صفحات الرأي

في التحوّلات الرقمية…/ إبراهيم غرايبة

 

 

ثمّة تحوّلات كبرى وجذرية في الأسواق والأعمال، ناشئة عن “التحولات الرقمية”، تبدو حتى اليوم منشئةً للفوضى وفقدان الموارد وزيادة الفجوة بين الأمم والدول، وبين الفقراء والأغنياء في الدولة الواحدة، وتأتي بأغنياء جدد وفقراء جدد أيضاً، ولا تبدو الوعود المنطقية في الرخاء والازدهار الناشئين عن “الرقمنة/ الحوسبة” تلقائيةً، وثمّة شكوك تحيط بها.

يقصد بـ “التحولات الرقمية” التحولات الاقتصادية والاجتماعية الناشئة عن الحوسبة والتشبيك ومتوالياتهما في التكنولوجيا والأعمال، وخصوصاً في العولمة والتصغير والهندسة الحيوية ومحاكاة الإنسان “الروبتة”، وعلى الرغم من كثرة (وتكرار) الحديث والكتابة والدراسات والتحليلات في هذا الشأن، ما زالت الأفكار الناشئة عن التحولات، ومحاولة فهمها، غامضة جدلية، وأسوأ من ذلك أنها لم تنشئ في عالم العرب جدلاً إيجابياً وكافياً للاهتمام، والاستجابة للتحديات والفرص الناشئة،.. ليس سوى الاحتجاج والتذمر، وكأن الحوسبة والعولمة يمكن التصدّي لهما، أو منعهما، بدلاً من توظيفهما واستثمارهما،.. وفي ذلك، تتضاعف الخسائر، ويزيد هدر الوقت والجهد. ويعتبر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، جوزيف ستيغليتز، أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الثلاثينيات، ثم الحرب العالمية الثانية، أنشأت أفكاراً اقتصادية مهمة، تصلح للاسترجاع والدراسة في الأزمة الحاضرة، والقائمة اليوم،.. ويقصد ستيغليتز ما قدمه كارل بولانيي، في أوائل الاربعينيات، من دراسات وتصورات مهمة للعلاج والمراجعة، وخصوصاً كتابه “الأصول السياسية والاقتصادية لزماننا المعاصر”. وبالطبع، إنها ليست اجابات مباشرة أو صالحة للتطبيق من غير تعديل، أو إعادة فهم، في ظل اختلاف التحولات، لكن التحولات، بما هي كذلك، تتشابه في متوالياتها وفهمها أيضاً، مهما اختلفت محركاتها والموارد والتقنيات المنشئة لها.

برأي ستيغليتز، أهم طروحات بولانيي أن فكرة التنظيم الذاتي للسوق فاشلة، واليوم (يقول ستيغليتز) لم يعد يوجد أي تأييد فكري محترم لفكرة أن الأسواق، بحد ذاتها، يمكن أن تؤدي إلى نتائج فعالة، ولا عادلة. وهناك اليوم إجماع عام على أهمية تنظيم الحكومة الأسواق المالية. ولكن، ثمة خلاف على أفضل الطرق للقيام بذلك.

ويؤكد بولانيي على العلاقة المتبادلة بين مذاهب سوق العمالة الحرة والسوق الحرة والآلية

“تطور نظام السوق يصحبه تغيّر في تنظيم المجتمع نفسه، فأصبح المجتمع الإنساني ملحقاً بالنظام الاقتصادي” المالية للتنظيم الذاتي القائم على معيار الذهب. ولكن، من المؤكد اليوم أن اقتصاد التنظيم الذاتي لا يعمل بالمستوى الجيد الذي يرغب أنصاره أن نؤمن به. حتى صندوق النقد الدولي المؤمن بنظام السوق الحرة، وهو منظمة تتدخّل بانتظام في أسواق سعر الصرف، فتؤمن الأموال، لإخراج الدائنين الأجانب، في الوقت الذي تسعى فيه إلى رفع أسعار الفائدة المرابية التي تؤدي بالشركات المحلية إلى الإفلاس.

ويؤكد بولانيي على العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، وكيفية تأثير النظم الاقتصادية على علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ونتحدث اليوم عن رأس المال الاجتماعي. ويلاحظ أيضا تداخل السياسة والاقتصاد ببعضهما تداخلاً معقداً، فالفاشية والشيوعية لم تكونا أنظمة اقتصادية بديلة فقط، بل كانتا تمثلان خروجاً مهماً عن تقاليد السوق الحرة. ولكن، يقول بولانيي، الفاشية مثل الاشتراكية تأصلت في مجتمع السوق الذي رفض أن يقوم بدوره، فكانت فترة الذروة بالنسبة إلى العقائد التحرّرية الجديدة هي على الأغلب بين 1990 – 1997 بعد سقوط جدار برلين، وقبل حدوث الأزمة المالية العالمية.

ويناقش بولانيي الحرية في مجتمع معقد. ولسوء الحظ، كما يقول ستيغليتز، فإن خرافة الاقتصاد ذي التنظيم الذاتي لا تمثل توازناً لهذه الحريات، لأن الفقراء يعانون من شعورٍ أكبر بعدم الاستقرار، وفي بعض البلدان، ارتفع عدد الفقراء، وعند هؤلاء توجد حرية أقل، وتحرّر أقل من الجوع والخوف.

حلت الرأسمالية، كما يقول بولانيي، من دون إعلانٍ عن نفسها. ولم يطرح أحد نبوءةً عن الصناعة التي تستخدم الآلات، فقد جاءت مفاجأة للجميع. وكانت الأسواق، قبل زماننا، تشكل جزءاً ثانوياً من الحياة الاقتصادية، وكان النظام الاقتصادي مدمجاً بالنظام الاجتماعي، ولم تكن السوق ذاتية التنظيم معروفة. وفي الحقيقة، كانت فكرة التنظيم الذاتي للسوق تحولاً كاملاً عن تيار التطور المألوف. وفي ضوء هذه الحقائق فقط، يمكن، برأي بولانيي، فهم الافتراضات الاستثنائية التي يتضمنها اقتصاد السوق.

ويمكن قول الأمر نفسه كيف حلت الحوسبة من دون إعلان ومن دون توقع كاف أيضاً، ونتذكّر جميعنا، أو معظمنا، كيف كانت مقولات التحولات في السلطة والموارد والعلاقات الناشئة عن الحوسبة ومتوالياتها تثير السخرية، وحتى في الربيع العربي ومفاجآته لم تدرس التأثيرات والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية للتكنولوجيا الرقمية على نحو كاف لفهم التحديات والاستجابة.

في المرحلة الصناعية، امتدت آلية السوق إلى عناصر الإنتاج؛ اليد العاملة والأرض والمال، وكانت النتيجة الحتمية لدخول نظام المصنع في المجتمع التجاري أن تكون عناصر الإنتاج معروضةً للبيع، وبما أن أصحاب الأيدي العاملة ليسوا أرباب عمل، بل هم مستخدمون، فيتبع ذلك أن تنظيم اليد العاملة هو تعبير آخر عن أشكال حياة العامة من الناس، فهذا يعني أن تطور نظام السوق يصحبه تغيّر في تنظيم المجتمع نفسه، فأصبح المجتمع الإنساني ملحقاً بالنظام الاقتصادي. ولكن، من أين أتى هؤلاء الفقراء، على الرغم من الوعود القائمة والمحتملة للآلة؟

السؤال نفسه الذي نسأله اليوم شغل المفكرين في القرن الثامن عشر، عندما بدأت الآلة تأخذ مكانها في العمل والإنتاج والسوق، وقد تساعدنا إجابات جون كينز وكارل ماركس وآدم سميت وإميل دوركايم وماكس فيبر، .. لكنها ليست كافية، ولسوء أو حسن الحظ، فإن الناس جميعهم اليوم يواجهون التحدّي، وواجب البحث عن سؤال.. ولربما يكون لدى أحدهم، من غير توقع مسبق، إجابة مميزة تساعد العالم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى