دينية أصولية مضمرة.

ما هو الوضع بعد انطلاق الثورة؟ وبعد العدد الهائل من الضحايا؟ وبعد المقتلة اليومية التي امتدت لتنال من جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم؟ ثمّة تابو واحد سقط نهائياً، هو السياسة. سقط بشكل مريع، مسبباً انفجاراً هائلاً في رغبة السوريين المكبوتة منذ زمن للخوض في هذا الشأن. لم يعد ثمة هيبة لكل ما يتعلق بالسياسة. الجميع يمكنه أن يكون محللاً سياسياً، والجميع يمكنه أن يتناول ما يشاء من شؤون السياسة، لم يعد ثمة رمز سياسي يُعتد به، الكل يتم الفتك به، حتى الوطن السياسي سقط، وحل محله الحلم بوطن بديل حقيقي أو متخيّل. في المقابل، ثمّة تصاعد بالتمسك بالتابو الديني، ففي مقابل أصوات ليست كثيرة، وليست قليلة أيضاً، بدأت بنقاش موضوع الدين علناً، شكلت هذه الأصوات صدمة عنيفة لدى الغالبية التي لم تستطع، حتى الآن، تقبل فكرة نقد المقدس، صدمة جعلت من ردة فعلها بالغة في العنف اللفظي الذي يكاد يوازي العنف المادي لدى التنظيمات الجهادية التكفيرية.

يمكن التبرير بما تعرضت له هذه الأغلبية من عنفٍ جسدي، مصحوباً بإهانات متعمدة لمقدساتها، على أن صدمة نقد المقدس ستنتج ردود أفعال عنيفة حتماً، وهو ما ينطبق على تابو الجنس، فمن نتائج الحروب، لا سيما ذات الطابع الأهلي، التطرّف في كل شيء. وفي مقابل التطرف الديني هناك التطرف في السلوك الفردي، وفي العلاقة مع الجسد وفي الإفصاح عن حرية الجسد والعلاقات الجنسية، وكما الإلحاد العلني ونقد المقدس ما زال محصوراً بفئات محددة، كذلك التصريح بالحرية الجسدية، بحيث يشبه المعلنون عن الحالتين الانتحاريين، إذ يضعون سمعتهم الشخصية وسمعة عوائلهم في مهب الشتائم والتحقير والتكفير، وحتى التهديد بالتصفية والقتل.

كرّست منظومة الاستبداد التابوهات الثلاثة، أسقطت الثورة أحدها، وتحاول الآن إسقاط الباقييْن، لن يكون بسهولة إسقاط الأول، ولن يتحقق هذا من دون شرط الديمقراطية والمواطنة وفصل الدين عن الحياة السياسية واحترام الحقوق المدنية العامة والحريات الفردية، وهو ما احتاجت أوروبا عقوداً طويلة وحروباً متتالية حتى حققته.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى